استهلال أول:

قال قيس بن الملوح:

تَعَلَّقْتُ ليــــــلى وهي غرٌّ صغيــــــــــــرةٌ

ولم يَبْـدُ للأترابِ من صدرها حَجْمُ

صغيرين نرعــــى البَهْمَ يا ليتَ أننا

إلى اليوم لم نكبرْ ولم تكبرِ البَهْمُ

استهلال ثان:

فيروز في مسرحية ناطورة المفاتيح تأليف الأخوين الرحباني- 1972

كنتوا وكنا سوا، وكيف تمـــــرق الأيام

تبقى شهور السني، تمرُق برفة عينْ

في أواخر الثلاثينات من القرن العشرين، كان عاصي الرحباني المولود في سنة 1923 يعيش سن المراهقة، وبدايةَ ظهور النبوغ، وكان يحكي لأخيه منصور ومجايليه عن عالَم فيه أناسٌ لا يكبرون أبداً! عالَم تسودُه العدالة، ويعيش فيه الناس بمحبة وطيبة!

إنه هاجس الخلود المبكر، والنزعة الاشتراكية الطوباوية.

وفي أوائل الخمسينات حينما تعرف عاصي على «نهاد حداد»، (عن طريق الموسيقار حليم الرومي الذي لقبها فيروز)، وبدأ بتشكيل فريقه الفني، أصبح  قادراً على نقل قناعاته وهواجسه إلى الناس، وبالأخص هاجس الخلود، على هيئة أغانٍ فائقة العذوبة والروعة. 

كثيرة هي الأغاني الرحبانية التي تحضر فيها العناصر الزمانية: كالوجود، والحياة، والأعمار، والنسيان، والصغار الذين صاروا كباراً، والصغار الذين يرفضون أن يكبروا.

مثلاً، في فيلم «بنت الحارس- 1968»، ومن ألحان فيلمون وهبي تغني فيروز: طيري يا طيارة طيري يا ورق وخيطان، بدي إرجع بنت زغيرة على سطح الجيران، وينساني الزمان على سطح الجيران، وفي الأغنية نفسها تقول المغنية: أخدوني معهم الولاد وردوا لي الطفولة.

وفي مطلع أغنية «غمر الغداير» الواردة ضمن سكتش «ضيعة الأغاني- 1968» تغرد فيروز: تمرق صبية، تمشور دغوش الغياب، ترندح قصيدة غيبتها من كتاب، ويا شعرها الـ ناطر شي إيد تجدله، بعدك «زْغَيَّرْ» ع المحبة والعذاب. هنا الصبية صغيرة، بالطبع، وكذلك «شَعْر» الصبية. وأما أغنية «وطى الدوار» فبطلاها، في البداية كانا «ولدين» وفي خاتمتها تقول: هالزغار فَلُّوا صاروا كبار، نسيوا جيرتنا.

يرد الحديث عن العمر في قصيدة «زمان الحب» بطريقة آسرة، إذ المغنية تطلب من حبيبها أن يلمها من وحشة العمر: لُمَّني من وحشة العمر كما، لمت النسمةُ عطرَ النرجسِ. وبعدها تسألُ:

يا زمان الحب هلْ رُجعى إلى عهدنا والروضُ زهرٌ يبسمُ

وفي أغنية راجعة: و«العمر» ناقص هون شو؟ مش عارفة.

 وفي أغنية «نسم علينا الهوا» التي قُدِّمَتْ في فيلم «بنت الحارس» تقول: فزعانة يا قلبي أكبر بهالغربة ما تعرفني بلادي خدني على بلادي. وأما قصيدة طلال حيدر الشهيرة «وحدُن» فيجري تحديد العمر فيها بوقت قديم جداً: مِنْ عمر فَيّْ العشب عَ الحيطان، من قبل ما صار الشجر عالي.

لنتوقف عند أغنية «راضية» لنسمع البنت الحلوة وهي تُراجع الحساب العتيق ببالها: عمر الهوى، حكاياتها، عهد الـ مضى، وكيف غنت للحلو موالها. وأما أغنية «عتاب» ففيها مثالان على سيطرة هاجس العمر على الشاعرَيْن الرحبانيين.

الأول: عَلَّمْت قلبي من الطفولة عَ هواك.

الثاني: ويا ريت عن حبك المضني لي رجوع، رح تهرب الأيام ويمر الشباب. وفي «دبكة لبنان»: يا سنين العز الـ عَمْ يرجع. وفي قصيدة جوزيف حرب «وألحان زياد الرحباني»:

زعلي طول أنا وياك، وسنين بقيتْ، جرب فيهن أنا إنساك، ما قدرت نسيت.

تبدو أغنية «قهوة ع المفرق» وكأنها كُتِبَتْ خصيصاً لعرض فلسفة الأخوين الرحباني المتعلقة بمشكلة الزمن و«الخلود». وفيها يقولان:

في قهوة عالمفرق، في موقدة وفي نار، نبقى أنا وحبيبي، نفرشها بالأسرار، جيت لقيت فيها، عشاق تنين «زغار»، قعدوا على مقاعدنا، سرقوا منا المشوار، يا ورق الأصفر (رمز الخريف)، عم نكبر عم نكبر، الطرقات، البيوت، عم تكبر عم تكبر، تخلص الدني، وما في غير يا وطني، آه، بتضلك طفل زغير. متل السهم الـ راجع، من سفر الزمان، قطعت الشوارع، ما ضحك لي إنسان، كل صحابي كبروا، وتغير اللي كان، صاروا العمر الماضي، صاروا دهب النسيان.

يتخذ الزمن في بعض الأغاني الرحبانية طابعاً سوريالياً، فميشيل طراد يخاطب الطفل في أغنية «بكوخنا» قائلاً: عمرك وعمر العطر ما كَفُّوا السني. وأما أغنية «قديش كان في ناس» فقد جاء فيها: صار لي شي مية سنة مشلوح بهالدكان.

وأما الأكثر سورياليةً وعجباً فهي أغنية «يا دارة دوري» التي لحنها فيلمون وهبي، وقد جاء فيها:

تعا تَـ نتخبى من درب الأعمار، إذا هني كبروا ونحني بقينا زغار، وسألونا وين كنتوا؟ وليش ما كبرتوا إنتوا؟ منقلن نسينا، واللي نادى الناس تَـ يكبروا الناس، راح ونسي ينادينا.

أخيراً: إن وجود هاجس الزمن والخلود في الغناء ليس حكراً على الرحابنة، إذ لا أعتقد أن واحدة من أغاني أم كلثوم- مثلاً- تخلو منه، ولكن للزمن الرحباني نكهة مختلفة، مثلما تجربتهم بمجملها مختلفة.

 
*كاتب من سورية