}

رائدة طه في "36 شارع عباس–حيفا":متاهة القضية والشكل الفني

يوسف الشايب 18 أكتوبر 2018
مسرح رائدة طه في "36 شارع عباس–حيفا":متاهة القضية والشكل الفني
رائدة طه في العرض المسرحي

خاضت الفنانة الفلسطينية رائدة طه، التجربة الثانية لها على خشبة المسرح، بعد نجاح "المونودراما" الأولى لها "ألاقي زيك فين يا علي"، بـ"مونودراما" جديدة حملت عنوان "36 شارع عباس – حيفا"، كتبتها هي بنفسها كسابقتها، ولكنها ليست حكايتها هذه المرة، بل حكاية المنزل الذي تقطنه الصحافية الفلسطينية نضال الرافع، وكان منية والدتها التي حققها والدها المحامي علي الرافع، بشقة تطل على بحر حيفا، فكان أن حقق لها الأمنية في شقة ببناية اشتراها من يهودي قادم من النمسا، قبل أن تكتشف الأسرة أن هذه البناية كانت ملكاً للثري الفلسطيني أحمد أبو غيدا، هجرها قسراً في العام 1948، كحال مئات الآلاف ممن طاولتهم النكبة، وجرائم العصابات الصهيونية، هو الذي حطت به الرحال بعد عدة دول وحيوات صعبة في النمسا، بينما جاء يهودي عبر الميناء ذاته ليصبح المالك غير الشرعي للمنزل.. "سفن حاملة فلسطينيين رايحين وسفن حاملة يهود جايين".

وهنا تدخل العائلتان في جدل "العودة" و"التهجير"، ما بين من قرروا البقاء في فلسطين بعد احتلالها، ومن قرروا الهجرة حرصاً على أنفسهم من موت كانوا يرونه محققاً، فالمنزل هو "الوطن الضائع" للعائلتين الفلسطينيتين.

على خشبة المسرح البلدي في رام الله، قدمت طه عرضاً مبهراً على صعيد الأداء، وهنا أقصد وصف "36 شارع عباس – حيفا"، بالعرض، لكونه ملتبس الهوية ما بين عرض مسرحي غير مكتمل الأركان، وما بين عرض أدائي غير خالص، وإن كان لا يخلو من كوميديا سوداء، في حين كانت الهوية المسرحية أقرب إلى العمل الأول الذي تناولت فيه سيرة حياتها ووالدها الشهيد علي طه، الذي لم تخرج منه في هذا العرض أيضاً، بل جرتنا إليه عبر بوابة مطار اللد، حيث نفذ ورفاقه عمليته الفدائية التي عرفت باسم "سابينا" العام 1972، بعدما تحدثت عن الإجراءات الاحتلالية المنافية للإنسانية تجاه كل فلسطيني يقرر السفر عبر هذا المطار الذي حمل اسم "بن غوريون" بعد نكبة فلسطين، ومنها سياسة "التفتيش العاري".

وبهذا كانت تتجاوز رائدة طه بذكاء، تجسيد النص بشكل أو بآخر، لتلعب دور الحكواتية، حين تلجأ إلى "المايكروفون" في الزاوية اليمنى للمسرح، أو وسطه، فتتحدث إلى جمهورها عن نضال رافع وحكاياتها في المنزل وخارجه، وعن علاقتهما الشخصية كصديقتين، وعن أجواء المنزل، الذي وصفته فجعلت المتفرج كأنه فيه، يشتم رائحة غبار منضدة "سارة"، والدة نضال، والورق المعتق لكتب وأوراق المحامي والدها، وهو تجاوز ذكي لكسر الرتابة من جهة، وللمراوحة ما بين السرد لنص سلس وثقيل في آن، وإن كانت بعض رحلات اللجوء هذه نحو "المايكرفون" شكلت "حشواً" بطريقة أو بأخرى، وإن كان "حشواً" غير ظاهر، ولا يربك المقولة العامة للعرض على مستوى النص، والمضمون، والأداء للفنانة التي باتت عروضها تحظى بشعبية كبيرة، لكونها تقدم جديداً بالنسبة للفلسطينيين، على مستوى المضمون الذي يتجاوز "تابوهات" عدة، وينتصر فقط لفلسطين دون أية حسابات ضيقة، وعلى مستوى الأداء الارتجالي المدروس، أو الهندسة المسرحية التي لا تخلو من ارتجالات إبداعية بمعنى أدق، فتظهر الكوميديا السوداء غير البعيدة عن الشارع الفلسطيني، وتلتصق به حتى في ألفاظه التي يعتبرها بعض "الفلسطينيين الجدد"، إن كانوا فلسطينيي الروح، تدخل في باب "التجاوزات"، وربما "المحرّمات"، وهنا تنجح رائدة طه في التأكيد على كونها فنانة حقيقية، فالفنان هو من يكسر "التابوهات" في خدمة فكرة عمله الفني، وليس بهدف الإثارة والاستثارة، وتحطيم السائد من أجل تحطيمه، بل من أجل تفكيكه، وتحليله، والنقاش حوله.

وبرغم خصوصية شخصية نضال رافع على مستوى نبرة الصوت، وحركة كل جزء من أجزاء جسدها، وطريقة الحكي التي تنافس "بولت" في السرعة، استطاعت رائدة طه تجسيد شخصيتها باقتدار أثار ضحك الجمهور في كثير من ملامح العرض الذي حمل قصة نضال صديقة الممثلة وكاتبة النص الذي أخرجه اللبناني جنيد سري الدين.

