}

أوابد نصبية من الوهم البصري للفنان راشد في لندن

أسعد عرابي 13 أكتوبر 2018
تشكيل أوابد نصبية من الوهم البصري للفنان راشد في لندن
من المعرض

يعانق مجمّع سوتشي الشهير في قلب لندن خلال شهر أكتوبر/ تشرين الأول 2018 آخر ما أبدعت قريحة فنان السينيتيك العربي راشد آل خليفة من مجسّمات عمالقة، نحت الوهم البصري، وذلك احتفاء بالتفوق التقني للسبرينيتيك، دون إغفال إنعاش ونبش ذاكرة الحضارة المحلية (العربية الإسلامية وعمائر الوهم البصري من الرقش والكوفي المربّع، من المشربية والروشانات المعمارية، وأفاريز المقرنصات) أوابد نصبية من ثريات الوهم البصري الراشدي إذن تعرض لأول مرّة.

نكاد نتوهّم كإحساس زماني أن المسافة خلال عام والتي تفصل تاريخ معرضه الانعطافي في دبي (نهاية 2017- غاليري أيام)، ومعرض اليوم في قلب لندن (نهاية 2018) وكأنها تتجاوز في تسارعها التطوري المتقدم العشر سنوات. ذلك رغم حفاظه على انتمائه الأسلوبي: "الأوبتيك - سينيتيك" في المعرضين. يبدِئ الانقلاب النوعي من قياس الأعمال الفنية: تقترب في المعرض الأول من قياس لوحات التصوير المألوفة، هي التي يغلب عليها "التربيع" الذي لا يتجاوز المتر إلا بقليل. وبالعكس فإن معرض اليوم تقترب عملقته من الأوابد النصبية من مجسمات "السينيتيك" والإنشاءات المجهّزة (العمارة الأثيرية القزحية) الشفافة أو الشافة. لأنها متراشحة الألوان والأنوار كما سنرى. وذلك استمراراً لرهافته اللونية المعروفة منذ ثمانينات موضوعات ما بعد الانطباعية (على غرار تأثيرات الوحشية أو الرؤيوية البونارية) تستشرف هذه المراحل المبكرة قبل سفره لدراسة الديزاينر (في لندن والولايات المتحدة) مشكاته القزحية برفيفها اللوني المتماوج وهمياً.

إذا عدنا لتأمل معرضه اللندني الأخير وجدنا أن هذه الكائنات (الروبوهات الميكانيكية) التجسيمية تشغل صالتين رحبتين متراميتي الأطراف يتجاوز عددها العشرة، الحادية عشرة منها التي استقلت معزولة في الصالة الثانية يصل امتدادها حتى الاثني عشر متراً. بعضها يعتلي الجدران مشبعاً بلون أحادي إلى درجة التخمة الصباغية (هوس عالم الأخضر أو العقيقي) أو بدرجات الرمادي الرهيفة البرزخية بين حويصلات لونين متكاملين أو متصارعين ضمن هارموني لانهائي، يبدو جسد هؤلاء محدّب التضاريس يتخلق من ذاته الجزيئية، كلما تحرك الرائي. وبعضها الآخر يربض معمارياً أو نحتياً على الأرض أو ضمن مسار متاهي تنظيمي حضري يختزل التواءات الأزقة الشعبية ومشربياتها وروشاناتها.

أما النوع الثالث الأشد إثارة وتعقيداً تقنياً فهو المربوطة بأسلاك بالغة المقاومة بالسقف دون أن تبتعد كثيراً عن الأرض، أشبه بالثريا المتعاكسة الألوان والإضاءات والظلال المتداخلة على الأرض والمرسلة من مرآة أشد علوّاً، تقترب بمجملها من جهاز المرايا المتعاكسة الألوان أو مشكاة "الكاليودوسكوب". يلتف النوع الثالث حول مركزه، يتحول الرفيف والزيغان وهمياً مع حركة المتفرج، وسعيه المتعدد السرعات حوله بما يناظر الدوران المتضاعف للأجرام والكواكب في فلك القبة السماوية، والتسارع الهندسي "لنجميات الأرابسك" حول نفسها، وصولاً حتى الالتفافات التوقيعية الملحنة في رقص المولوية.

