قد يكون منير الشعراني (من مواليد ١٩٥٢) من أبرز معلمي الخط العرب الباقين اليوم. هو أحد مريدي القطب بدوي الديراني ووريث دكان خطوطه، هي التي كان يقصدها القاصي والداني في حي باب الجابية، الموغل في عراقته الدمشقية. كان توأمه ورفيق عمره يوسف عبدلكي درس بدوره على نفس الكرسي القش ثم ذهب كلّ في درب توجهه الفني. جمعتهما الإقامة بين مدينة القيامة الشامية والمنفى ما بين القاهرة وباريس وتونس. هذا من جهة، لكنه أيضًا وفي نفس الوقت يعتبر من أشد الحروفيين التشكيليين شهرة. هو ما يثير العجب والإعجاب (من جهة أخرى)، لأن الحروفيين غالبًا ما يتباهون بأميتهم المطلقة في الأصول المتوارثة لطرز الخط وتجويده وخصوبة أنواعه.

من النادر إذًا أن تجتمع ثقافة التصميم التخطيطي بتقاليده التصوفية العمودية المتراكمة عبر أجيال (بأسراره الحرفية الباطنية، بأنواع قصباته وأقلامه، وتراكيب مداده وكاغده) وانخراطه بالمقابل في حداثة التشكيلات الراقصة في توقيع الفراغ. ناهيك عن التواصل الروحي البرزخي المتوسط الذي يوحّد هذه الكائنات الكرافيكية (ونقاطها التي تمثل وحدتها القياسية المفردة le module) وبالتالي توقيعها وموسقة مقاماتها اللونية المساحية ببعدين مسطحين، بما يغبط العين والقلب بتقاسيم بصرية – سمعية رهيفة، تتصل بألحان أجراس «أشجار الجنة» (وفق رموز الرومي).

 توّج المعرض عنوان «إيقاعات خطية»، مستمرًا خلال شهر ديسمبر الراهن من العام ٢٠١٨م (في غاليري أوربيا في باريس).

بما أني شغوف بمعارض منير الشعراني لا أفوت فرصة لمتابعة أعماله مهما كانت (شاركت مرة في ندوة لدراسة الجانب الصوفي في أسلوبه واختيار عباراته) وأقول إن المعرض الراهن أشدّها بلاغة ووحدة فكرية وحرفية، وذلك ابتداءً من اختيار قياس اللوحات المناسب لحدود الصالة ورحابة واجهتها المطلة على «قبّة الأنفاليد» (أحد المعالم الرئيسية في العاصمة)، هي أقرب إلى تواضع قياس صفحة الورق في المخطوطات منها إلى قياس اللوحات التشكيلية المعاصرة الرحبة، يقرب عددها من العشرين (وبسينوغرافية محكمة دون أدنى تزاحم أو منافسة بصرية). أغلبها أصول وحيدة النسخة وبعضها طباعة على الشاشة الحرير (مرقم النسخ).

لعلّ أبرز ما تتسم به المجموعة الضبط في تشكيلاتها (لعلاقة الامتلاء بالفراغ، غالبًا الأسود)، ثمّ وهو الأهم استلهامها جملةً وتفصيلًا من أحابيل طراز «الكوفي المربع» المتاهي، بحيث تبدو باقة اللوحات وكأنها سلسلة تنوعات لنفس الطراز الخطي هو الذي تحوّل إلى وحدة كرافيكية ذات حساسية معاصرة، رغم تجذر ذاكرة هذا الطراز المعماري المتميز، وذلك باعتماده في العبارة على الإلماح أكثر من التصريح، وعلى حرية التنزيه والتجريد أكثر من تبيان قراءتها، لذلك اضطرّ لكتابة العبارة واضحة بصيغة مبتسرة إلى جانب اللوحة.

البعد الروحي

كأني به يخرج من صفة الكلام والتبيان في حروف اللغة المحكية أو المكتوبة ليتقمص طوبوغرافية النوطة التجريدية المنزهة عن سيميولوجية المعنى، والتحول من المضمون التواصلي إلى الاستبطان التشكيلي والميل باتجاه التيه الشطحي: الوجداني – الوجودي – الوجدي. أي إلى بصيرة وسماعي القلب (الحدس البرغسوني) في المفهوم الصوفي والحديث.

