}

الأميرالاي شخصية روائية تقفز من صفحات رواية لم تكتب

محمد ملص 1 أكتوبر 2017

كان للتغييرات التي حدثت في المؤسسة العامة للسينما، في منتصف السبعينات، بما حملته من معان ودلالات، أن وضعت السينما السورية أمام "مأزق". فالانتقاد الشديد للأفلام التي كانت قد تحققت، وصل إلى درجة منع البعض من صانعيها من الدخول إلى المؤسسة العامة للسينما. وكان للتوجهات بإعادة تشكيل خارطة السينما أن انعكست على العلاقات بين السينمائيين أنفسهم.

ولسياسة الإغراء والجذب بتحول هذه العلاقات إلى صراع أصبحت الأجواء السينمائية متوترة، يطغى عليها الحذر والتردد. وتحولت حياة كثير من السينمائيين إلى ما يشبه "حمأة" متصاعدة من الحوار والنقاش والاختلاف. في المقابل بدا أن عمر أميرالاي، من خلال العلاقة المنفتحة التي نشأت بيننا، لا يولي أهمية كبيرة لما حدث، مع أن فيلمه "الحياة اليومية في قرية سورية" كان دريئة للطلقات التي تطلق على المرحلة السابقة. ولعله كان السبب المباشر للسعي إلى وضع التوجه الجديد لإنتاج الأفلام والسيطرة بحزم على الأفلام، وفق "الصورة" التي يجب، وليس وفق "التصور" لأي من السينمائيين.

خلال الحوار بيننا، كان عمر يعتقد أن الأهم ليس ما حصل بل ما يجب فعله. ولم يكن يخفي شعوره بــ" إيجابية" أي "سلبية" تحدث. فكان آنذاك يرى أنه يجب رؤية الواقع بشموليته والتفكير بالشيء الرئيسي في هذا الواقع، وأن السينما ليست إلا تفصيلاً في الصورة العامة لا تختلف عنه. وبدا كأن ما حدث لم يفاجئه وأن نقد الأفلام التي حققها لا يعنيه، فهي أصبحت وراءه. لم تثيرني هذه الأفكار "النضالية"!، فقد كان المهم بالنسبة لي أننا لا نختلف في أن السينما في حال من "البؤس"، وأنه من المثير أن يعتبر أفلامه وراءه. وعبرت له عن أنه حر فيما يراه لنفسه ولأفلامه، فلتكن هكذا بالنسبة لك! لكنها ليست كذلك أبدا بالنسبة للسينمائيين وللسينما السورية. بدت لي مقولته هذه، ليست إلا جموحا "تطهريا" في "منولوجات" النقد الذاتي... فقد كان يأنف من التعبير عن أحاسيسه. وتساءلت مع نفسي عن الدافع الداخلي الذي يحركه، وعن مرجعية تلك النزعة المترفعة من التعبير عن العالم الداخلي. في ما تلا من الأيام، وخلال لقاءاتنا، فقد خصني فيها بالتعبير عن نفسه بعناوين رئيسية "لقد ربتني الوالدة منذ الطفولة على الرفض"، وأن "معايشتي لأحداث 68 في باريس ساهمت في إغناء ثقافة الرفض وحس التمرد"، وأن هذه المعايشة اليومية بقيت تحمل تأثيرها في قراءته ورؤيته للواقع، وأن السينما ليست مهنة، بقدر ما هي أداة، وأن أهميتها حين تستطيع أن تساهم في الحراك والتغيير. كان عمر في هذه اللقاءات من الوعي والحذاقة بحيث يصعب أن تحس برائحة شيء من "دوغمائية" في التفكير. فهو لا يخفي مصادره ولا ميله وانجذابه للشخصيات الأيديولوجية المتمردة. ومهما اختلفت معه والطريقة التي يفكر بها فإنه يقودك دائما إلى أن تشعر أنه "هنا" و"الآن"، وأنك تتفق معه في ما هو هنا والآن. لم يكن عمر موظفاً ويرفض أن يكون، بل يربأ أن يكون مأمورا من أحد. وعليك أن تشعر أنه شخص بلا قيد، وأن السينما التسجيلية التي كانت وراء انخراطه في السينما خيار ثقافي وسياسي، وهي تعكس تأثره بنماذج خاصة من السينمائيين. ففي كثير من الجدل الجميل والمهم الذي كان يدور بيننا اعتبر أن السينمائي الروسي "فيرتوف" ملهمه. لم يكن لديه - آنذاك - تصور محدد لمشروعه السينمائي، فالإبداع متروك للزمن. ولم يكن يهتم بأن يفصح عن الفيلم الذي يريد تحقيقه، إلا بعد أن يعثر ويختار "فكرة" الفيلم مهما يطول الزمن في هذا البحث.