*    *   *

إذا انتقلنا من هذه التعقيدات "السبرنية" إلى التعقيدات التقنية في الأداء، عثرنا على الاختزال المقصود في الصياغة ابتداءً من المعادن الخفيفة غالباً خاصة الألمنيوم (واختفاء البليكسيغلاس المستخدم في المعرض السابق). ثم الطلاء المتراكم على الأقل من طبقتين من أصباغ اللدائن البترولية (الطبقة الأولى تحفظ المعدن من الصدأ) قريبة من المينا والأيماي أو اللاك الآسيوي.



كذلك اختفت الألوان المعدنية المستخدمة في طلاء السيارات عادة كما هي في المعرض السابق واختفت بالتالي الطبقة الثالثة الشفافة. نعثر في هذه الحالة على تطبيق عملي لتبشيرات مدرسة "الباوهاوس" بإزالة الحدود بين أنواع الفنون والحرفيات، بين العمل الفردي النخبوي والعمل الجمعي الحرفي، فمثل هذه المجسمات لا يمكن إنجازها إلا تحت رقابة والدور القيادي الأوركسترالي للفنان راشد. أما الفرقة الموسيقية في هذه الصورة المجازية هي مهندسو المعلوماتية ومهندسو القص الدقيق بأشعة ليزر واللحام ومهندسو كيمياء الألوان الحديثة التي يشرف على أعمالهم في شتى المراحل برهافته اللونية المعروفة التي قادت إلى العنوان اللوني للمعرض: "الشفق". هناك إذن فريق عمل إنجازي أو تقني ومساعدون لا يملكون حق التدخل يقتصر عملهم على تنفيذ ما هو مقرّر مسبقاً في الماكيت الدلالي المرسوم في جعبة الفوتومونتاج في مختبر شاشة الكمبيوتر، أي أن الفنان راشد يبدأ بالتجريب على الورق والألوان ثم ينتقل إلى هندسة أفكاره وتثبيت قياسات المفردات (Le module) وشطرنج البرامج الطبوغرافية، ثم الاستمرار في التعديل الموهوب، قبل أن يتحوّل التصميم الإنشائي المجسّم إلى يقين ديكارتي رياضي لا يقبل أي احتمال تعديل. هو فرق درجة الحذاقة والفعالية الديناميكية في اختراع مخاتلات وأحابيل ومحايلات السينيتيك، بين المعرض السابق وكائنات الوهم البصري المعروضة اليوم.

*    *   *

ثقافة شمولية مزدوجة (محلية-عالمية)

رأينا كيف أن تربيته الفنية منذ السبعينات تمثل أرضاً خصبة لهذا التوليف الشمولي. لنراجع مثلاً في هذا المقام مجموعة "زرياب" وبحثه عن اللون الصائت، أو الذي يصخب بالمقامات الزرقاء أو الشفقية - الغروبية. ولنراجع أيضاً مجموعة "الرقص الشرقي" وحومان الغلائل الشفافة حول جسد الأرابسك، كذلك الأمر عندما يدعونا للإنصات إلى "الموج" وما يستبطنه من أساطير المحار وصيد اللؤلؤ والفراديس المفقودة في الأوقيانوس (مثل أطلانطا) تقترب هذه العوالم من غبطة البوح الصوفي في الثقافة العرفانية المحلية، حيث تعريف حالات "الوجد" لدى السيوطي: "كمن يسلم نفسه إلى زرقة المحيط ثم لا يرجو من غرقه نجاة". وأنه في القلب (أي الحدس) تجتمع حاستي السماع (السماعي) والبصر (البصيري)، ضمن تجلّ شطحي توليفي توحيدي يجعل من الصامت (اللون) صائت، ومن الصائت (مثل الضجيج) لوناً صامتاً، مثل عصف الموج والرذاذ. تنسجم بالتالي هذه التربية مع تبشيرات مدرسة الباوهاوس (التي احتك بفرع التصميم فيها) خلال دراسته الثمانينية للديزاينر في الولايات المتحدة، سبقتها دراسته في لندن لنفس الإختصاص.

*    *   *

المشاركة، ووحدة أنواع الفنون والصناعات الذوقية

هو الجانب الذي تدعو إليه مدرسة الباوهاوس تربوياً (وينخرط في بشارته الفنان راشد) لإخراج العمل الفني من عزلته التقليدية، وذلك ابتداءً من تداخل الفنون النخبوية التشكيلية مع الفنون اليدوية الحرفية (أو التطبيقية)، توحدهم شمولية العمارة والتنظيم المدني (أو الحضري) كما هي في الأحياء الصناعية لمدن العصور الوسطى، سواء في أوروبا أم العالم العربي - الإسلامي.

