}

18 يوم.. سينما الثورة أسيرة الأرشيف

هشام أصلان 3 سبتمبر 2017

1

مثل فرن عملاق، تحرق صفحات فيسبوك الأحداث بسرعة بالغة، مهما بدت تلك الأحداث لافتة وكبيرة أو أثارت من جدل. مسألة ساعات، أيام قليلة جدًا على أقصى تقدير، وكأن الأمر تطبيق عملي للمثل الشعبي: "تبات نار تصبح رماد". الموقع الأزرق ليس المُدان الوحيد في هذا الجري المجنون. لكنها سنوات ما بعد الثورة، وما حملته من نهش للأيام بما تحتويه من تفاصيل صغيرة أو جداريات كبرى.

قبل فترة ليست طويلة، ذهب الاهتمام بفيلم "18 يوم" إلى سقف "التريند". لكن الحديث عنه اختفى من الصفحات سريعًا، حتى قبل أن يأتينا أحدهم بخبر يقين عمّا أحاطه من لغزَي اختفائه وقتما أُنتج، وظهوره مؤخرًا على "يوتيوب".

الفيلم أُنتج عقب تنحي مبارك مباشرة، كحالة سينمائية وحيدة، تقريبًا، في ظل خروج غزير لأعمال أدبية وتشكيلية وتسجيلية، متأثرة بإغراء السبق في تناول أحداث الثورة. وقتها انتقد أغلبنا حالة الإنتاج هذه وأصحابها، بتلق يتكئ على مفاهيم ما قبل يناير وأسئلة الفن التي كبرنا عليها: "لا بد من مسافة زمنية كافية بينك وبين الحدث حتى تستطيع تناوله بعيدًا عن الأيديولوجيا، وتأمله إنسانيًا.. إلخ". غير أنه، بعد مرور السنوات السبع، أدركنا أن تلك كانت بداية لتغيرات كبرى في أسئلة الفنون عمومًا، ونقلات بين مفهوم السؤال اليومي للفرد في مواجهة العالم، والذي تحول في غمضة عين، من تأمله ألوان حوائط غرفته إلى تأمله النوايا الأميركية في موقفها من الربيع العربي، وعلاقة الاقتصاد السعودي بإدارة شؤون العالم، والإحصاءات الرسمية لقتلى الأحداث السورية، وأي من الدول يتعامل مع اللاجئين بشكل لائق!


2

"ممنوع من العرض"، العبارة الكفيلة برفع نسب المشاهدة إلى حدودها القصوى، سبقت اسم العمل الذي تم تصويره في أعقاب تنحي مبارك مباشرة، ليعرض في مهرجان "كان" 2011 ثم يتبخر.

من الذي منعه؟ ثم من الذي سرّبه؟ الإجابة تائهة بين التصريحات الصحافية. والحكاية الأقرب للمنطق تقول إن إحدى الشركات الفرنسية المختصة بعرض الأفلام على الإنترنت بمقابل مادي وضعته على موقعها، قبل أن يستطيع أحدهم تنزيله من الموقع ثم رفعه على يوتيوب. غير أن لغز ظهور الفيلم فجأة ربما يكون أقل غموضًا من لغز اختفائه. تصريحات المسؤولين تقول إن الفيلم لم يعرض على جهاز الرقابة من الأساس، وهي تصريحات، إن صدقت، تنفي مسألة المنع، حيث لا جهة أخرى تستطيع المنع أو التصريح.

تحدث الدكتور خالد عبد الجليل، رئيس جهاز الرقابة على المصنفات الفنية، عما أثير عقب انتشار الفيلم على مواقع التواصل الاجتماعي، موضحًا أن السيناريو لم يدخل الرقابة ولا توجد أي أوراق تثبت ذلك، "نظرًا لأن هذا الفيلم منتج منذ 7 سنوات قبل توليه المنصب".