أعتقد أن هذه "الأريحية " في العيش هي نتيجة لوسط اجتماعي مرتاح. بينما كنت آتياً من وسط اجتماعي أقل ارتياحا وأكثر شعبية، وإنني أعطي الأهمية الكبرى للرؤية الذاتية وللتجربة التي عشتها، وأن ما نشعر به الآن من حرص ومودة متبادلة كاف لهذه الصداقة التي نحتاجها معاً.

***
في الوقت نفسه كان حال السينما آنذاك يشعرني أننا سينمائيان يعيشان حالة غامضة من الصد والعطالة. وأن لدينا الوقت المفتوح للالتقاء والحكي حول كل شيء عام أو خاص. فنحكي بوعي وسخرية وخيال.. كأن الوقت هو كل ما لدينا. وكثيرا ما كان يبدو لنا أن "الصورة" العامة واضحة، وفي مرات أخرى تبدو غامضة ومحيّرة. إلا أن التناقضات غالبا ما كانت تطفح على الكثير من الصور، وترسم "جدريتها" على ملامحها. في آذار/ مارس من ذاك العام (75) كان علي الالتحاق بخدمتي العسكرية، والتي قضيتها بين حلب والنبك ثم دمشق. ففي لقاءاتنا آنذاك أخذت السخرية اللاذعة تغمر كل شيء، لتخفي شعوراً بالمرارة وهذا العجز الأخرس. فأخذت أحس أنه يبدو لي أشبه بشخصية روائية، تقفز من صفحاتها، وتتسلل إلى دهاليز عالمي الداخلي كرواية لم تكتب. وأن هذه الروائية التي تبدو لي في شخصيته، تخفي وراءها عالما داخليا خاصا، وطاقة إبداعية كبيرة حبيسة، وأنه يلجمها بفيض من موجات السخرية. لكنها تحتاج إلى الهواء والأمان والانخراط في التجربة، بدلا من العزل. لكني حينها لم أكتب شيئا، وكنت تحت ضغط قوي في أن أكرس هوسي بعيدا عنه، وإنجاز روايتي الأولى "إعلانات عن مدينة كانت تعيش قبل الحرب" التي كنت بدأت كتابتها في موسكو. كان من الواضح أنه من الصعب النجاة من عبث الوضع السينمائي في المؤسسة العامة للسينما، أو أن نتوقف عن الحلم بالأفكار والمشاريع. فكان لا بد من إيجاد ملاذ سينمائي، وفضاء يلتف حوله السينمائيون، فكانت فكرة إحياء النادي السينمائي بدمشق والاستغراق في نشاطه. وقد ساعدني على ذلك، وضعي خلال خدمتي العسكرية، الذي استقر على دوام يومي في الاستديو العسكري. فأصبح النادي بنشاطه، ملتقى للمثقفين والطلبة والشباب، وأشبه بمتراس نحتمي وراءه، في قراءتنا ونقدنا للواقع. لم يكن هذا يكلفنا، إلا وقتنا الذي بدا أن لا شيء آخر له قيمة أكبر أمام أهمية هذه "المناحرة" عبر السينما مع الأحوال السائدة. لقد منحنا هذا الاستغراق في الواقع والتماس المباشر معه، الغنى في الخبرة والوعي، وأخذ يطور في نظرتنا لبلدنا والواقع العربي المحيط بنا، وفي "أرضنة" الأفكار التي نطمح للوصول إليها. في العلن لم يكن الباب مغلقا أمامي في "التلفزيون"، حيث أعمل في دائرة للإنتاج السينمائي، لكن المحاولات العديدة لتحقيق فيلم، أظهرت أنه باب لا يفتح إلا على سراب. ففي صدفة التقيت بها في الشارع، صديقا لأيام الطفولة في القنيطرة، كان عائدا لتوه من رومانيا، يحمل شهادة دكتور في "الأعلاف".

