}

"من قتل أسمهان؟":عرض مسرحي فلسطيني يسترجع زمن الإبداع

يوسف الشايب 5 نوفمبر 2018
مسرح "من قتل أسمهان؟":عرض مسرحي فلسطيني يسترجع زمن الإبداع
مشهد من "من قتل أسمهان؟"

منذ زمن لم يقف الجمهور في رام الله طوابير لحضور عمل مسرحي، لكن هذا ما حدث، مؤخرًا، في قصر رام الله الثقافي، بانتظار فتح البوابات الداخلية للعبور نحو المسرح، حيث انتظم العرض الأخير في مهرجان فلسطين الوطني للمسرح، قبل ليلة من إعلان النتائج، وهو عرض "من قتل أسمهان؟" للمسرح الوطني الفلسطيني (الحكواتي) في القدس، من تأليف وإخراج وسينوغرافيا نزار الزعبي، فيما اضطلعت الفلسطينية الأميركية سمر كينغ حداد بمهمة تصميم الحركة، وأبدع على الخشبة الممثلون: عزت النتشة، ومنى حوا، ونضال الجعبة، وإيفان أرازيان، ومحمد الباشا، وفراس سواح.

لم يخب أمل الجمهور، فكان العرض المنتظر على مستوى التوقعات، وربما يزيد، على حد تعبير الكثير، فلم تغص القاعة التي تتسع لقرابة الألف متفرج بالمتدافعين على المقاعد فحسب، بل أيضًا غصت بشغف استعادة المسرح الفلسطيني عبر هذا المهرجان الذي حظي بحضور جماهيري كسر الصورة السائدة بالعزوف عن المسرح، كما غصت بدهشة كانت أكبر من مساحة فغر الأفواه.

ولا يبدو هذا مستغربًا لمن تابع مسيرة المخرج الزعبي، وفريق العمل المرافق له، فسمر كينغ حداد من أهم مصممات الحركة في العالم، وهي التي أبهرت الجمهور الأميركي بعديد أعمالها، حيث تقيم فلسطينية الأصل، وهو ما ينطبق على حبيب شحادة في الموسيقى والمؤثرات الصوتية، ورمزي الشيخ قاسم وعماد سمارة في تصميم وتنفيذ الإضاءة، ومحمد عطا الله في الملابس، والقائمة تطول، فيما كان عزت النتشة (المحقق) اكتشافًا مدهشًا لفنان بارع لقبه جمهور العرض بـ"شابلن فلسطين"، والأمر ذاته ينطبق على صاحبة الصوت الأسمهاني منى حوا، وبقية الممثلين.

وكان لافتًا أن هذا العمل هو الوحيد الذي يغرد خارج الجغرافيا الفلسطينية في مهرجان فلسطين الوطني للمسرح، وإن حط رحاله فيها لبعض الوقت كما أسمهان، التي حطت لأكثر من مرة في القدس، وحيفا، وغيرهما من المدن التي كانت تشكل حواضر ثقافية بامتياز، ليبحث عن نص ترجمه عامر حليحل، في لغز يتواصل لأكثر من سبعة عقود حول مقتل المطربة اسمهان، أو الأميرة آمال الأطرش.

وحاز العمل على أربع جوائز من أصل ست في المهرجان، ثلاث منها لنزار زعبي: أفضل إخراج، وأفضل تأليف، وأفضل سينوغرافيا، والرابعة لمنى حوا التي فازت بجائزة أفضل ممثلة، فيما نوهت لجنة تحكيم المهرجان بالأداء المميز لعزت النتشة.

تحليل العمل على المستوى البصري والفني يحتاج إلى الكثير من المساحة بموازاة مساحة الإبداع على مستوى التجديد لجهة الديكور المتحرك، والربط الذكي بين الشخصيات والجغرافيات المتعددة ما بين القدس، والقاهرة، وجبل الدروز في سورية، وبريطانيا، وفرنسا، وغيرها، عبر شخصية المحقق التي قدمها باقتدار الفنان عزت النتشة، فيما كانت لمساحات الغناء والأداء لمنى حوا، وجسدت دور أسمهان، إضافة مهمة لا يمكن تجاهلها، أما على صعيد تحريك الممثلين فالحديث طويل، ويكفي هنا الإشارة إلى الظهور المفاجئ واللافت لها كل مرة، فتارة تخرج من وعاء الطعام على طاولة الملك، ومرة أخرى من برواز صورة لها في غرفة سائقها، وثالثة على دراجة هوائية يشدها أحدهم بحبل، لتصعد في مشهد آخر فوق السفينة الحلم، أو فوق السحاب محاطًا بملائكة مفترضين.

 ويمكنني الحديث هنا عن بعض الكشوفات في النص بخصوص أسمهان، التي انتهى العرض بعد تسعين دقيقة من المتعة المتدفقة ولم ينته لغز مقتلها، ففي البداية توجهت الشكوك نحو سائقها، فأرملها، فالملكة الأم لكون عشيق الأخيرة بدأ يشعر بانجذاب كبير بفعل مغناطيسية أسمهان، فيما لم تغب أم كلثوم عن الدائرة، كما حال المخابرات البريطانية والفرنسية كعميلة مزدوجة مفترضة لكل منهما.. لكن الكل هنا يبقى بريئًا ومتهمًا في ذات الوقت، كما يبقى في النهاية راسخًا عرض فلسطيني لجهة الإنتاج، عربي الموضوع والهوية واللهجات، وعالمي المستوى والتكنيك والأداء.

