}

جان ميشيل باسكيات: معرض ضخم في لندن لفنان "خيميائي"

ابراهيم قعدوني 22 سبتمبر 2017
تشكيل جان ميشيل باسكيات: معرض ضخم في لندن لفنان "خيميائي"
لوجة لجان ميشيل باسكيات
 

لندن على موعد مع أضخم معرض من نوعه لفنان الغرافيتي الأمريكي جان ميشيل باسكيات (1960-1988).

 

في ربيع العام 1982، سَرَت شائعات في الأوساط الفنية النيويوركية عن أنَّ في قبوِ مُنظِّمَةَ المعارض الأمريكية المعروفة آنينا نوسيي ولدٌ عبقريّ غامض وبريِّ يعكِفُ على رسمِ تُحف فنيّة، وأنَّ أحداً لا يعلم من أين جاء الفتى. لم يكن ذلك اليافع سوى جان ميشيل باسكيات الذي سيخرُج من معسكره المغلق في قبو آتينا نوسيي في وقتٍ لاحق ليصبح واحداً من ألمع فناني الغرافيتي في أمريكا والعالم. وقتئذ، حينَ عَلِمَ باسكيات النّزِق الذي ظلّ ينتقد الهرم الاجتماعي في أمريكا حتى نهاية حياته، بما يتناقله النيويوركيون حول "غرائبيّة حكايته" علّقَ ساخراً بالقول: "يا إلهي، لو كنتُ أبيض لقالوا ببساطة إنَّ في الجوارِ فناناً صاعِداً".

وُلِد جان-ميشيل باسكيات في الثاني والعشرين من شهر كانون الأول/ ديسمبر عام 1960 في ضاحية بروكلين في مدينة نيويورك الأمريكية لأبٍ هاييتي يعمل مُحاسِباً ولأمٍّ بورتوريكية تعشق الرسم ولطالما اصطحبته إلى المتاحف أيّام طفولته، ورحل في ريعان شبابه عام 1988 تاركاً سيرَةً فنيةً مليئةً بالمفارقات.  

يصنّف النقّاد جان-ميشيل باسكيات ضمن التعبيريين الجُدُد، ويُعرَفُ عنه أسلوبه البدائي حيثُ يطغى على لوحاته مشهد متداخل من الرموز والكلمات وأشكال الحيوانات. تطالع اللون الأسود في الخلفية على نحوٍ شبه دائم، فيما يحضر الأخضر والأزرق في مساحات أقلّ.

بدأ باسكيات مسيرته الفنية برسم لوحات الغرافيتي تحت الاسم المستعار "سامو" وذلك على جدران محطات قطارات الأنفاق في مدينة نيويورك قبل أن يجد طريقه إلى عالم الشهرة بعد أن وقعت عليه عينُ آندي وارهول، الرسام وصانع الأفلام الأمريكي الذي ارتبط اسمه بحركة فنِّ البوب في النصف الثاني من القرن العشرين.


في مذكرات وارهول

كانت المرة الأولى التي ذَكَر فيها وارهول باسكيات في الرابع من شهر تشرين الأول/ أكتوبر سنة 1982 وذلك في مذكّراته التي كتب فيها قائلاً: "إنه أحد أولئك الفتية الذين يخطفون عقلي". سُرعانَ ما انخرط الإثنان في صداقة حميمة امتدت لبضع سنوات وتُرجِمَت من خلال تعاون فنيّ أثمر نحو 140 لوحة، إلاَّ أنَّ انفرط عقد صداقتهما انفرط سنة 1985 بسبب تاثُّرِ باسكيات بالانتقادات السيئة التي تعرّض لها معرضهما المشترك في غاليري طوني شافرازي، وفي حين اتّهم بعض النقاد وارهول بالتخلّي عن صديقه باسكيات في الظروف التعيسة التي مرّت بالأخير بعد إدمانه المخدّرات، إلاّ أنَّ مذكرات وارهول تكشف عن مدى محبته لباسكيات وأساه الشديد لما فعله الأخير بنفسه. كان من المفارق أن يرحل وارهول قبل باسكيات بسنةٍ واحدة ليدخل الأخير في اكتئابٍ طويل زادَ من ورطته الهيرويينية وعزلته عن العالم. 



