}

فرنسا تكرم يوسف شاهين في الذكرى العاشرة لرحيله

بوعلام رمضاني 10 ديسمبر 2018

لا يعد أمر تكريم المخرج السينمائي الراحل يوسف شاهين (1926-2008) في باريس تخليدا للذكرى العاشرة لرحيله مفاجأة، كان من المنتظر أن تطل علينا السينماتيك الفرنسية بمعرض نوعي عن هذا الفنان المصري الذي عاش يمجد بلد الأنوار والحريات ، ويتعاون مع أكبر وأهم رموزه، ويعطي وهجا خاصا لحضوره في مناسبات سينمائية وغير سينمائية، كما تجلى ذلك في معظم محطات المعرض الذي تحتضنه العاصمة الفرنسية منذ الرابع عشر من الشهر المنصرم ولغاية الثامن والعشرين من يونيو القادم.

إحقاقا للحق وبعيدا عن كل تأويل فكري ضيق، لا يمكن القول في الوقت نفسه إن المعرض "مكافأة إيديولوجية" في المطلق لصاحب الشخصية الفنية المثيرة للإعجاب والباعثة على التساؤل والمرادفة للجدل إلى غير ذلك من الأوصاف والتهم المجانية التي أطلقت على مبدع أفلام تراوحت جودتها الفنية من فيلم لآخر لكنها دخلت تاريخ الفن السابع المصري من بابه العريض لما أضافته من لمسات إبداعية جسدها الراحل أمام ومن وراء كاميرا ليست ككل الكاميرات، ولعل اعتباره الوحيد الذي صور كوكب الشرق أم كلثوم تغني بفستانها الوردي البديع بحس إخراجي كبير تصب في خانة أصحاب الأحكام الموضوعية المجردة من كل أنواع التمذهب الإيديولوجي.

والأمل والحياة

 يستقبل الطابق الثاني زائر المعرض في جو فني ساحر تفسره الإضاءة الخافتة والخلفية اللونية الحمراء والسطور الناصعة بالبياض والصوت الكلثومي الآتي من عمق قاعة المعرض ليؤكد أن الزائر جاء ليعيش زمنا فنيا قد لا يجود به التاريخ الفني مجددا كما يعتقد الكثيرون. وبعد اصطدامه عنوة في المدرج المؤدي إلى الطابق الثاني بوجوه سينمائية كبيرة خلدت تاريخ سينما شاهين من الممثلين والممثلات والمطربين والمطربات، ومن بينهم داليدا ابنة الإسكندرية مثله والتي احتلت صدارة الصورة بشكل غير بريء ومستحق، وعمر الشريف ورفيقة عمره فاتن حمامة، وفريد شوقي وشاديا ويسرا، يجد نفسه قبالة الكلمة الترحيبية التي تفسر سبب ومغزى المعرض الذي لم يكن الجمهور المنتظر على موعد معه ساعة تواجدنا رفقة زائر واحد فقط. والسؤال الذي يفرض نفسه في هذا السياق هو: "لماذا لم يُقدّم المعرض في معهد العالم العربي بالتنسيق مع السينماتيك الفرنسية تجسيدا لهوية المخرج الموزعة بين مصر وفرنسا وضمانا لإقبال كبير يفرضه موقع المعهد وسمعته خلافا لموقع السينماتيك المعزول باريسيا والنخبوي؟".

نقرأ في المدخل البديع: "إنشادا لروح الحياة، وتقديرا وتكريما لواحد من عمالقة الفن السابع، يحتفي السينماتيك الفرنسي (أي المتحف) بالمخرج الراحل يوسف شاهين بعرض مجموعة من أعماله وبعض أرشيفاته. من خلال ذلك الإسكندراني أولا والمصري ثانيا، والمواطن العالمي خاصة، كانت حياة شاهين ثرية ومتعددة الاهتمامات، وسينماه على مفترق طرق الثقافات وترنيمة للحب والأمل والحياة. يشمل معرض يوسف شاهين أهم النقاط في حياة المخرج المصري منذ بداياته مع الأفلام الموسيقية مرورا بالتزامه بقيمة الإنسان وعلاقاته المضطربة مع الأنظمة الحاكمة وصولا إلى الاعتراف الدولي بعمله. لقد منحتنا الأرشيفات المحفوظة بالسينماتيك الفرنسي فرصة للغوص في عملية خلق فردية قصد كشف الغطاء عن تأثرات شاهين ففهم معتقداته وتصور تطلعاته على النحو الذي يساعدنا على قراءة أفضل لعالمه الفني. في وقت أصبح فيه اللاتفاهم والتعصب وارتفاع الشعبوية متفشيا، تأتي أفلام شاهين كدعوة مفتوحة لحوار بين الثقافات. وهي بارقة أمل، يد ممدودة من الإنسان إلى الإنسان".

