}

مراحل بيكاسو السابقة "للتكعيبية"

أسعد عرابي 16 نوفمبر 2018
تشكيل مراحل بيكاسو السابقة "للتكعيبية"
إحدى لوحات بيكاسو في المعرض

بعد المعرض البانورامي الموسوعي لتيار "التكعيبية" (الذي طبع بحداثته فنون القرن العشرين)، ها هو معرض رديف، يقرب مجهره ليس فقط من ملك التكعيبية بيكاسو وإنما من مرحلتين بائستين تمهيديتين مع بداية تخبطه وبحثه عن الاستقرار في باريس، مرحلتان نادرًا ما تعرض لوحاتهما لأن أغلبها حُجب لعقود في متحفه في برشلونة، وعرفتا بالزرقاء والوردية.

توزع العرض بين متحفين: أورسي والمتحف الوطني لبيكاسو، بالإضافة الى عروض "برفورمانس" مستلهمة من لوحات السيرك تقام لعدة سهرات في مسرح "شاتوليه" في المركز الهندسي لمخطط العاصمة. إذن هو معرض ثلاثي للفنان بابلو بيكاسو (مولود في مالقا إسبانيا ١٨٨١م، متوفى في موجان فرنسا عام ١٩٧٣م) من جديد. فجعبة ميراث هذا العبقري لا تنفذ.

تظاهرات متزامنة تقع ما بين الثامن عشر من سبتمبر من العام الراهن ٢٠١٨م، والسادس من كانون الثاني من العام المقبل ٢٠١٩م. أما المواقع التعددية في العرض فأبرزها معرض يمثّل المرحلتين: «الزرقاء» و«الوردية» خلال السنوات الست الأولى من احترافه للفن التشكيلي (رسم وتصوير وحفر ونحت وملصقات وبرفورمانس)، والتي تمثّل بداية هجرته وإقامته في عاصمة النور باريس منذ ١٩٠٠م وحتى ١٩٠٦م. هي التي قدم فيها شابًا يانعًا لا يتجاوز الواحد والعشرين عامًا، يعاني من الفقر والعازة، وفقدان الحيلة في تحصيل عيشه وعرق لقمته، وعدم استقراره، هائم على وجهه خاوي الوفاض والمعدة والجيب. انتهت بتنازل أحد أحبائه من الزملاء الفنانين وهو باكو دوربو عن محترفه ليحل محله في نهاية العام ١٩٠٤ ليشعر لأول مرة بالاستقرار في «أتولييه باتولافوار» في الحي الخاص بالفنانين «المونمارتر». وبعد أن وصلت به هواجسه الاقتصادية إلى حد إحراق أقمشة وأوراق تصاويره ورسومه ليتدفأ بها. لعلّ ما هو أشد انعطافًا تعرّفه على أولى محظياته النسائية (فرناند أوليفييه) في نفس العام، تصطبغ أحزانه في لوحاته عمومًا في السنوات الأربع الأولى (أي حتى هذا التاريخ) بالمقام الرومانسي الحزين من الأزرق ومشتقّاته الرمادية والمعدنية الشاحبة، معبّرة عن تجربته البكر الشابة بثقل وهمّ الوجود، خاصة بعد انتحار صديق عشرته الحميم كارلوس. تفتّح وعيه على عنف العالم، فذهب يصوّر الضعف البشري المقدّر من فقراء ومعوزين ومرضى وعميان ومصابين بعاهات دون توفّر وسائط العلاج أو الشفاء. تبتدئ مرحلة الشقاء هذه في شتاء ١٩٠١م عندما صوّر الأوتوبورتريه الشهير (صورته الشخصية في المرآة) المحتقنة بتخمة الآنديكو الأزرق النيلي الذي يتفوّق على آنديكو إيف كلاين.