كان لحظتها يبحث عن مكان المؤسسة التي عليه أن يبدأ حياته في العمل فيها. خلال لقاءاتي المتعددة معه، أثار لدي تخصصه وأحواله، الإحساس بأني عثرت على مشروعي الروائي. فبدأت أحاول متابعته لكتابة سيناريو "الأبله". مع بداية عام 77، قام عمر بزيارة قرية صدد في ريف حمص، كان على معرفة بها قبل سنوات. فأثارت لديه اهتماما خاصا أخذ يشغله. فباح لي ولصديقنا قيس الزبيدي (المصاب بالضربة القاتلة، فيما حدث في المؤسسة) وحدثنا عن هذه القرية، وعن الانطباع المتولد لديه من زيارته. وأشعرنا بأهمية تحقيق أكثر من فيلم عنها. قمنا بزيارة مشتركة لصدد، وتجولنا في أرجائها، وتعرفنا على العديد من سكانها من مختلف البيئات والشرائح، وقضينا وقتا طويلا مع الكاهن في تلك الكنيسة التاريخية، والذي كان على معرفة قديمة مع عمر. بعد هذه الزيارة، تبادلنا الأفكار والآراء، وقررنا اللجوء إلى التلفزيون، حيث أعمل.

(كانت فكرة "الثلاثية" سائدة في السينما السورية، للهروب من مشكلة وجود العديد من المخرجين المنتظرين، وإسكات ثلاثة مخرجين في فيلم واحد). فتقدمنا ثلاثتنا بفكرة تحقيق "ثلاثية وثائقية" ذكرنا فيها: "قرية صدد من القرى ذات الجذور التاريخية الهامة. كانت مركزاً اقتصادياً فعالاً، يربط البادية السورية بالمراكز الأخرى. فأكسبها هذا الموقع مميزات متعددة، انعكست على حياة قاطنيها. لكن الظروف المناخية وضعت سكانها في شروط قاسية، دفعت الكثيرين للهجرة. في محاولة سكان صدد مقاومة شروط الحياة القاسية، بدأوا بحل مشكلة الخراب الاقتصادي الذي ضربهم، بابتكار أشكال إنتاج جديدة. في مشروعنا السينمائي، نطمح إلى تناول القرية من خلال، ثلاثة آفاق، يكمل كل منها الآخر، في إطار وحدة سينمائية. تقوم على اللقاء مع السكان، والسعي إلى الإجابة عن الأسباب التي أدت لاستنباط شكل جديد من الإنتاج وتحول القرية من الزراعة إلى إنتاج البيض. مع استعراض لواقع القرية الحالي، وحياة نماذج من سكانها، والهموم والاهتمامات التي يعيشها أبناء القرية. ورصد الاحتمالات والتطور الممكن، ومدى تعميم ذلك على الريف ككل. سيتخذ الفيلم شكل الثلاثية، يتناول كل مخرج على حدة، مرحلة من المراحل، ماضي صدد وواقعها من قبل، القرية حالياً، احتمالات التطور والمستقبل المتنظر. وستتضمن الثلاثية خاتمة مشتركة تتناول الجوانب الوجدانية والاهتمامات التعبيرية لسكانها". لا أتذكر جيدا ما الذي حدث بعد ذلك، باستثناء تصور إدارة التلفزيون بأن "صدد" لا تستحق هذه الدرجة من الاهتمام، واتخاذها نموذجاً. فتمت الموافقة على فيلم واحد. فكان الفيلم الجميل "الدجاج" لعمر أميرالاي.


***
في ليلة صيفية من عام 76، مررت بعمر في بيته، لأجده غارقا في قراءة كتاب سميك بالعربية، والمثير آنذاك أنه كان محاطا بالعديد من المجلدات والكتب الضخمة. اختطفت نظرة سريعة عليها، فوجدت أنها من كتب التراث، التي كنا نهزأ بها وبقارئها. وفاجأني عمر حين قال بأنه لم يتأكد بعد من ضرورة القيام بمشروع فيلم عن "قبل ألف عام". حاولت أن أعي ما قاله، مستغربا هذه الفلتة الروائية، ومتسائلا عن تلك المغادرة للحاضر والالتفات إلى الماضي.

أجابني بدعابة:
- ماض لحاضر، وحاضر لماض!
نظرت نحوه فلاحظت الجدية في ما يقوله. فأضاف:
- "القرامطة"! 
للوهلة الأولى بدت لي هذه الكلمة، لها رنين له مكان ما بعيد، في ذاكرتي.
فابتسمت وغمزت ممازحا:
- شو استاذ عمر؟ يبدو أنك تسير نحو الروائي؟!
فابتسم مغالبا وقال:
- بنزعة وثائقية!
- لكنه روائي!
- هي السينما! 
- التي تحتاج للكتابة!
- نكتبها!
- من؟  
- نحن! 
تناولت من جواره أثقل كتاب وأكثرها سماكة وقلت مودعا:
- أحس أن مشروعا كهذا، أكبر من أن نكتبه نحن!  
وبينما كنت أهبط سلمه قال:
- ما في حدا أكبر منا يا محمد! 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.