}

معرض "ملصق": الرواية الفلسطينية بصريّاً

ضفة ثالثة 29 يناير 2018
تشكيل معرض "ملصق": الرواية الفلسطينية بصريّاً
من معرض "ملصق"

تكفي جولة سريعة في معرض "ملصق"، في متحف ياسر عرفات في رام الله، الذي افتتح مؤخرًا، لكشف حجم التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية، التي ألقت بظلالها على النظام السياسي الفلسطيني، وعلى قضية شعب ما يزال يسعى للتحرر من الاحتلال، ويناضل بكل الوسائل لتحقيق ذلك، وعلى الطبيعة الفنية للبوستر نفسه. فهذا البوستر تحول من فن مجرّد إلى طباعة آلية مع الوقت، مع اختلاف المضامين بين ملصق ما قبل النكبة وخلالها، وما بعد "الانطلاقة"، وما بعد خطاب الرئيس الشهيد ياسر عرفات في الأمم المتحدة، والانتفاضة الأولى، وإعلان الاستقلال، حتى توقيع اتفاقية أوسلو وقيام السلطة الفلسطينية، والتي بدأ معها البوستر يتحول من أداة نضالية إلى وسيلة إعلانية، بما في ذلك إعلانات النعي للشهداء وغيرهم، حيث غابت النكهة الفنية عنه، وكذلك افتقدت إلى حدّ كبير القضايا الكبرى.

ولعل أكبر دليل على ذلك هو أن رحيل الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات لم يقابل بملصقات تعكس رمزيته الطاغية المستمرة، وهو ما ينطبق كذلك على رمز فلسطين الثقافي الشاعر محمود درويش، على عكس من سبقوهما من شهداء ساسة، كخليل الوزير (أبو جهاد)، وأبو إياد، وأبو الهول، وأبو صبري، وغيرهم الكثير، ومن الشهداء المثقفين والفنانين وأبرزهم غسان كنفاني، وكمال ناصر، وناجي العلي، وبعضهم زاوج ما بين القلم أو الريشة والبندقية.

الملصقات التي تزيد عن 120 في المعرض، هي من إنتاج "الإعلام الموحد" في منظمة التحرير الفلسطينية، ما بين تلك التي تنتصب على الجدران في قاعة العرض، والأخرى التي تعرض بالتوالي عبر شاشة داخل القاعة نفسها لما يقترب من الساعة، وهي تغطي بالرسم والصورة والتصميم، الفترة ما بعد حرب حزيران/ يونيو 1967 وحتى العام 1982، أي عام خروج عرفات ورفاقه في الثورة من بيروت بعد احتلالها.

الملفت في المعرض ليس فقط أنه يؤكد على تثبيت الذاكرة الجمعية، والهوية النضالية للشعب الفلسطيني عبر "الملصق" المُحارب من قبل دولة الاحتلال باعتباره "منتجًا تحريضيًا"، كما تسعى لتسويقه عبر العالم، بل المهم في "ملصق" أنه ينتصر لأحداث وشخوص كانت لها محوريتها في العملية النضالية الفلسطينية، لكنها لم تحصل على حقها في التوثيق وتسليط الضوء إعلاميًا، لتتم استعادتها وإعادة إنتاجها في معرض غاية في الأهمية على مستوى الإعداد الفني أيضًا الذي تولاه الفنان التشكيليّ إبراهيم المزين، وليس على المستويين الوطني والرمزي فحسب.

هدية من الجزائر

وكشف محمد حلايقة، مدير متحف ياسر عرفات، أن هذه المجموعة النادرة من البوسترات التي يحتضنها المتحف في معرض "ملصق"، مهداة من الفنان الجزائري رشيد قريشي، المعروف بارتباطه بالقضية الفلسطينية، وهو الذي قدم هذه المجموعة إلى مؤسسة ياسر عرفات كهدية للشعب الفلسطيني، وهي من مجموعاته الشخصية.

