}

خليفة الدرعي: سيرة الألم

أشرف الحساني 2 أكتوبر 2017

لا أحد يجادل اليوم في المكانة التي حظي بها الجسد في الثقافة العربية المعاصرة، فقد شكل في السنوات الأخيرة أحد أهم الموضوعات الخصبة للكثير من الدراسات الفلسفية والفنية والنفسية والأنثروبولوجية. إذ تبوأ مكانة مهمة أهلته ليكون مدار بحث مستفيض لمختلف العلوم التي تعنى بدراسة الفنون، لذلك عمدت الدراسات النقدية المعاصرة إلى وضعه في مقدمة برنامجها من أجل استقصاء ودراسة جوهر العمل الفني. فنشأ حول هذا المفهوم عمارة معرفية دشنها أولا فلاسفة غربيون نذكر منهم: ميرلو بونتي، جيل دولوز. إضافة الى جملة من الباحثين والنقاد المغاربة، الذين انصرف اهتمامهم وتفكيرهم إلى أمر الجسد منهم: عبد الكبير الخطيبي، فريد الزاهي، موليم العروسي وغيرهم من النقاد والباحثين المتتبعين للفعل الفني العربي، الذين نظروا وقعدوا له بشتى تفرعاته وتلاوينه، وإن كانت محاولات بعض الأسماء داخل وطننا العربي لم تخرج من طابع الإسقاط والعمومية والوصفية والتسويغ المنحرف لبعض الأفكار والمفاهيم، التي ظهرت وتبلورت وفق التاريخ والسياق الفني الغربيين.

ويعد الفنان التشكيلي المغربي خليفة الدرعي، واحدًا من التشكيليين المغاربة الشباب، الذين قدموا الشيء الكثير لمنظومة الجسد داخل الممارسة الفنية للحساسية الجديدة في التشكيل المغربي، نظرًا إلى التقصير والتهميش والحيف، الذي ظل يعاني منه مفهوم الجسد في ثقافتنا العربية، وبالتالي تعذّر علينا تأسيس ووضع تصور فني جمالي وفلسفي للجسد، باعتباره كيانًا مستقلاً متعدد الدلالات. ومرد ذلك حسب الناقد والباحث الأنثروبولوجي فريد الزاهي إلى كون المباحث التي يجد فيها الجسد ضالته وملاذه الآمن وموطنًا فكريًا له "كالتحليل النفسي والفلسفة والأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع، ضعيفة الانغراس في تربة الثقافة العربية المعاصرة أو متلعثمة الفكر أو تعيش لحظة التكوين، فإن الجسد ظل يعيش على تخوم الفكر والتفكير تتدخل في ذلك أحيانا عوامل ذات صبغة أيديولوجية محضة ترتبط الى هذا الحد أو ذاك بتصورات طهرانية أو روحانية أو بمنزع تحريري مغرق في الآنية والتجريد"(1).


ولد خليفة الدرعي سنة 1980 داخل أسرة فقيرة ومهمّشة اشتهرت بصناعة الخزف، بمدينة زاكورة الواقعة بجنوب المغرب، لما تزخر به هذه المدينة من موروث فني وطبيعي متمثل في النخيل والواحات والقصور العمرانية الضاربة في القدم، فضلاً عن ذلك الوادي الفسيح الشاهد على زمن جيولوجي غابر، والممتد على مسافة أكثر من 200 كلم وراء سلسلة جبال الأطلس من منطقة أكدز إلى منطقة محاميد الغزلان، ومن جبل صغر إلى ضفاف الصحراء. بدأ خليفة الدرعي مسيرته الفنية بعد نزوحه من مدينة زاكورة مسقط رأسه وقلبه إلى مدينة الدار البيضاء، وهو صبي يبلغ من العمر 4 سنوات رفقة والدته وإخوته بحثًا عن لقمة عيش، ليواصل تعليمه بشقيه الابتدائي والثانوي، ويتوج ذلك بحصوله على بكالوريا فنون تطبيقية، ثم على دبلوم مدرسة الفنون الجميلة بالدار البيضاء، ثم على الإجازة في الفلسفة تخصص جماليات معاصرة، بعد أكثر من 10 سنوات من التسكع بين الخمارات والحانات. وقد أقام خلال هذه المدة من تكوينه وتحصيله العلمي الكثير من المعارض الفردية والجماعية في كل من؛ الدار البيضاء، جرسيف، مراكش، أكادير وغيرها من المدن المغربية. هذا إضافة الى تعزيزه لتجربته الفنية بجملة من المقالات الأدبية والفنية في عدد من الدوريات والمجلات والجرائد الوطنية منذ تسعينيات القرن المنصرم إلى اليوم.




