}

الخروج من الجحيم: فن من معتقل غوانتانامو

ابتسام عازم ابتسام عازم 25 يناير 2018
تشكيل الخروج من الجحيم: فن من معتقل غوانتانامو
لوحة لأحمد رباني

دخلت إلى بناية كلية جون جاي للعدالة الجنائية التابعة لجامعة مدينة نيويورك (CUNY)، وسط مانهاتن على تقاطع جادة رقم 10 بشارع 59،  لمشاهدة معرض "أنشودة البحر: فن من معتقل غوانتانامو" وهو يحتوي على  36 لوحة وعملا فنيا، انتجها ثمانية سجناء من المعتقل الأميركي المقام على الأراضي الكوبية.

أثارت إقامة معرض فني لسجناء سابقين وحاليين في غوانتانامو، سخط الكثيرين وجدلا حتى على مستوى سياسي. بحيث أعلنت وزارة الدفاع الأميركية، البنتاغون، أنها تمتلك اللوحات وليس السجناء أنفسهم وأنها قد تقدم على حرقها أو إتلافها، بعدما كانت قد سمحت لعدد منها بالخروج عن طريق محامي المتهمين أو عرضها داخل المعتقل في الماضي. كما أعلنت أنها لن تسمح بعد الآن بخروج أي من تلك اللوحات ليس بسبب الأعمال نفسها، ولكن بسبب أصحابها وما يمثلونه بالنسبة إلى الكثير من الأميركيين أو السلطات الأميركية: "الإرهاب". ناهيك عن تردد بعض الأنباء عن أن تلك اللوحات معروضة للبيع ما أثار حفيظة البنتاغون بحجة أن الأموال قد تذهب "لإرهابيين" أو "منظمات إرهابية". 

 ولا يهم، بالنسبة للمعترضين، أنه لم يتم إثبات تلك التهمة على أغلبهم حيث اعتقل حوالي 800 شخص من العالم الإسلامي والعربي أو من دول غربية ينحدرون من أصول عربية أو مسلمة بتهمة الإرهاب دون أن يقدم أغلبيتهم الساحقة للمحاكمة، ناهيك عن تعرضهم ولسنوات للتعذيب الجسدي والنفسي. وكتب الكثير، وإن كان ليس بالقدر الكافي، عن أساليب التعذيب التي استخدمت في غوانتانامو وهي ممنوعة دوليا وحتى بحسب القانون الأميركي. كما تم تعذيب قسم منهم في سجون دول عربية وإسلامية من قبل السي أي إيه  أو في معتقل غوانتانامو العسكري. أما القلائل الذين وجهت التهم إليهم وتمت ”محاكمتهم“، فقد كانت المحاكمات أشبه بالمسرحيات الهزلية، بحسب محامين وصحفيين ونشطاء حقوق إنسان سمح لهم أحيانا حضورها. وكان الرئيس الأميركي، باراك أوباما، قد وعد بإغلاق المعتقل لكنه لم يتمكن من ذلك بشكل تام، ولم يتمكن إلا من تخفيض عدد المعتقلين فيه وإطلاق سراح أغلبيتهم الساحقة لكن ما زال فيه حوالي أربعين سجينا. وعرضت أعمال  أربعة من هؤلاء، الذين ما زالوا مسجونين، في المعرض الفني النيويوركي. وأما الأربعة الأخرون فكان قد أطلق سراحهم.

  

لوحة لجميل المزياني من الجزائر

تسيطر على اللوحات والأعمال المعروضة تيمة البحر، وهو من الأشياء القليلة "العادية" التي رآها المعتقلون لأيام فقط خلال اعتقال بعضهم الذي دام لأكثر من عشر سنوات.  على الرغم من أنهم كانوا على جزيرة يحيط بها البحر من كل جانب. وكانت السلطات الأميركية تحاول بشتى الطرق منعهم من رؤيته وإدخال نوع من الألفة إلى قلوبهم. فعكفت على إحاطة ساحات المعتقل، التي يخرجون إليها لبعض الوقت في النهار، بغطاء منعهم من رؤيته. وعندما كان الحراس يكتشفون أن السجناء تمكنوا من التلصص على البحر من فتحة ما بأحد الجدران، كانوا أولا يعاقبونهم وثانيا تضيف إدارة المعتقل طبقة "شادر" لحجب الرؤية، وهو نوع من الحرب النفسية. وتمكن المعتقلون ولأيام من رؤية البحر عام 2014، عندما أضطر السجانون إلى إزالة الشادر المحيط بالجدران السلكية بسبب إعصار كان يهدد ضرب المنطقة. 

 

هذا ما يشرحه منصور الضيفي، وهو أحد  السجناء السابقين والذي يستهل نصه الكاتالوغ المرافق للمعرض الذي يمكن الحصول عليه إلكترونيا كذلك، ويضم مقابلات مع محامين ومعتقلين سابقين. وكان الضيفي قد اعتقل لأربعة عشر عاما في غوانتانامو، وتم إطلاق سراحه في يوليو/تموز عام 2016  ويعيش الآن في صربيا. ويعمل على كتاب حول تجربته هناك.