3

الفيلم مكون من عشرة أفلام قصيرة منفصلة، هي: "احتباس"، "خلقة ربنا"، "إن جالك الطوفان"، "حظر تجول"، "كحك الثورة"، "تحرير 2-2"، "شباك"، "داخلي خارجي"، و"أشرف سبرتو".. أخرجها شريف عرفة وكاملة أبو ذكري ومروان حامد ومحمد علي وشريف بنداري وخالد مرعي ومريم أبو عوف وأحمد عبد الله يسري نصر الله وأحمد علاء.

أنت أمام مساحة كبيرة من المشاهد التوثيقية التي يعرفها الجميع، من نزل الميدان من لم ينزل، والتي هي موجودة بمئات الألوف في مقاطع فيديو وصور فوتوغرافية على شبكة الإنترنت. بينها بعض من مشاهد الحكايات الفردية التي نجح قليل منها في عمل حالة فنية تطرح الأسئلة الإنسانية وأزمات أصحابها بشكل سينمائي معقول. وكان أبرزها، بملاحظة الجميع: "كحك الثورة"، بطولة وكتابة أحمد حلمي.

شخصية روائية وسينمائية بامتياز. شاب في الثلاثينيات من العمر يعمل "ترزيًا"، ويقع متجره قرب الميدان. تشتعل مظاهرات التحرير، بينما هو لا يفهم ما يحدث، فيجبر على البقاء محتجزًا داخل المتجر أيامًا بلا طعام، باستثناء علبة مليئة بالكحك المحلى بالسكر، يضطر للعيش عليها رغم كونه مريضًا بالسكر. وفيما يخشى أن يموت دون أن يعرف أحد شيئًا عما جرى له، يبدأ تسجيل رسائل صوتية لوالده على شرائط الكاسيت القديمة لديه، يحكي له خلالها كل ما تلتقطه أذناه، ذلك أنه لا يرى ما يحدث بالخارج، قبل أن يستجمع شجاعته ويقرر الخروج مرتديًا زي شرطي كان تركه لديه لإصلاحه. يختفي من أمام الكاميرا، لنسمع صرخات المتظاهرين تشير إلى الهجوم عليه بوصفه شرطيًا، لينتهي الفيلم بصورة فوتوغرافية له معلقة على بوابة متجره، فيما كُتبت تحتها عبارة تشير إلى اختفائه وتطلب المساعدة في البحث عنه.


4

استخدام الشتائم الدارجة في الفيلم يعتبر دلالة، ربما، على أنه لم تكن هناك نية حقيقية لعرض الفيلم في دور العرض المصرية للجمهور، حيث يستحيل السماح بهذا رقابيًا، وأن العمل صُنع للمهرجانات الدولية. ولكن، هل نستطيع اعتبارها مناسبة أولى للدعوة إلى إدراك عبثية وجود رقابة في عصر "الفرجة" رغم أنف الرقيب؟ الفيلم شاهده الملايين بضغطة زرّ! والشتائم تأتي من قلب الشارع حقًا، وليس من الفضاء الخارجي.

صناع العمل حاولوا تناول الجوانب الإنسانية التي تربت على تخوم ميدان التحرير خلال 18 يومًا تصورناها عمر ثورة يناير، قبل أن نكتشف أنها كانت فقط البداية، حيث اتضح تنحي مبارك كنقطة انطلاق الحدث وليس نهاية المشوار. ولكن بدا أنه لا مفر من عمل سينما للثورة خارج فكرة الأرشفة والتوثيق. مع ذلك، وحتى في سياق انسحاب الحالة الفنية الخالصة لصالح ذلك التوثيق السياسي، لا تستطيع تجاهل أن هذه مجموعة من السينمائيين صنعت، بالمجهود الذاتي، وبلا إمكانيات مادية صورة، حاولوا أن تكون سينمائية، للثورة، وعرضها على جمهور "كان" 2011، أي قبل أن تجف دماء شهداء التحرير.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.