لو راجعنا ثنائية البصر والبصيرة لأبي حامد الغزالي (في كتابه الذي يحمل نفس العنوان)، وتأملنا مقام الحيرة التي تتراوح لدى ابن عربي بين الشك واليقين (في فصوص الحكم)، لأدركنا المغزى الذوقي لسعي صنّاع الفن العربي الإسلامي (فنون الرقش والأرابسك ورسوم المخطوطات وطرز نسخها) في تقصّي المخادعات البصرية الوهمية الكرافيكية وأكاذيبها ومخاتلاتها التي تخدع البصر دون البصيرة، من أمثلتها الكثيرة نوافذ المشربيات الخشبية التي تسمح بالرؤيا من الداخل وتمنعها من الخارج، وكذلك الشمسيات (من الزجاج المعشّق)، ثم المقرنصات التي يتلاعب نحتها الملتبس بين المقعر والمحدب، ثم باللون المعاكس الأحمر المتقدم في المقعر والأزرق المتراجع في القسم المحدب من الحويصلة. بعض نماذج الديواني تتطاول ذؤابات الحرف وتتوازى بصيغة موجيّة، تقف عند عتبة التباس الامتلاء بالفواصل الفارغة. تتناوب الأدوار كما تتناوب المربعات السوداء مع البيضاء في منصّة رقعة الشطرنج أو الزيلليج أو الفسيفساء. ناهيك عن ألاعيب الانعكاس المشكاتي، وعلاقتها بمعادلات الدرجة الأولى من الجبر والمقابلة (الخوارزمي) إذا بدلنا وسطي المعادلة بطرفيها نحافظ على التكافؤ، ونتجنّب التكرار أو التناظر.

لعلّ أعقد هذه الأمثلة الملتبسة إدراكيًا هو طراز الكوفي المربع الذي نحن بصدد استلهام كامل لوحات المعرض من نسقه. لا شك في أن منير الشعراني أشد حساسية تجاه الطرز الكتابية القابلة للتحديث وعلى رأسها هذا المثال الذي كان يطبق في المخطوطات وعمائر البرك والبحرات وبعض طرز المحاريب (التي درسها بول كلي بتأن بحثي، لذلك حفظت في اليونسكو). لا بد هنا من ذكر «مدرسة الباوهاوس» التي كان كلي أحد أقطاب مدرسيها مع كاندينسكي وسواه، يقودنا ذكرها بالتداعي إلى أبرز فنان من الجيل الثاني من باوهاوس فرع بودابست وهو فكتور فازاريللي (تلميذ موهولي ناجي) والمقيم في فرنسا.

إن إيراد اسم الفنان فازاريللي ليس بريئًا، لأنه استخدم في جدارية كبيرة (سبعة أمتار بثلاثة) معدنية معلقة على واجهة جامعة بون نفس نسق طراز الكوفي المربع مقرًا بهذه الاستعارة الصريحة لي شخصيًا لما كان يجمعنا من معرفة، خاصة بحثية. فازاريللي كان أسبق من منير الشعراني في اكتشاف طاقة «السينيتيك» في هذا الطراز المتاهي، الفرق بين الاثنين يشابه الفرق بين الاستشراق والشرق، منير أعاد كتابة هذه المخاتلات بحساسيته كفنان خطاط وليد نفس الثقافة الذوقية التنزيهية. وبالعكس فإن فازاريللي حوّل الشكل إلى مختبر معلوماتي قابل للأداء من قبل أكثر من منفذ، بل قد يكون مساعدوه في مؤسسته هم الذين عثروا عليه وأعادوا تنفيذه وصياغته ثم إن الفرق بين ثقافة منير الصوفية وفازاريللي الباوهاوسية متقاطعة لكنها متباعدة، فالباوهاوس تأثروا بهذا الالتباس الكرافيكي عمومًا بفلسفة الغشتالت أو الكليات، هي الفلسفة الألمانية التي وصل تأثيرها هايدجر، تؤكد بأن طبيعة الإدراك الفيزيائي في العين لا تترجم الكليات والجزئيات في آن واحد. أي أننا لا يمكن أن ندرك تفاصيل الخروف الواحد في حال كان إمعاننا منصبًا على كامل القطيع.

إذًا هناك أشكال متقاربة ومستعارة أحيانا من الرقش والأرابسك، لكنّها تختلف في أرضيتها الثقافية والفكرية، لكنّ شمولية ثقافة منير تحيط بالطرفين، بدليل اجتماع الثقافتين الصوفية والعلمانية في مساحة إبداعه. يعرف هو أكثر من سواه بأن مصطلح الحروفية ترجع ملكيته الصوفية إلى تاريخ بعيد بانتسابه إلى النسيمي (قبره في حلب يزوره أهالي بلده من أذربيجان)، وقد نجد بعض أصول هذا المصطلح في علوم الجفر الخاصة بالأعداد والكلمات، لكن الحروفية الدهمائية عمليًا ما هي إلا اجترار للوحات التجريد الغنائي الفرنسي على غرار السلوك الاستعراضي لفرشاة جورج ماتيو، في حين أن لوحات منير شعراني بالغة النخبوية والفرادة والمثاقفة، وتحتاج إلى ذائقة مدربة على البعد الروحي في فنون الشرق والغرب معًا.