ولفت حلايقة إلى أن الكثير من أرشيف الثورة الفلسطينية تحوّل مع الوقت إما إلى مقتنيات شخصية، أو أنه فُقد، أو أتلف بشكل أو بآخر. وأكد أن قيام قريشي بالتبرع بهذه المجموعة إلى المتحف من شأنه أن يحض آخرين ممن يمتلكون مواد ومقتنيات تتعلق بياسر عرفات أو بالذاكرة الجمعية الفلسطينية على القيام بالأمر ذاته.

وأشار د. أحمد صبح، مدير عام مؤسسة ياسر عرفات، إلى أن القريشي تقدم بالمجموعة كاملة إلى المؤسسة، وتوجّه فريق متخصّص من المؤسسة مستعينًا بخبراء إلى تونس، حيث تم ترميم العديد من هذه الملصقات بدرجات متفاوتة، وجرى التأكد من سلامتها، قبل شحنها بطرق لا يمكن الحديث بالتفصيل عنها إلى فلسطين، لكنها حُملت بحقائب متعددة، ليست بالضرورة لعاملين في المؤسسة.

وأعاد المعرض الاعتبار إلى شخصيات وحوادث كثيرة.

ومن هذه الشخصيات مثلًا شخصية الشمّري، وهو الشهيد محمد صالح حسين الشمري، أحد منفذي العملية التي عرفت باسم عملية كمال عدوان أو عملية الساحل، وفي ما بعد باسم عملية دلال المغربي، ونفذت يوم الحادي عشر من آذار/ مارس 1978 في قلب دولة الاحتلال.

وبالتالي أعاد المعرض الاعتبار إلى الشمري وغيره من الشهداء الذين لم يذكرهم التاريخ إلا قليلًا، ولم يسعفنا محرك "غوغل" إلا بالنزر اليسير عمن ظهروا بسحناتهم وكوفياتهم أو أسلحتهم، مثله، ومثل سكاف، وعبد الفتاح، وأبو منيف، وعبد الرحيم، فيما لم يظهر الآخرون في ملصقات شبيهة لرفاقهم في النضال والشهادة والأسر.

وقد حدثنا د. سليم تماري، الباحث والأكاديمي المتخصص في شأن الملصقات، عن أهمية البوستر في التاريخ الفلسطيني منذ بداية القرن العشرين كجزء من المقاومة الثقافية للمستعمر والمحتل. ولكونه أحد الأكاديميين المشاركين في مشروع "أرشيف الملصق الفلسطيني"، شدّد تماري على أهمية تسليط الضوء على تطور الملصق الفلسطيني منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى يومنا هذا، لافتًا إلى أن الملصق الذي ارتبط بتطور آليات عمل الفنانين من فلسطينيين وعرب وأجانب تبعًا للزمان والمكان وللتغيّرات السوسيوبوليتيكية، اختلف في زمن الحكم العثماني عنه في زمن الحكم البريطاني ومرحلة ما بعد النكبة.

وأضاف تماري: "في خضم العمل المسلح بعد إعلان انطلاق حركة فتح والثورة الفلسطينية، مرورًا بمعركة الكرامة، والانتفاضتين الأولى والثانية، كان للملصق حضوره الطاغي، وشارك في إعداده تشكيليون ومصورون ومصممون من العالم أجمع، وفي العديد من الحالات ارتبط الملصق الفلسطيني بالأحداث الثقافية والفنية".

ويشكل معرض "ملصق" فرصة للأجيال الشابة ولليافعين والأطفال للاطلاع على هذه الحقبة الزمنية والتجربة النضالية عبر ملصقات المعرض، وللتعلم منها والتفكير فيها. ومما يميز هذا المعرض نفسه وحدويته كون كافة الملصقات التي يشتمل عليها صادرة عن "الإعلام الموحد" الذي اتخذ من منظمة التحرير الفلسطينية مظلة له، بعيدًا عن خصوصية كل فصيل سياسي، وعن تمجيده لنفسه وكوادره أكثر من سواهم.