تختم إذن هذه التجربة البائسة بالتحول من موضوع الموت والمستضعفين في الأرض (الأشد إيلامًا) إلى موضوع الحب والتعلّق بلذائذ الحياة ومراحلها وتفاؤلها، يتحوّل بالتالي المقام المسيطر في باليتا اللوحات من الأزرق المتشائم المنقبض (جمالية اليأس واللوعة والحسرة والحرمان والتحرّق والأسى المفرط الحزن) إلى الوردي المتفائل بالحسيّة وسعادة الحب والعلاقة الجنسية والملامسة الحميمة، والذكورة الفحلة التي تضج بشبق أنواع اللذة الجسدية، انعكست هذه التحولات المتقابلة والمتناقضة في لوحات معرض متحف أورسي، بالبوستر (الإعلان) البالغ الإثارة والترميز والإلماح التشكيلي النوعي، تمثّل اللوحة زوجًا من آدم وحواء، من ذكر يربض بجسده الرجولي على مكعب ملوح بالأزرق وفتاة ترقص على كرة مصبوغة باللون الوردي.

يسيطر إذن على «سينوغرافية» واختيارات معرض متحف أورسي تلك المقابلة الرمزية بين المرحلة الزرقاء (التي استمرت أربع سنوات) والمرحلة الوردية (التي استمرّت سنتين) وختمت بأولى اللوحات التكعيبية: «آنسات آفينيون» ١٩٠٦م اللاتي يمثّلن بنات هوى من ماخور برشلونة. الواقع أن التحوّل من الأزرق (رمز الموت) إلى الوردي (رمز الحب) ليس بهذا الإطلاق والحدود الحادة. هناك تحول تدريجي وتداخل أو عودة حميمة بعد حين إلى اللونين معًا. لذلك فإن معرض متحف بيكاسو الباريسي يكمل نفس المحور مع العناية بشتى أنواع الخروقات الإبداعية لهذه الثنائية النقدية شبه المفتعلة خاصة عند إطلاقها وتعميمها. يلتزم المعرض الثاني بتاريخ هذه المرحلة ثم إطلالتها على محور أشد غورًا واستمرارًا هو موضوع السيرك وما تثيره طريقة رسومه وتصويره من عبث وسخرية على طريقة هنري تولوز لوتريك.

يبدو إذن معرض متحف بيكاسو باريس أقرب إلى الحساسية القلقة التي يتميّز بها الشهيق والزفيز الشطحي لبيكاسو بمعزل عن التقسيمات النقدية الحادة (حتى لا نقول المتعسّفة)، فإذا كان لا ينكر تأثير التجربة المعاشة على لغة الألوان والخطوط وسلوكها، سواءً المأزوم منها أم المغتبط، فإن البعد السحري في استهلالات فناننا على محدوديتها تشكل استشرافًا أساسيًا في صبوته لتجميع الأقنعة الأفريقية والإبرية، تمثّل بالنسبة إليه جنون الحداثة والريادة المعاصرة، بما يتفوّق حتى على تقنية التكعيبية بالشراكة مع جورج براك (استثمارًا لموروث بول سيزان)، هو الجنون الجامح الذي تمثله الأشكال الإنسانية أو العائلية على هوامش مجتمع السيرك لذلك وضع للمعرض عنوانًا ملامسًا: «Picasso- Circus» ويرسخ هذا الجانب العرض الثالث الأشد إثارة، والذي يجري لأول مرة في معرض استعادي وهو: تظاهرة يومي ١٤ و١٥ من الشهر المقبل على «مسرح شاتوليه»: بعروض برفورمانس مستخرجة من مشاهد السيرك الرمزي لبيكاسو. يعتمد البرفورمانس (أحد فنون ما بعد الحداثة) على استعادة الأداء المسرحي أو الراقص أو الإيمائي بديلًا عن لوحة الحامل وموادها التقليدية، غالبًا ما يكون ارتجالًا حدسيًا بحضور الجمهور لمرة واحدة لا تقبل التكرار في حالتنا المعلنة هناك تعددية مشهدية أشبه بالمتتالية التي يجمعها الاستلهام من شخوص سيرك بيكاسو. لا بد في نهاية المطاف من أن نُذعن إلى نصيحة صديقه هنري ماتيس: «دعوا التصوير يفصح عن ذاته»، أي بمعزل عن مغالاة النقّاد في تقسيم ما لا يقبل القسمة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.