تستمر وحدة فنون السمع والبصر خيمياوياً ما بين الضوء والصوت (التوقيع والتقسيم)، هو شأن توأمية المصوّر فازاريللي مع الموسيقار بيلابارتوك في بودابست (هنغاريا)، وشأن تراشح الصوت مع الحركة لدى اليوناني تاكيس، تترجم باقة نوابضه المعدنية الكهرومغناطيسية المبرمجة بتراقصها حسب صفير المشاهدين وأصواتهم.

يتحالف في المعرض الراهن الرسم مع الديزاينر مع التّصوير والسينوغرافي الإضاءاتي المسرحي. فتبدو الأعمال متباينة بطريقة برمجتها المعماريّة السبرنية. تتواصل هذه الكائنات (الروبوهات المعلوماتية الذوقية) مع أحدث الاتجاهات البصرية لما بعد فازاريللي مثل آغام وسوتو ودييز وتاكيس. ثم وجدنا كيف تحولت طقوس العمل الفني إلى ما يشبه الأوركسترا التعدّدية، يقودها قائد الأوركسترا برهافته وقراراته الحاسمة الإبداعية. كان قد طبق منذ معرضه السابق (مثل أعمال السنوات الأخيرة) صبوة مشاركة المشاهد في صناعة العمل الفني ووظائفه، وذلك عن طريق تحريض غريزة المداعبة والملامسة العبثية "اللعبية" لديه، هي التي شرحها عالم الجمال "فرانك بوبير" في كتابه الذي يحمل عنوان المشاركة، الذي يعتبر اليوم كأستاذ جامعي من أكبر المختّصين بفن "الأوبتيك- سينيتيك" وعلاقته بالفيزياء الذرية منذ فازاريللي (تلميذ "موهولي ناجي" المدرس في الباوهاوس).

ورث الفنان راشد عن الاثنين هذه المبادرة و طورها كما فعل فنانو جيله من المعاصرين. تبدو المشاركة أشد حسماً في المعرض الراهن، لأن المشاهد تتبدل مع حركة الناظر وسرعة خطاه، تتحول تضاريسها المحدبة ومناظير وحداتها الجزيئية الملونة كما تتحوّر الحويصلات الملونات في جلد "الحرباء"، ينقلب كل مرة كرافيزم المخاتلات والألاعيب والأوهام الإدراكية الملتبسة الغشتالتية، وذلك ضمن آلية الالتفاف المضاعف في التجهيزات المماثلة كما رأينا "للكاليودوسكوب" ومراياه المتعاكسة (مع ارتصاص مفرداته الهندسية المربعة) وتفريخات حجرات خلايا النحل أو أعشاش المقرنصات التي تغطي الأفاريز والحواشي المرتفعة حول الأقواس والجدران والأسقف، على مثال قصر الحمراء في غرناطة الأندلس، فتبدو وكأنها أوكتافات "أورغ" تمنح النور الموهوم الذي لا تملكه، والناتج عن الالتباس المزدوج لمفرداتها مرة بين المقعر والمحدب، ومرة من تعاكس اللون المتقدم (مثل الأحمر الذي يلون المقعر) واللون المتأخر (مثل الأزرق الذي يلون المحدب) وهكذا.

لعله من الجدير بالذكر أن جمالية "المشاركة" طبعت فنون وتيارات "مابعد الحداثة" كما يشرحها الناقد ريستاني، فكلما تراجع دور المبدع اقتربنا أكثر من حساسية هذه المرحلة، ابتداء من النحات سيزار الذي اقتصر على تلقين نحت أصبع باهمه للكمبيوتر قبل عملقة نحته بأشعة ليزر المبرمجة معلوماتياً، كذلك فنان البوب آرت الأميركي شونبرغ يقرر تصاويره بعد تدخل الجمهور في اختيار ملصقاتها وهكذا. هو ميراث "الدادئية المحدثة" الذي أثر بدرجة ما على آخر تطورات "فن الوهم البصري الأوبتيك- سينيتيك" بما فيه معرض الفنان راشد الراهن.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.