محاولة إدراج "أرشيف الملصق

الفلسطيني" على لائحة "ذاكرة العالم"

في أيار/ مايو 2016، عاود الفلسطينيون بمبادرة من وزارة الثقافة الفلسطينية، محاولتهم الرامية إلى إدراج "أرشيف الملصق الفلسطيني" على لائحة "ذاكرة العالم" في منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو)، بعد أن رفض طلب أول بهذا الخصوص في عام 2014.

وأعلن وزير الثقافة الفلسطيني، د. إيهاب بسيسو، تبني الوزارة لمشروع "أرشيف الملصق الفلسطيني"، وتوقيع الوثائق اللازمة لترشيحه إلى مؤسسة اليونسكو، ضمن برنامج "ذاكرة العالم"، بعد أن رفضته اليونسكو عقب ضغوط من اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة ودول أخرى متذرعة بأن هذا المشروع "معاد للسامية"!

وقال بسيسو: نحن نتواصل مع الأكاديميين في فلسطين والعالم من القائمين على مشروع الأرشيف، والذي أطلقه الأميركي دان وولش، بما يحقق حالة من تكامل الأدوار. وعندما تقوم وزارة الثقافة بالترشيح تؤكد دعمها للمشروع، ودعمها لعملية توثيق الملصقات الفلسطينية، والتي وصلت إلى أحد عشر ألف ملصق ما بين الأعوام 1887 و2016، رسمها أكثر من ألفي فنان فلسطيني وعربي وأجنبي.

وأضاف: إن الملصق مهم جدًا من أجل توثيق تجربتنا وذاكرتنا السياسية والوطنية والتاريخية والمجتمعية والثقافية والفنية وغيرها، وشدّد على أن اتهام الملصق الفلسطيني بأي اتهامات ذات بعد سياسي ما هو إلا محاولات لمحاصرة الرواية الفلسطينية وعزلها، وخاصة أن هذه الملصقات هي ابنة سياقاتها التاريخية والثقافية والمجتمعية وحتى السياسية، ولذا فإن الملصق الفلسطيني الذي ظهر قبل قيام دولة الاحتلال ببعده الاجتماعي والتجاري والثقافي، وتطور في مرحلة ما بعد النكبة، وشهد طفرة مع إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية، وانطلاق شرارة الثورة الفلسطينية، يجب أن يكون جزءًا من ذاكرة العالم، بما يتيح المجالات للأكاديميين والفنانين والمهتمين على أقل تقدير. كما شدّد على أهمية ارتباط الملصق الفلسطيني بالأحداث الدولية، ما يمنحه بعدًا إنسانيًا.

وكان الأكاديميّ الأميركي دان وولش هو المبادر إلى تأسيس "أرشيف الملصق الفلسطيني"، وتحدث في حينه عن حكايته مع الملصق الفلسطيني الذي شاهده للمرة الأولى في منتصف سبعينيات القرن الفائت خلال عمله في المغرب.

وقال وولش: كنت طالبًا في سبعينيات القرن الفائت في المملكة المغربية، وكان من بين المهمات التي أوكلها إليّ أستاذي الجامعي آنذاك، تعلم اللغة العربية من خلال قراءة المكتوب في الملصقات في الشوارع، وعبر أسماء المحال التجارية، وباستخدام القاموس، فتوقفت كثيرًا أمام ملصق حمل اسم فلسطين أسفله، وفي الأعلى "ثورة حتى النصر"، وحين عجزت عن إيجاد معنى لفلسطين في القاموس، اصطحبني فلسطيني إلى أحد طوابق البناية حيث الملصق، وإذ بي داخل مقر السفارة الفلسطينية في المغرب. والتقيت هناك بالسفير الفلسطيني الذي شرح لي كثيرًا حول فلسطين والقضية الفلسطينية وأهداني الملصق وغيره من الملصقات. وكان ذلك في عام 1976.

