}

تكعيبية القرن العشرين في «مركز بومبيدو»

أسعد عرابي 12 نوفمبر 2018
تشكيل تكعيبية القرن العشرين في «مركز بومبيدو»
من أعمال جورج براك

يتحفنا متحف الفن المعاصر في «مركز بومبيدو» بمعرض بانورامي استعادي شمولي يتعقّب سيرة أبرز تيار حداثي، طبع فنون القرن العشرين وهو «التكعيبية»، لأول مرة منذ معرض ١٩٥٣. يقع زمان العرض ما بين السابع عشر من أكتوبر/ تشرين الأول من العام الراهن ٢٠١٨، مستمراً حتى الخامس والعشرين من فبراير/ شباط للعام المقبل ٢٠١٩. تغطي لوحاته الثلاثمئة فترة المخاض الأساسية ما بين التأسيس عام ١٩٠٧ واستقرار تجربته حتى العام ٢٠١٧. استُعيرت هذه الكمية من اللوحات من شتى الآفاق: من متحف موما (نيويورك)، ومتحف بال (سويسرا)، إضافة إلى متحف بيكاسو (باريس) وغيرها من المتاحف وأصحاب المجموعات. هي التي غطت خاصة ملصقات الورق وتلسينات النحت الشهيرة. ينتمي فنانوه على تعدديتهم إلى الجيل نفسه، بدليل تقارب تواريخ مواليدهم. تفرعت إلى العديد من التيارات التجريدية فأصبحت رمزاً للحداثة والمعاصرة.

أما التسمية فترجع إلى ملاحظة الفنان هنري ماتيس بعض المكعبات في أعمال جورج براك (١٨٨٢-١٩٦٣) كموروث عن هندسات وقوالب المعلم سيزان (١٨٣٩-١٩٠٦) السابقة، استثمر هذه الملاحظة الناقد لويس فوسيل فأطلق على الحركة اسم «التكعيبية»، لكن النصوص الأشد التصاقاً بخصائص المدرسة ترجع إلى كتاب متزامن للشاعر أبوللينير عام ١٩١٢. بالتعبير نفسه: «التكعيبية». يفرض التشخيص النقدي الدقيق لهذا التيار، مراجعة ما سبقه (وصولاً حتى بوسّان وسيزان)، وما أعقبه (من أورفية وبنائية وتصعيدية وإشعاعية وستيل ومستقبلية وصولاً حتى النحات برانكوسي والتجريد الهندسي). كلها روافد تفرعت عن نبعه الانعطافي.





بشارة «آنسات أفنيون»

تبتدئ بشارتها من لوحة بابلو بيكاسو (١٨٨١-١٩٧٣) «آنسات أفنيون» يتخيل في باقة نسائها ماخور برشلونة، في بلده الأصلي كتالونيا في إسبانيا، أنجزها عام ١٩٠٧. بعد اكتشافه لسحرية الفنون البدائية وعلى رأسها الأقنعة والطواطم الأفريقية، ثم المنحوتات الإبرية، مستعيراً طريقة معالجة التحجيم والتظليل الملغزة من الأقنعة الأفريقية. لم يتحسس قيمتها في حينها أي فنان معاصر له بما فيه توأمه جورج براك إلا متأخراً، بل تصورها واحدة من مزاحات بيكاسو وسخرياته. هو العام بتاريخه الحاسم بعد سنتين من تأسيس هنري ماتيس «للوحشية» والتي كان براك بين أعضائها من الملونين الرهيفين. ثم تحوّل جورج براك إلى استثمار بنائية سيزان مع استغراق بيكاسو في الغوص بالبعد السحري للفن الأفريقي. مع تحالفهما تأسس مختبر التكعيبية من هذين المصدرين: البدائية و«البنائية الهندسية»، فقد أثار اهتمام براك مسعى بول سيزان في تحويل الطبيعة إلى قوالبها الهندسية الأبجدية الأولى من كرة وإسطوانة ومخروط، متقدماً ببحوث مناظره الأخيرة خطوة أبعد «أي مناظر ظاهر مرسيليا»، وهكذا ارتسمت خصائص «التكعيبية» في موضوعات «الطبيعة الصامتة» لدى الاثنين حتى لا نكاد نفرق بينهما في الأسلوب، يعملان معاً، ويتحاوران كل الوقت يؤسسان لنظرية متماثلة.

أما مرحلة الملصقات الورقية (بقايا صحف ومطبوعات) فلها حديث آخر، ترتبط بانتحال بيكاسو لاختراعها زوراً من زميله جورج براك. هو الذي سيق إلى الخدمة العسكرية وجُرح جرحاً بليغاً في رأسه عام ١٩١٥، وما أن تعافى حتى اضطر بيكاسو للاعتراف لبراك بحق اكتشافها قبل ذلك وأودع بعضها في محترفه.

ثم تجاوزت الملصقات النحتية نسق السطح التصويري الورقي فتحولت إلى تلسينات خشبية أو لحامات معدنية أو ملصقات استهلاكية زجاجيّة ثم تطورت أدوات اللصق حتى شملت شتى المواد، فلم يعد هناك فرق بين التصوير والنحت (تبدو هنا عراقة التأثير على الدادائية والبوب آرت). أما التحوّل الثاني «الفينومونولوجي» فيتمثّل في تجريبية المختبر «الموادّي»، من حياكة السطح إلى خدوشه اللمسية وتنوع ما عُرف بعد ذلك بالأنسجة (La Texture) هو ما نعثر عليه في التوزيع الأوركسترالي الموسيقي حينما يشار مجازاً إلى الألوان وتنوع الأنسجة. مع انضمام جوان غري (١٨٨٧-١٩٢٧) عام ١٩١٢ إلى المجموعة أصبحت ثلاثية، بعد أن بدأت ثنائية لأن قدومه تزامن مع التحوّل من المرحلة التحليلية إلى التركيبية، لذلك أبدع في الثانية، يقول مثلاً: إذا كان سيزان يقارب جذع الشجرة في المنظر (الذي يتأمله أو يستلهم منه) من الأسطوانة، فأنا أقوم بالعكس أجعل من الأسطوانة زجاجة أو جذع شجرة. أي أن الدلالة السيميولوجية تتقمص الشكل الهندسي وليس العكس. ثم انضم فرناند ليجيه (١٨٨١-١٩٥٥)، بتكويناته الفضائية الماركسية، وتشكيلات صنّاع العمارة والمعماريين الكادحين. كان يرى في كتابه اليتيم أن ثقافة الفنان المعاصرة تتكثف بمتابعته اليوميّة مع التنزّه في المدينة بفترينات وواجهات عرض البضائع الاستهلاكية بأنواعها. لذلك كان يصوّر الخردة والعمال والحرفيين. تقتصر شراكة مارسيل دوشامب (يمثّل التواصل بين التكعيبية والدادائية بصفته مؤسس الثانية وعضواً في الأولى) على لوحته «المرأة تنزل السلّم». وكذلك أمر النحاتين ليبشيتز وآرشكيبنكو. من الخطأ الفادح في المعرض اعتبار الأورفية بألوانها الساطعة وأسطواناتها القزحية الملونة جزءاً من التكعيبية (على مثال روبرت دولوني وسونيا)، فالنزعة التكعيبية أقرب إلى اللون الأحادي البنائي منها إلى «وحشية» ماتيس المناقضة.

 

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.