تعانق غاليري "أوروبيا" أربعة وعشرين عملًا فنيًّا طازجًا للنحات والرسام السوري المهاجر، علاء أبو شاهين، خرجت لتوّها من محترف - كاراج هذا الرائد التعبيري الشاب (من مواليد 1982 في دمشق)، وأحد أعمدة "التعبيرية المحدثة" التي توالدت خصائصها خلال العقدين الأخيرين، وخاصة من رحم أحداث الحرب الأهلية، التي رسمت قدر غربته مثل زملاء جيله في باريس هربًا من القصف الأعمى والإبادة الجماعية وحصار الأخضر واليابس والطفل والمرأة والعجائز والمستضعفين من الأحياء، بما فيهم الحمير رمز الريف وعرقه ومعاناة تأمين لقمة عيشه، تمامًا كما شهدنا في الإعلام كيف يتسلى بقتلهم الجماعي في ظاهر الحقول والضياع مرتزقة شذاذو آفاق.

معرض ليس كبقية المعارض، فحشوده من الحمير والقبضايات وتتفوّق إثارة طفولية جارحة على موضوعه المركزي الملتبس: الحمار وما تثيره رمزيته من تعارض وتناقض ما بين الراكب والمركوب وبالعكس. تترسخ حيرته الساخرة من تعددية مواده، هي التي تتراوح ما بين تقنية تصوير الأكريليك على ورق الكرافيك وأنواع نحت الملصقات ما بين النفايات الورقية والمستهلكات الطباعية وصب البرونز، ويقع نحت الحمار ما بين ثنويّة الأبيض والأسود، يتورّم رأسه ويتضخم كما هي رؤوس تعذيب الموقوفين قبل دفنهم أحياء.

لا يخلو حمار أبو شاهين - برغم ما يحمله من أسى نكبات القيامة الشامية - من سخرية وعبث قدريّ ماجن، وضحك هذياني همودي كابوسي بركاني وفق المقولة الشعبية: "وشرّ البلية ما يضحك" . تتحالف في هذا المقام شوارب عنترة الدمشقي (أبو قاعود) العملاقة والمعكوفة مثل مقود الدراجة، سليل عرائس خيمة كراكوز وعواظ التي استمرت رغم المنع العثماني حتى الستينيات (آخرها في جزيرة أرواد المعزولة) وبالتالي سليلة العضو الذكوري الفحل والمعارض الأيديولوجي الوحيد في وجه السلطان ونيرون الذي أحرق روما.

من هذا العالم الشيطاني الإبليسي المتجبّر، تتناهى إلى سمع المتفرج قهقهات الجلّاد والضحية معًا في خليط متعارض يُعنْون المعرض بالفرنسية "تشويشاً" أو تماهياً مختلطاً، يتداخل فيه الحق بالباطل والجد بالهزل.

"حمار الحكيم"

يبدو تواتر نحت الحمار الكوميدي الساخر في المعرض وكأنه سلسلة حميمة من التهكم الوجودي، يذكرنا بـ"حمار الحكيم" الذي كتب مسرحه الذهني توفيق الحكيم، كما يذكرنا بالفارس الإسباني الأرعن دونكيشوت ومرافقه القزم على الحمار كما صورهما مرات عديدة بيكاسو.

لوحات علاء أبو شاهين​

ترجع صبوة أبو شاهين في نحت المجتمع الحيواني الساخر والمرمز إلى استهلالاته النحتية في دمشق (متخرّج من كليّة فنونها عام 2006 قسم النحت) سليلة عوالم "كليلة ودمنة" التي ترجمها منذ القرن الثامن للميلاد ابن المقفع عن بيدبا الهندي، فكانت أول مثال على أدب الحيوان وأنسنته بالمجازات البعيدة والإلماحات السلطوية. لكنّه ابتدأ بمختبره المعدني بالملصقات البرونزية والفولاذية عام 2015 م بتأثير تقنيات سيزار وملصقاته المختلطة.

افتُتح المعرض منذ أواسط شهر كانون الثاني/يناير(استهلت الصالة بعرضه العام الجديد 2018) مستمرًا حتى النصف الثاني من شهر شباط/فبراير الحالي، سيعقبه مباشرة معرض الحفّار والمصوّر ياسر الصافي والذي خرج (مثل أبو شاهين جاره) من جرمانا في ظاهر دمشق إثر قصف منزله ومحترفه. لعلّه من الجدير بالذكر أن ياسر الصافي يمثّل رأس تيار ما بعد الثورة السورية الذي دعوت مدرسة باقته بـ"التعبيرية المحدثة" المتزامنة مع صعود جورج بازلتز في ألمانيا مقرّ الصافي، وبصورة أدق هو التيار الذي أعقب جيلين تعبيريين في سورية: يرتبط الأول بالمرحوم فاتح المدرّس والثاني بيوسف عبدلكي. وها نحن اليوم نشهد التيار الشاب المرتبط بنكبة الثورة مكتملًا تعرضنا سابقًا لمعارض بعضهم من أمثال وليد المصري ومحمد عمران وزهير دباغ ومنهل عيسى وإبراهيم برغوت وقبلهم فادي يازجي ويوسف عبدلكي، وتكتمل اليوم هذه العائلة بمعرض أبو شاهين ثم الصافي.

تجمعني مع بعضهم علاقة عريقة مثل يوسف عبدلكي وياسر الصافي ووليد المصري وتعرّفت على البقية من خلال معارضهم في باريس، فقد صادف أن طالعت لأول مرة منحوتات أبو شاهين في صالة لبنانية بارزة يديرها روي صفير في حي السان جرمان. عثرت في معروضات صالته على منحوتتين قزمتين لحمارين بتقنية مختلطة لأبو شاهين أثارتا انتباهي وأغبطني إطراء مدير الغاليري لهما. وها نحن اليوم نلتقي مع نجوم حميره بالجملة في معرض اليوم.

لوحات علاء أبو شاهين​

وافقني عندما التقيته في الغاليري السورية - الفرنسية "أوروبيا" المختصة بهذه الباقة الشابة بأن "الحكمة والمعرفة لو كانتا كميّة لأصبحت ضخامة رأس الحمار رمزًا للفلسفة". ألم أخبركم بأن "شر البلية ما يضحك" خاصة ما يثير ضحك الأطفال الذين تعلمنا من رسومهم الذكية الكثير؟