من هنا بدأت حكاية وولش، الذي جمع أكثر من أحد عشر ألف ملصق فلسطيني صُممت على مدار أكثر من قرن، وأودع الكثير منها في جامعات أميركية، بالإضافة إلى توثيقها إلكترونيًا عبر الموقع الإلكتروني للأرشيف.
وقال إن الأرشيف يضم أحد عشر ألف ملصق شارك فيها 2135 فنانًا فلسطينيًا وعربيًا وأجنبيًا مع توثيق كامل لكل ملصق حول تاريخه والمكان الذي ظهر فيه، لافتًا إلى أن هذا العدد يزداد بشكل يومي، والأمر الذي يميز الملصق الفلسطيني أنه ما زال مستمرًا إلى الآن ويقدم رواية للقصة الفلسطينية.

قيمة فنية جمالية

وتاريخية وتعبوية

بالعودة إلى "ملصق"، المعرض الذي يتواصل في متحف ياسر عرفات حتى أيار/ مايو 2018، قال حلايقة: البوستر لعب دورًا أساسيًا في التحريض السياسي بالمعنى الإيجابي، وفي الوصول إلى الناس، حيث كان وسيلة إعلامية وفنية، ووسيلة تواصل اجتماعي، علاوة على كونه عملًا نضاليًا بحد ذاته، سواء تصميمه أو طباعته أو توزيعه أو حتى تثبيته على الجدران، حيث كان يتعرض للاعتقال من قبل قوات الاحتلال من كان يقوم بهذه المهمات في الأراضي الفلسطينية المحتلة، كما أن تقديم هذا المعرض الآن يساهم في إحياء الذاكرة الوطنية الفلسطينية وتعزيزها وتعميمها، بما يشكل رابطًا ما بين عقود من النضالات الوطنية، منذ ما بعد احتلال 1967، وحتى خروج قوات الثورة الفلسطينية بقيادة الرئيس الشهيد ياسر عرفات من بيروت.

أما د. ناصر القدوة، رئيس مجلس إدارة مؤسسة ياسر عرفات، فشدد على أهمية "الملصق" في تعزيز وحفظ الرواية والهوية الفلسطينية. وقال: هو عمل فني سياسي ملتزم يأتي في سياق معرفة الذاكرة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، خاصة حقبة الثورة الفلسطينية المسلحة في لبنان.

وأضاف: معظم الملصقات تتعامل مع أهم الأحداث والتفاعلات السياسية التي جرت في تلك الحقبة التاريخية، والملصق كفن سياسي ملتزم يفتح آفاقًا كبيرة للقوة السياسية والشعبية المنظمة لكي تعزز خطابها وتتواصل مع الجمهور الفلسطيني، وعلينا الاهتمام به ومحاولة إحيائه. واعتبر أن أهداف المعرض متعددة، أولها إعطاء فرصة للجمهور لإلقاء نظرة متجددة على هذه الحقبة التاريخية المهمة في النضال الفلسطيني، وفي الوقت نفسه أن يستمتع بهذا العمل الفني السياسي الملتزم ويحاول التفاعل معه، لعل ذلك يقود إلى مزيد من العمل الفني الملتزم وتفعيل الثقافة الوطنية الفلسطينية بشكل عام.

وقال الكاتب الصحافيّ حسن البطل إن معرض "ملصق" ذو قيمة فنية جمالية وقيمة تاريخية وقيمة تعبوية. وأشار إلى أن المعرض ليس استعاديًا بل الأول من نوعه في فلسطين، ويغطي المناسبات التاريخية الوطنية الفلسطينية، وأحداث الثورة ومعاركها، والمناضلين الشهداء، قادة وأفرادًا.

وأضاف: قيل إن صورة خير من (كذا) مقال، فهل نقول: ملصق خير من (كذا) خطاب؟

يبقى أن نقول إن وراء كل ملصق حكاية سواء عبر مناسبته، أو عبر شخوصه، إن كان ثمة شخوص فيه، أو عبر مبدعيه رسمًا أو تصويرًا أو تصميمًا، وكذلك عبر من ساهموا في تعليقه، ومنهم من ضحى بروحه أو بسنوات طويلة من عمره في زنازين الاحتلال للقيام بهذه المهمة النضالية، أو في تثبيته على الجدران. ومن هنا تم اختيار المعروضات وفق ثيمات الأرض، الإنسان، الثورة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.