 

في نصه، الذي نشر في جريدة النيويورك تايمز كذلك، يتحدث الضيفي عن معنى الرسم للسجناء فيقول "ستفعل كل ما بوسعك لكي تخرج بعقلك من الجحيم... لقد احتاجت أغلب هذه اللوحات إلى أشهر لإنجازها وإلى وأشهر أخرى للموافقة عليها. لقد تم تفتيشها ووضعها تحت الأشعة. فهي كانت محتجزة، مثلنا. هذه اللوحات قامت برحلة طويلة وصعبة ومنهكة للوصول إليكم. للقائكم فليذكركم البحر بأننا بشر" . 

 

أعمال اليمني معاذ العلوي

 

ولا بد أن تسيطر الخلفية السياسية وظروف إنجاز العمل على الزائر على الأقل عند البداية لكن سرعان ما يفرض جزء من الأعمال نفسه، كمجسمات السفن الشراعية جميلة الصنع. وكان لا بد أن أطرح السؤال، لأن المجسمات معمولة بدقة عالية مما بدا أنه خشب ومواد أخرى، ما إذا كان يسمح للمعتقلين باستخدام الأدوات الحادة في ورشات العمل، ليتبين من الشرح في الكاتالوغ أن المادة غير مصنوعة من الخشب وأن صاحبها، وهو اليمني معاذ العلوي، يشكو لمحاميه طوال الوقت من شح الأدوات. أما المجسمات فهي على ما يبدو مصنوعة من القليل المتوفر لديه من القماش وخيطان تنظيف الأسنان وأغطية زجاجات البلاستيك وغيرها. وكانت وكالة الاستخبارات الأميركية قد ألقت القبض عليه عام 2002 وما زال في المعتقل. وبحسب محاميه فإنه عندما يعمل على تلك المجسمات ولساعات طويلة يتخيل نفسه في عرض المحيط على متن تلك السفينة. 

 

لوحة لليمني محمد أنسي

ويستوحي بعض السجناء الآخرين أعمالهم من صور تطبع لهم ويقومون بتقليدها والبعض الآخر من خيالهم. وهذا ما تعكسه لوحات اليمني محمد أنسي الذي تم إطلاق سراحه قبل عام ويعيش في سلطنة عُمان وله عدد كبير من المشاركات. ويتفاوت مستوى أعماله الفنية من الناحية التقنية فمنها تلك الرمزية أكثر وأخرى نراه أتقن فيها لعبة الألوان وخلطها ورسمها بدقة لافتة للنظر، مثل التي تحمل عنوان "حياة جامدة باللون الأخضر". 

 

ومن الجدير بالذكر أن السلطات الأميركية اشترطت أن لا يقوم السجناء برسم أي شيء قد يوحي أو يعطي رمزا ومعنى لما يعيشونه تحت التعذيب. فتلك الرسومات التي وصلتنا ما هي إلا فتات لما كان يمكن أن يرسموه. هناك بعض الاستثناءات لما سمح بخروجه أحيانا، على الرغم من أنه قد يرمز إلى التعذيب أو قد يعبر بشكل مباشر عن الحالة النفسية والجسدية التي يعيشها المعتقل وهو ما منع رسمه أو خروجه. واحدة من تلك الرسومات للكويتي من أصول باكستانية، عبد العزيز علي، والمعروف باسم عمار البلوشي، وهو الوحيد من بين الأشخاص الثمانية الذين تعرض أعمالهم الفنية والذي وجهت له تهم رسمية بالتواطؤ في التخطيط لعمليات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول .

 

لوحة لعمار البلوشي

 

يحمل الرسم عنوان "دوار في غوانتانامو" وفيه يصف البلوشي حالة الغثيان والدوار الذي يعاني منه نتيجة إصابات في الدماغ بسبب التعذيب الشديد الذي تعرض له ولسنوات. وبحسب محاميه فإنه رسم تلك اللوحة لكي يشرح له تلك الحالة المستمرة من الغثيان والدوار التي يعيشها. أما أعمال أحمد رباني والذي يوقع أسمه بـ "بدر" فتتميز بدقة وحساسية ورمزية وخلط مثير للألوان المعبرة، لكن ما سمح بخروجه لم يكن إلا القليل. 

 

من غير الواضح متى قررت الإدارة الأميركية بالضبط البدء بإعطائهم دروسا في الرسم والفن كنوع من العلاج. هناك تقديرات مختلفة لكن أغلبها يعود إلى العام 2009 أي بعد تولي أوباما لسدة الحكم. ولم تكن تلك الدروس متاحة للجميع وبالذات ليس لأولئك الذين كانوا في حبس انفرادي قد يستمر لسنوات وقد عرف بالحجز رقم 7. وإضافة إلى القواعد الصارمة وقائمة الممنوعات الطويلة والظروف التي أنجزت هذه الأعمال تحتها فلا بد من الإشارة إلى أن الإدارة الأميركية كانت قد أقامت معرضا داخل المعتقل دعت إليه صحفيين، طبعا مع تحديد مسبق لأماكن ذهابهم وتحركهم... إلخ، ولا شك أنها كانت محاولة لـ "تبييض" صورتها. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.