الرقص هو شعر الحركة

وشعار المرحلة الأولى

حكاية الراحل شاهين مع الرقص المُجسّد لمرحلة (شكلت استسهالا تناقض لاحقا مع التزامه السياسي وتصريحه بأن كل فيلم سياسي حتما) لم تنتظر الزائر في الطابق الثاني، وتجلت له شامخة أمام جدار كامل من الصور العاكسة لأكثر من راقصة وحتى باب النجدة لم يسلم منها، ووحدها ليلى مراد احتلت حيزا معتبرا إلى درجة كادت أن تغطي على اللغة الفرنسية التي تفيد بأن الباب هو الذي يمكّن الزائر من الخروج بسرعة في حال نشوب حريق شريطة عدم البقاء متسمرا مطولا أمام الفاتنة مراد. وتحت شعار "الرقص هو شعر الحركة"، عرضت مرحلة أفلام شاهين الموسيقية بعد أن أخرج فيلمه الأول "بابا أمين" في بداية الخمسينيات عندما كان عمره يناهز الرابعة والعشرين وقدم يومها من خلاله فاتن حمامة في سن التاسعة عشرة وصاحبة رصيد 25 فيلما آنذاك. بعدها بسبع سنوات أخرج فيلم "إنت حبيبي" مع ديو نجوم الأغنية شادية وفريد الأطرش. في تلك الفترة زاد الراحل من خصوصية انطلاقته بتقديمه على طبق من ذهب النجم الشاب الوسيم عمر الشريف (اسمه الحقيقي ميشيل شلهوب ) في سياق الميلودراما التي اكتسحت الساحة السينمائية يومها، وتألق الزوج اللاحق للنجمة فاتن حمامة في أفلام عاطفية ملحمية عكست لقطات حب خرافية لا تختلف في قوتها التعبيرية عن مثيلاتها العالمية. ولعل لقاء الزوجين السينمائي والشخصي في اليم والبر متعانقين ومنتشيين بلذة الحب في فيلمي "صراع في الوادي" (1954) و"صراع في الميناء" (1956) عنوان مرحلة نقشت في قلوب العشاق المتيمين للأبد، وعرض اللقطتين عبر شاشة كبيرة تعلو طاولة صور الزوجين الخرافيين كان قمة تأثير منتظر ومطلوب، لأنه لم يكن من الطبيعي أن يستمر شاهين المتحرر الذي يتنفس السياسة والإيديولوجيا بوجه عام في تقديم آهات العشاق وعري الصدور وهز البطون في عز تحولات بلده المصيرية، وكان لا بد له من أن ينخرط في مسار التحديات السياسية الكبرى وأن يتفاعل معها على طريقته، فكان لزاما عليه الظهور بوجه سينمائي جديد يقطع الصلة بزمن الحب والرقص والغناء اعتمادا على رموز لم ينقصها الجمال الأخاذ والأداء الساحر جسديا وصوتيا وتمثيليا بوجه عام وخاصة حينما يتعلق الأمر بساحرة متفردة اسمها فاتن حمامة.