تشرّد باسكيات طويلاً في مراهقته بعد أن غادر بيت والِدَيه، نامَ على المقاعد الخشبية في حديقة تومبكينز سكوير حتى سنة 1980 إذ لمع نجمُ الفتى الذي كان متشرّداً ومفلساً تقريباً يمضي الليالي في الحانات والأندية الليلية ليظفَرَ بفتياتٍ يؤينَهُ إلى مخادعهنّ. وقد حدث في ذلك العام أن عرَض أعماله للمرة الأولى في معرضٍ حمَل اسم "معرض تايمز سكوير" شارك فيه فنانون آخرون مثل كيني سكارف وجيني هولز وكيكي سميث.

"متشرد" فحسب

 بعد ذلك تلقّفته السينما ليشارك بدور البطولة في فيلمٍ يدور حول قصة حياته لم يُعرض حتى العام 2000 بعنوان Downtown 81 أي "وسط المدينة 81" (ومن المقرر أن يُعرَضَ ضمن فعاليات المعرض الذي تستضيفه لندن)، ومن المفارقات التي طبعت سيرة الفنان الراحل أنَّ الممثل الذي شاركه البطولة في الفيلم وهو ديبي هاري كان قد اشترى إحدى لوحاته في ذلك العام بمبلغ 100 دولار أمريكي، أي بسعرٍ ينقصه ستة أصفارٍ قياساً إلى السعر الذي وصلته إحدى لوحاته التي بيعت بمبلغ 100 مليون دولار أمريكي لميلياردير ياباني! وهو أعلى رقم تحققه لوحة لفنانٍ أمريكي في التاريخ.

"كان يرتدي معطفاً أكبر من مقاسه بنحو خمس مرّات"، تقول سوزان ملّوك الفنانة القادمة من كندا إلى نيويورك والتي التقته في أحد حانات نيويورك حينما كان يقف بعيداً عن البار محدّقاً فيها وقتَ لم يكن لديه ثمن مشروب، "اعتقدتُ أنّه متشرّد وحَسْب"، تقول سوزان، "إلاّ أنّه في اليوم التالي اقترب من البار وفرَدَ أمام النادل حفنةً من السنتات وطَلَب كأساً من أفخم مشاريب البار آنذاك وكانت قيمته نحو سبعة دولارات، اقترب منّي وبدأنا نتحدث لأكتشف الكثير الكثير مما يجمَعُنا. بعد ذلك اتّجهنا إلى شقّتي حيثُ عشنا معاً لبعض الوقت"، تضيفُ سوزان التي أصبحت تُعرَفُ لاحقاً باسم "أرملة باسكيات"، والعبارةُ أصلاً مأخوذة عن عنوان كتابٍ صدر عام 2014 لمؤلّفَتِهِ جينيفر كليمينت، وهي الصديقة المقرّبة من سوزان ملّوك التي عايشَت الكثير من تفاصيل العلاقة المضطّربة بين باسكيات وسوزان التي تقول بأنّ مأساة باسكيات كانت على خلفية سبَبَين الأول هو إدمان باسكيات على المخدّرات والثاني هو "البارانويا التي استحكمت بحياته وأفكاره"، والكلام لسوزان. "كل ما فعله باسكيات كان موجّهاً ضد العنصرية"، تقول سوزان ملوك.

أصبحت لوحات باسكيات بين عشيّةٍ وضحاها بين أكثر اللوحات اقتناء في أوساط النجوم والمشاهير في العالم وليَجِدَ اسمه طريقاً إلى أغنيات الهيب-هوب لدى أقرانه من السود الذين رأوا فيه مثالاً يُحتفى به. حتى أنّ مادونا، وقعت في غرام باسكيات وقد تواعَدا طيلَة أشهرٍ أواسط الثمانينيات.  

تتلاشى الحدود بين الصورة/الرمز/الإشارة وبين الكلمة في لوحة باسكيات، إذ تكاد لا تخلو لوحةٌ من لوحاته من الكلمات، ثمّة دوماً عنصرٌ نصيٌّ حاضر، ويبدو أنّ الرسام الذي في داخله كان مولعاً بالكتابة في صورةٍ ما، بالخربشة ربّما، فمن المألوف أن تقع عينك على كلمات وخربشات معطوبة ومصححة في اللوحة نفسها، حتى أنك قد تعثر على هوامش وملاحظات ربّما وضعها باسكيات في أوقات متباعدة في اللوحة نفسها.