إسقاطات سياسية

المسرحية البوليسية الكوميدية الغنائية لم تخل من إسقاطات سياسية، بعضها لا يحتاج للكثير من التأويل، كتلك المشاهد التي تعترض فيها جماعة من "الإخوان المسلمين" المحقق تطالبه بالتحقيق معها، وعدم تهميشها لكونها جهة الاتهام الأولى في الجرائم الكبرى كهذه، وإن كانت تنفي جملة وتفصيلًا أية علاقة لها بالحادثة.

أما الإسقاطات السياسية الخاضعة للتأويل فتتعلق بحالات القتل الغامضة للمشاهير، والعلاقات المتشابكة لهم ما بين عوالم الفن والسياسة والجاسوسية، وكأن في العمل إحالة لربما غير مقصودة إلى لغز مقتل النجمة المصرية سعاد حسني، ومن قبلها الليدي ديانا، أميرة القلوب البريطانية، وغيرهما، كما يمكن تأويل العمل ككل على أنه محاكاة لما يحدث في عديد الدول العربية من تحالفات متقلبة تنتهي بحوادث قتل يبقى فيها الفاعل مجهولًا، كما يحدث في العراق مؤخرًا. أما الصورة الناصعة في خضم التأويلات، فتكمن في التأكيد على الدور الريادي للمدينية الفلسطينية في القدس وحيفا وغيرهما، حيث مرت أسمهان من هنا، كما أم كلثوم ويوسف وهبي وشقيقها فريد الأطرش الذين لم يغيبوا عن خشبة المحاكمة الفلسطينية الممسرحة لمتهمين لم يثبت "القاضي الفلسطيني" إدانة أو براءة أي منهم، كما لم يصدر حكمه المطلق، ولم يسع لذلك بالأساس، تاركًا القضية مفتوحة على كل الاحتمالات كحال القضية الفلسطينية منذ سبعة عقود، والتي قبلها كانت الأراضي المحتلة غنية بإبداع ثقافي حفر عميقًا في الذاكرة العربية.

وإن كانت نكبة أسمهان سبقت النكبة الفلسطينية الكبرى بأربع سنوات، إلا أن الأولى باتت جزءًا من كتب التاريخ، وعناوين الصحف، وذاكرات العشاق الكثر للمطربة وصوتها، فيما أنجبت الثانية نكبات لا تزال تتوالى.

ويأتي العرض بعد أشهر على الذكرى الرابعة والسبعين لرحيل صاحبة الحنجرة السحرية، والطلة الأكثر سحرًا، هي التي توفيت غرقًا، وفي إثر حادث سير، في ترعة بإحدى الطرق الزراعية التي تربط القاهرة بمدينة رأس البر الساحلية التي كانت مصيف الملوك والأمراء، وملتقى الباشوات والأعيان، كما تشير بعض الروايات.. رحلت في سن الثانية والثلاثين، لكن حياتها القصيرة كانت مليئة بأحداث متلاحقة جعلت السنة في حسابات حيواتها بألف يوم.

 كما يأتي العرض في وقت تعيش فيه القدس تهويدًا غير مسبوق، بعد أن انتزع محتلوها اعترافًا من الرئيس الأميركي دونالد ترامب بها عاصمة لدولة الاحتلال، فالقدس كانت محطة لأسمهان في الأربعينيات، وتحديدًا، وكما تشير بعض المراجع والصورة الأرشيفية في عام 1944، في حين يشير الباحث الفلسطيني طارق البكري إلى أنها أقامت لفترة من الزمن في حي البقعة في القدس ضيفة على عائلة عويضة مطلع أربعينيات القرن الماضي، وهي العائلة التي كانت تملك فندق "موديرن" في شارع مأمن الله.

وإذا ما تتبعنا رحلة أسمهان في القدس وحكايتها، فليس غريبًا عن "الحكواتي" المسرح الذي يقاوم التهويد إنتاج مسرحية تعيدها والعاصمة الحلم للدولة الفلسطينية إلى الواجهة، ففي القدس، ووفق البكري أيضًا، تزوجت أسمهان لمرتين: زواجها الأول كان من فايد محمد فايد، وكان زواجًا "شكليًا" لعشرين يومًا، وشهد عليه محمد فوزي القنصل العام لمصر في القدس آنذاك، والثاني كان من الممثل والمخرج أحمد سالم، وحضر في المسرح متهمًا أيضًا، هو الذي كان أول مدير لستوديو مصر.

كما وقعت أسمهان، في القدس، عقد فيلمها الثاني "غرام وانتقام" مع حسين سعيد مقابل ثلاثة عشر ألف جنيه، وهناك ما يدلل على ذلك عبر إعلان لعرض الفيلم نشرته جريدة الدفاع الفلسطينية عام 1946، وهو العرض الذي دعت إليه جمعية العمال العربية في مسرح جمعية الشبان المسيحية.

ورغم أن خريطة المنطقة وطبيعة مالكيها تغيرت، فتحولت "البقعة" إلى "عيمك رفائيم"، وبيت آل عويضة بات ملكًا لشركة "أحيم حسيد" الإسرائيلية، إلا أنه كما الشارع والحي سيبقى شاهدًا على الحضور الثقافي الطاغي لفلسطين عامة، والقدس على وجه الخصوص في الخريطة الثقافية العربية ما قبل النكبة، وهو ما أكد عليه المخرج والفنان الفلسطيني العالمي نزار زعبي، في زمن مليء بالألغاز يعيشه الفلسطينيون، كما عاشه المحقق في المسرحية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.