"باب الحديد" أو شاهين

الممثل والمتمرد الخارق

محطة خاصة تميز مسار المعرض انطلاقا من نهاية الخمسينيات التي عرفت ولادة شاهين الملتزم السياسي والإجتماعي والسيكولوجي إن جاز التعبير، تجسدت فعليا من خلال فيلم "باب الحديد" (1958) الذي حقق إجماعا نقديا وصنف ضمن أقوى وأجمل أفلام السينما الواقعية عربيا وعالميا. شاهين الذي تسلى لسنوات متقمصا دور "الميكافيلي الفني الظرفي" قبل أن يستيقظ من سبات العشق والغرام الممزوجين بالألم والأمل، أضحى فنانا جديدا غير مسبوق بعد إخراجه "باب الحديد" وإصراره على أداء دور قناوي القاتل المصاب بهوس العشق والمدافع عن العاهرة في حلة درامية محبوكة بدقة متناهية والمندد فرويديا بالتغطية على الكبت الجنسي في خطوة أولى مهدت لصراعه مع المتشددين الدينيين من كل صوب وحدب كما بينت ذلك أعماله اللاحقة. وبغض النظر عن الموقف الديني والأخلاقي من الطرح الشاهيني وبالشكل الذي قدمه، يمكن القول إن ظهور شاهين ماسكا السكين وملطخا بالدماء على السكة الحديدية في شكل "مجنون يعي ما يفعل" عصارة أداء تراجيدي نادر وهو نفسه الأداء النادر لحظة ابتسامته ورقصه في محطة القطار بهندام كوميدي وبقبعة يعتقد أن الرصاص قد اخترقها دون أن يصيب صاحبها. وتعمقت لاحقا مسيرة شاهين مع الالتزام السياسي بصفة واضحة ومباشرة بعد اصطدامه (كما جاء في مسار تقديم المعرض) بجمال عبد الناصر إثر تأميمه صناعة السينما في بداية الستينيات وتمويله أفلاما تمجيدية بميزانيات ضخمة، وهذا ما حدث مع فيلم "صلاح الدين" (1963) الذي كلف شاهين بتقديمه اعتمادا على تقنية الشاشة الكبيرة لأول مرة في مصر. وحدث ما لم يرض شاهين حسب محتوى شروحات المعرض حينما منع فيلم "النيل والحياة"، الذي يحتفي بالسد العالي، نتيجة اعتراض الحكومة على رؤية المخرج الراحل. لم يتوقف الأمر على ذلك حسب المصدر المذكور وأجبر على إخراج الفيلم ثانية عام 1972 تحت اسم "الناس والنيل"، وتم إتلاف نيجاتيف الفيلم الأصلي بعد أن تمكن شاهين من إيصال النسخة الأصلية إلى هنري لانغلوا، مؤسس ومدير السينماتيك الفرنسية التي رممتها عام 1999.

نكسة 67 أو ثلاثية الهزيمة

تعمقت أهمية شخصية شاهين السينمائية بشكل أكبر في مرحلة لاحقة من مسار المعرض، وشكلت نكسة 67 منعرجا جديدا غير مسبوق، وجسدت ثلاثية أفلام الهزيمة "الأرض" و"العصفور" و"عودة الابن الضال" نقطة تحول مركزية لم تغير من محاولات تفرده مقارنة بسينمائيين مصريين آخرين، الأمر الذي أكد أكثر من أي وقت مضى خصوصيته الفكرية والفنية التي كانت وبقيت دوما مثار خلاف وجدل وأخذ ورد.

غطى المعرض نكسة 67 من خلال ملصقات ثلاثية الهزيمة وأرشيف السيناريوهات ولقطات الشاشات الصغيرة التي ظهر فيها شاهين يتحدث عن مفهومه للالتزام في سياق إخراج الأفلام المذكورة واللاحقة التي تسببت في ضجات سياسية وإعلامية كان أبطالها من أنصار وأعداء المخرج الذي عاش يدافع عن قيم بدت للبعض مرادفة للتغريب والإستلاب والتبعية وإنسانية وحداثية تخدم الإنسان أينما كان في نظر آخرين. ولعل ذلك هو ما دفع إدارة السينماتيك الفرنسية إلى إبراز الشهادات والجوائز العربية والدولية التي تحصل عليها اعترافا بإضافاته الفنية وبخدمته فرنسا التي رافقته وساعدته طيلة مشواره الفني وربط مع مسؤوليها ومثقفيها علاقات خاصة مكنته من سمعة لا يطالها التشكيك أسوة بمبدعين عرب آخرين كثر يعتبرون باريس منبع وموطن الأنوار والجمال والحرية. وظف شاهين توجهه وقناعاته بجرأة متجددة في سيرته الذاتية من خلال رباعية أفلام "إسكندريه ليه" و"حدوتة مصرية" و"إسكندريه كمان وكمان" و"إسكندريه نيويورك"، وكشفت هذه الرباعية عن الجرعة الزائدة في مسار جرأة وحرية شاهين بطريقة كرست قربه إلى غرب راح يغدق عليه الجوائز وعالم عربي وإسلامي متوجس منه بل ومعاد له في كثير من الأحيان على المستوى الشعبي. وكما كان متوقعا لم تمر الإيحاءات المثلية في الفيلم الأول مرور الكرام في مجتمع محافظ رغم صدقه مع نفسه وتوجهه الذي ما فتئ يغذيه حتى آخر نفس من حياته، ومنع الفيلم في عدد غير قليل من البدان العربية والإسلامية.