ثمّة مسحة خيميائية تطبع أعمال باسكيات، تجد أيضاً مفردات مثل قطة شريرة وجثّة وصابونة سوداء وقطن وتاج وملك ومخلب وحرية وأسد وحليب وزنجي وعبارات مثل: "لاشيء تربحه هنا".. تلك أبجدية كلماته التي صنعت عوالمه. 

يتأكد انطباع كهذا بما كشفته الملاحظات التي دوّنها باسكيات في ما يبدو أنه دفتر ملاحظات لطالما رافقه في جيبه وقد نُشِرت في الآونة الخيرة نسخة طبق الأصل من الدفتر من قِبَل دار نشر برينستون وهي مليئة بالعبارات المتناثرة والتراكيب اللغوية الغرائبية.

لم تكن حياة باسكيات بأقل إثارةً وتشَظّياً من رسوماته، فقد انفصل والداه حين كان في الثامنة، وفي ذلك العام صدمته سيارة بينما كان يلعب الكرة في الشارع ليمضي نحو شهر في المستشفى بذراع مكسورة وإصابات أخرى استدعت استئصال كبده.

 كانت هدية أمّه له في حينه نسخة من كتاب علم التشريح لغراي، وهو الكتاب الذي أصبح بمثابة نصٍّ تأسيسي في حياته يشبه مخطوط التمائم والتعاويذ الذي لساحرٍ فنان. أحبّ الفتى استكشاف المبنى الداخلي لجسد الكائن، إلاّ أنّه أحبّ أيضاً الطريقة التي يمكن من خلالها اختصار الجسد إلى خطوط مفرغة من أجزائها المكوّنة. وفِي وقت لاحق سيعود باسكليات إلى الخطوط البدائية، سيرسم كما لو أنه الإنسان القديم يوثق وقائع مشاهداته على جدران الكهوف بالصور والإشارات والرموز التي سيطوّرها باسكليات لتكون عناصر لوحته وأدواته التعبيرية في الوقت الذي سيحافظ فيه على بدائية أسلوبه الذي اعتمد تقنياتٍ غاية في البساطة دون أن يفقد طاقته التعبيرية الثرية.





"زنجي" مثل القطن!

كان هنالك كلمات هي الأكثر تكراراً في أعماله، أسماء كان يلجأ إليها دوماً كتمائم وتعاويذ لغوية لإبعاد أشباح الواقع. لا بد وأن ذلك كان يعكس ازدواجية الكلمات والمعاني التي اختبرها بنفسه. ينطبق ذلك على كلمة "زنجي" مثلاً، "القطن" أيضاً كان يرمز إلى العبودية، إلاّ أنه كذلك كان يشير إلى مصفوفةٍ أخرى من الدلالات التي تتحدد "بموقع قوّة صاحبها" كما اعتاد باسكيات قوله.  

حمل باسكيات علبة دهانه البخاخة وراح ينقش وشومه فوق جلد المدينة، مدينة نيويورك التي عرفته متشرداً ينام في حدائقها مثلما عرفته نجماً تتخاطفه الأضواء وتشغل صورته الأغلفة الأمامية لكبريات الصحف والمجلات وهو يجلس حافي القدمين في حركة صارت مألوفة عنه للتعبير عن استخفافه بالواقع الأمريكي وبتراتبيته الهرمية التي تحكم كل شيء.

 كان ذلك التمرّد قد بدأ باكراً منذ العام ١٩٧٧ حين راح باسكيات يشنّ هجماته الفنية على جدران الوسط العريق لنيويورك حيث أكابر الفنانين في سوهو ولووير إيسترسايد. كانت العبارة الأشهر التي حرص على خطِّها دوماً فوق الجدران الفارهة لقلب نيويورك هي عبارة "The Same Shit" التي كانت موجّهةً للشركات الكبرى التي هيمنت على كل شيء من حوله.