وكان النص روائياً إلى حد كبير، حيث الإغراق في الوصف، لا سيما في تفاصيل المنزل "الإشكالي"، الذي بات رمز جدلية الشتات الفلسطيني داخل الوطن السليب وفي المنافى، بمنظارين مختلفين للعائلتين، اللتين حملت إحداهما الجنسية الإسرائيلية ضريبة صمودها في أرضها وحافظت على هويتها الفلسطينية العربية ممارسة حتى في أدق تفاصيلها اليوم، وأخرى نزعت عنها جلد حياتها الذي خشيت للحظة أن يتلوث بسرطان المحتل القادم من كل صوب وحدب، إلا أنها ظلت تحفظ فلسطين روحاً وذاكرة، فـ"36 شارع عباس – حيفا"، شكل لكل منهما "عودة" ما، مؤقتة في نظر كل منهما.

واللافت أن رائدة، كما في عملها الأول، تتقمص أكثر من شخصية بامتياز، بدءاً من نضال، مروراً بوالدها، ووالدتها، والجارة التي تمزج العربية بالفرنسية، وأفراد عائلة أبو غيدا، فتقص الرواية بألسنتهم، وتطلق العنان لحكاياتهم بعيداً عن الأدلجة التي تصل في بعض الأعمال المسرحية الفلسطينية إلى درجة الأسطرة، فتفقد البوصلة، وإن كان هذا وضعها في دائرة السرد المسرحي، والانتصار للرواية الشفهية على حساب مسرحة العمل، فلغة الجسد وإن حضرت فإنها لم تكن طاغية كما في "ألاقي زيك فين يا علي".

والعرض المتقشف على مستوى البصريات المرافقة، يبدو أنه لم يكن محض صدفة، فكأني بالمخرج وكاتبة النص اكتفيا بالوصف الحكائي للمكان من الداخل، دون أية إحالات بصرية، ليظل الغموض حول ماهيته سيد الموقف، بما يحيل إلى قدسية ما بخصوصه، فحتى رائدة، وإن تحدثت بشيء من التفصيل عن كل ركن فيه، إلا أنها تلبست نضال بكل ما تحمله من ذاكرة أو ذاكرات.

ولا يمكن الكتابة عن "36 شارع عباس – حيفا"، بعيداً عن الإشارات والدلالات الرمزية، وأبرزها انطلاقة العرض بالنشيد الوطني الإسرائيلي، الذي بررته طه درامياً بكونه جزءا من حلم مفاده أنها كانت تغنيه على منصة في اجتماع القمة العربية، وانتهى بالنشيد الفلسطيني "موطني"، وإن كان ليس هو النشيد الوطني الفلسطيني بل العراقي الجديد، لكنه ظل برمزياته فلسطينياً، هو الذي خطه قبل النكبة الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان، في تأكيد على الهوية الفلسطينية للمنزل، سواء أكان صاحبه أبو غيدا الذي هجره وعاد ابنه وحفيدته له زائرين، أو الرافع الذي اشتراه من يهودي لا يملكه، وأعاد الهوية الفلسطينية إليه في ظل موجات التهويد المتلاحقة.

وأشارت رائدة طه إلى أن هناك مئات آلاف الفلسطينيين الذين طردوا من منازلهم في "النكبة"، وحل مكانهم وفي منازلهم وعلى أراضيهم "مهاجرون جدد".. "هذا ما يحدث، وهذا أمر بالتالي واقعي وليس عاطفياً، والمعاناة جراء ذلك لا تزال مستمرة إلى يومنا هذا، حيث تحولنا من أصحاب الأرض إلى لاجئين"، لافتة إلى أنها حكاية الفلسطيني المعذب جراء الاحتلال والنكبة وما تلاها من احتلالات ونكبات.

وإذا ما طبقنا الفلسفة الحسّية التي تحولت إلى ملامح مدرسة نقدية على العرض، فإنه ناجح بامتياز، وهي تلك المدرسة التي تقوم على كون أن المعيار الأساس للحكم على نجاح أي عمل إبداعي هو عمله على الحواس لكونها محور العملية المعرفية عند الإنسان، وبالتالي فإن العمل إذا ما ترك إنطباعاً حسيّاً ما لدى المتلقي، فإنه عمل ناجح، ويجب تلقيه مجدداً بحواس أكثر اتقاداً من الناحية النقدية، وهي مدرسة مبسطة تتقاطع بشكل كبير مع المدرسة "التجريبية".

ومن الصعب اعتبار "الحسّية" التي لم تحظ بانتشارها بعد عربياً كما ينبغي، متجانسة وموحدة في المبدأ والتفاصيل والحيثيات المعرفية، ومن ثم فالذين ينساقون إلى إنجاز حكم تعميمي واحد مخطئون، وخطأهم كامن في التصور ابتداء، وقد ينتقل إلى الحكم، وهذا ما قد يحدث مع عرض مثل "36 شارع عباس – حيفا"، الذي دخل متاهة القضية، والتعريف، خاصة ما يتعلق باللجوء والعودة، كما دخل أيضاً متاهة الشكل الفني.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.