شاهين المقاوم

والوفي لفرنسا

شاهين المقاوم والوفي لتوجهه بقي شامخا ومثابرا ومصرا على المضي برسائله المثيرة للإعجاب والسخط أكثر من أي وقت مضى، وظهوره مدافعا في المحكمة عن فيلمه "المصير" (1997) إلى جانب مثقفين تقدميين من أمثال محمود أمين العالم حلقة جديدة في مسار مقاومته للتزمت الديني، كما رآه ممثلا في مصريين وعرب من بعض المسلمين والمسيحيين الذين يرفضون الرأي الآخر ويحاربون حرية المعتقد والرأي كما تجلى في لقطة المعارض الذي رد على المفكر العالم: "الفن الذي يسئ للدين نقطعه من جذوره"، احتجاجا على استلهام سيرة النبي يوسف. وبعناده المشهود يكون شاهين قد خلد تقدميا مثله ألا وهو الراحل الروائي الجزائري الكبير الطاهر وطار، مؤسس جمعية الجاحظية الثقافية الصامدة منذ رحيله.

أبرز المعرض قبل نهاية مساره خصوصية سينمائي ليس كالآخرين من خلال ملصقات وشاشات وصور آخرى احتوتها الطاولات الزجاجية والواجهات المغلقة، الأمر الذي يمكن الزائر من التمتع أكثر فأكثر بلحظات فرجة مشرعة على عبق فصل حضاري يتجاوز الحيز السينمائي الضيق بحكم تشابك وتفاوت وتداخل عناصر شاهين على الصعيدين الشخصي والفني. والمخرج الذي رفض التوبة أو الاعتذار، كما كان يتمنى أعداؤه، كرس قناعاته الفكرية وتأثراته السينمائية في أفلام أخرى أقل جودة وإثارة موظفا الموسيقى والرقص كواجهة للنضال وكتكتيك فني، ولم يكن فوزه بالجائزة التقديرية في مهرجان كان الفرنسي الأشهر عالميا مفاجأة لأحد وخاصة بالنسبة لخصومه الذين يقارنونه بالحاصلين على جائزة نوبل. واستمر تمتع الزائر المحايد فكريا والمولع بالسينما كفن ساحر لحظة الوقوف عند أزياء وأكسسورات أفلام شاهين وصوره مع نجوم خلدت مسيرة الفن العربي ومن بينها صورة فيروز التي مثلت تحت إدارته في فيلم "بياع الخواتم" وفيديوهات غناء وتمثيل محمد منير وداليدا ويسرا ومحمود المليجي وليلى علوي والأكبر منهم ومنهن جميعا كوكب الشرق السيدة أم كلثوم التي سيطرت على المعرض بصوتها الذي يتجاوز كل الإيديولوجيات.

وشاهين الذي عظمه أنصاره كان صاحب نبوءة إلى حد ما في تقديرهم، وبعد أن نبه إلى خطر التزمت الديني في فيلم "المصير" تنبأ في تصورهم بالربيع العربي في فيلمه "هي فوضى" قبل وفاته بثلاث سنوات عام 2008 بالتعاون مع خالد يوسف، والشعب الجزائري يذكر دائما أن فيلمه عن جميلة بوحيرد (1958) كان بمثابة نبوءة فنان يحترم النساء بوجه عام والبطلات الثوريات مثل جميلة بوجه خاص.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.