في واحدةٍ من أشهر لوحاته وهي بعنوان «تشويه Defacement» كان قد رسمها إثر مقتلِ فنان الغرافيتي الأفرو-أمريكي ميشيل ستيوارت الذي قضى بعد تعرّضه للضرب على أيدي ثلاثة من رجال الشرطة الذين انهالوا عليه ضرباً حينما كان يرسم فوق أحد جدران محطات قطارات الأنفاق ليدخل في غيبوبة انتهت بمفارقته الحياة بعد أقل من أسبوعين على الحادثة. كان وقع الصّدمة مهولاً على باسكيات الذي هرع إلى استديو كيث هارينغ ليرسم اللوحة على أحد جدران الاستديو وهي التي أصبحت لوحةً ذائعة الصيت في وقتٍ لاحق برمزيّتها في سياق الحركة المناهضة للعنصرية.  

تُصوّر اللوحة الشرطة بوجهين على هيئة شخصية بينش الشرير وهم يرفعون هراواتهم في وجه الفتى الأسود الذي يعبر بينهما كظلٍّ نحو السماء. يومها قال باسكيات: "يا إلهي، كان من السهل أن أكون الضحية بدلاً من ميشيل، كانت تلك مصادفةً فحسب". كان من اللافت أنّ باسكليات خطَّ كلمة "تشويه" بالإسبانية كما يظهر في الصورة أدناه:   “¿DEFACIMENTO?” وقد أتبعها بإشارة الاستفهام كأنما ليتساءل قائلاً: تشويه؟ تشويه مَن؟ وجه من الذي شُوِّهَ حقاً؟

 

 العالم هو نحن

ربما كانت الوحدة هي ما دفع باسكيات نحو تدمير حياته الشخصية بيديه إذ لمَ يستطع تدمير الواقع الذي هيمن على سيرته وهو الذي ردّد في غير مرة وصفه لنفسه "بالرجل الأسود الوحيد في القاعة".

وخِلافاً لسيرته الفنية، لم يكن هناك ما هو بطوليّ أو برّاق في حكاية إدمان باسكيات. تشبه تلك الحكاية جميع الحكايات الأخرى، تعنيفُ الصديقات، تراكم الديون، السقوط في غرام حبيبات الأصدقاء وما إلى ذلك من التبعات المدمّرة على الصعيد الشخصي. يقول أصدقاء باسكيات بأنّه قد حاول الخلاص ولكنه لم يستطع، وفي النهاية مات في الشقة التي استأجرها من صديقه الحميم وارهول في شارع غريت جونز إثرَ تسمّمه بجرعة مخدرات حادّة أودت بحياته.

 في نعيِها له، كتبت صحيفة نيويورك تايمز "أنَّ رحيل باسكيات حرّره من شهيته للمخدرات". إلاَّ أنّ الحُكمَ على علاقة باسكيات بالإدمان بأنها مجرّد شهية مفرطة ربما تنطوي على نظرة سطحية بعض الشيء، فتلك النهاية كانت أيضاً نهاية تينيسي ويليامز، المسرحيّ الفذّ الذي توفّي بسبب إدمانه أيضاً. ليست أقدار الرجلين وحدها وجه الشبه بينهما، بل الموقف من وظيفةِ القوة في المجتمع الأمريكي وهي التي تولّى ويليامز تعريتها مسرحيّاً فيما أفنى باسكيات حياته في تقريعها والتشهير بها.

في إحدى المقابلات معه، سُئِلَ باسكيات: "لمَن ترسُم؟" وبعد أن صمَت لبعض الوقت، أعاد المحاور سؤاله بالقول هل ترسم لنفسك؟ أجاب باسكيات "أعتقد ذلك، إلاّ أنني في نهاية المطاف أرسم للعالم الذي تعرفه" وهنا سأل المحاور باسكيات ما إذا كانت لديه صورة لما قد يكون عليه هذا العالم فأجاب: "العالم هو أيّ أحدٍ منّا ببساطة".  نعم، إنّ ازدهار العالم يمكن أن يصبح حقيقة. تلك عبارة باسكيات الأثيرة التي ردّدها دوماً وهي العبارة التي اختارتها إدارة مركز باربيكان للفنون لتكون عنواناً لمعرض باسكيات الذي سيفتح أبوابه للزوار في 21 من الشهر الجاري وحتى 28 كانون الثاني 2018 وهو المعرض الأكبر والأول من نوعه في لندن التي انتظرَته طويلاً كما يقول مدير مركز باربيكان.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.