إن أول ما يثيرك ويستفزك ويلفت انتباهك وأنت واقف مشدوهًا إلى المنجز الفني التشكيلي لدى خليفة الدرعي، هو هندسة الجسد القبيح لكائناته الغرائبية المشوهة التي تعج بها لوحاته، والتي ما هي في الحقيقة الا شخوص بئيسة تنتمي إلى عالم سفلي يعيش فيه، هو عالم السكارى والحشاشين والشحاذين والمعطوبين. إنها ثورة فنية صادقة لاكتشاف جماليات بصرية جديدة مستلهمة من واقعه وسيرته وتنقلاته اليومية بين الحانات الليلية الرخيصة. فقد كشف خليفة الدرعي في معارضه الأخيرة في عدد من المدن المغربية، وذلك منذ دراسته للفلسفة عن نزوعه الغريزي إلى ثيمة الجسد القبيح laid باعتباره قيمة ومفهومًا جماليًا جديدًا يتوسل به الفن المعاصر، لتجديد نفسه ومحاولة اجتراح أفق فني بصري جديد، منذ مارسيل دوشان وسالفادور دالي. إضافة الى تحريره للجسد من كل تلك الأشكال والمواضعات الفنية والجمالية الكلاسيكية التي طبعت الحياة التشكيلية في المغرب بالكثير من التعفن والرتابة الحرفية المملة، فجاءت لوحاته مليئة بالجسد المتخيل العجيب وبالعابر والزائل والمتلاشي وبتواري الموضوع والمعنى داخل اللوحة، وهي إحدى سمات ومميزات الفن المعاصر. فالفن حين يحاول "تجميل وجه العالم، ويقدّمه لنا على طابق فاخر يعتبر الاكتمال الجمالي ميزة أخلاقية ووجودية، فإنه يمارس علينا خدعة كبيرة، يدغدغ حواسنا ويرسم لنا صورة مثالية، بل مستحيلة عن كياننا البشري والاجتماعي".(2)


بزغت أعمال خليفة الدرعي على الساحة التشكيلية المغربية في وقت كان فيه المغرب يرزح تحت تأثير بعض الأقلام النقدية الداعية إلى الخروج من تبعية الثقافي للسياسي وفك الحصار عن بؤس الفنان المغربي وموروثه الثقافي والفني، بغية ابتكار هوية فنية عربية حقيقية، تنأى بنفسها عن جل ما أنتجه الغرب. لذلك جاءت أعماله الأولى تعبر عن قلق الجسد أمام واقعه المتشظي، مجردًا بذلك الجسد إلى حد الأثر، من خلال إذابته داخل فضاء اللوحة عبر اللون الأزرق في كثير من الأحيان. مفككًا إياه قبل أن يعيد تركيبه وهندسته مرة أخرى، وفق تصور فني جمالي وفلسفي بشاعرية مغرقة في متاهة التفاهة والألم. لذلك فإننا نجد أن وراء المشروع الفني والجمالي لدى خليفة الدرعي يركن سر، وهو الاعتراف بالتفاهة المتأنقة للواقع البائس الذي يعيش فيه، من ثم يجعل من هذه "التفاهة" مادة يعمل على تحويلها وبلورتها كقيمة أساسية فنية باعتبارها متعة استيطيقية. ذلك أن التفاهة بتعبير "جان بودريار" خاصية سرية لا يمكن لأي كان أن يطالب بها. من ثم فهي غزو الخواء لقلب نظام الأدلة.

هكذا نجد أن تجربة الفنان المغربي خليفة الدرعي، قد نحتت لنفسها مسارًا ناجحًا بعد مخاض عسير تجاوز 20 سنة، تشكل اليوم حصيلة فنية متميزة ومتفردة داخل جدارية تشكيلنا المغربي، تنمّ عن روح قلقة تجاه واقعها المتشظي المنفلت من قبضة المنطق. تلمح إلى اشتغال فني وجمالي وفلسفي دؤوب، مقارنةً مع فنانين مجايلين له، تنعدم في أعمالهم الخبرة العملية والرؤية الفنية ببعديها الجمالي والفلسفي، وهو الأمر الذي فطن إليه خليفة الدرعي منذ دراسته للفلسفة.




الهوامش:

(1) – فريد الزاهي، الصورة والمقدس في الإسلام، أفريقيا الشرق، الطبعة الثانية 2010، ص: 7.

(2) – فريد الزاهي، فتنة الحواس: كتابات عن الفن العربي المعاصر، الطبعة الأولى 2016، ص: 47.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.