}

محفوظ عبد الرحمن السينمائيّ: التزام المتداوَل والخضوع للمعروف

نديم جرجوره نديم جرجوره 24 أغسطس 2017

بهدوءٍ يليق بقراءةٍ نقديةٍ، تتناول سيناريوهاته السينمائية قليلة العدد، يُمكن التنبّه إلى سماتٍ أساسية، تُشكِّل عناوين اشتغاله للشاشة الكبيرة. وإذْ تنحصر القراءة النقدية في كتاباتٍ سينمائية بحتة، فهي تبقى ـ في الوقت نفسه ـ خارج كتاباته التلفزيونية، التي يتفق كثيرون على أنه، بفضلها (أو بالأحرى بفضل غالبيتها)، يتبوّأ مرتبةً متقدّمة في صناعتها المصرية. فمحفوظ عبد الرحمن، الراحل في 19 أغسطس/آب 2017، سيبقى فترة طويلة أحد أبرز كتّاب المسلسلات التلفزيونية العربية، لا المصرية فقط، قبل انسحابه من المشهد التلفزيوني الراهن، الذي يراه مُصاباً بعاهاتٍ، تسيء إلى معنى الكتابة التلفزيونية، أولاً؛ وتناقض وقائع التاريخ المعروف للمسلسل التلفزيوني المصري، ثانياً. 

تغييب النقد في المراثي

والقراءة تلك، المنبثقة من لحظة رحيله، تختصّ بـ3 أفلامٍ يُشارك في كتابة سيناريوهاتها، أو يكتب، بمفرده، سيناريوهات خاصّة بها. فالمشاركة، الوحيدة، معقودةٌ على "القادسية" (1981) لصلاح أبو سيف (1915 ـ 1996)، الذي يُشاركهما فيه علي أحمد باكثير (1910 ـ 1969)، المهتمّ بالمادة التاريخية للفيلم؛ على خلاف "ناصر 56" (1996) لمحمد فاضل (1938)، و"حليم" (2005) لشريف عرفه (1960)، وهما من تمثيل أحمد زكي (1949 ـ 2005)، الذي سيتوفّى قبيل الانتهاء من تصوير سيرة عبد الحليم حافظ (1929 ـ 1977) بوقتٍ قليل. فهذان الفيلمان مكتوبان بقلمه وحده، ويرتكزان على شخصيتين عامّتين، لكلّ واحدة منهما تأثيرات جمّة (إيجابية أو سلبية) في الفرد والجماعة، في مصر وخارجها.

سيُقال الكثير في السيرتين الحياتية والمهنية لمحفوظ عبد الرحمن (مواليد 1941). سيُشدِّد البعض على صفته الأحبّ إلى قلبه وإلى مريدين له، وهي "الناصري الأخير"، وهذا واضحٌ في أسلوب تقديمه شخصية جمال عبد الناصر، في "ناصر 56"، كما في تقديم مواضيع عديدة، ترتبط ـ بطريقة أو بأخرى ـ بالمرحلة الناصرية، أو بالحالة الناصرية. ستُكتب مرثياتٍ تتغاضى عن وقائع اشتغاله ومفردات مشاركته في صناعة الدراما التلفزيونية والنتاج السينمائي. 

هذه أمور معتادة في كتابات ترثي ولا تحلِّل، إذْ تتغاضى الغالبية الساحقة من كاتبيها عن كلّ ما هو غير إيجابيّ، في السيرة والنتاج والتفكير الخاصّة بالراحل. هذه مسائل تحول دون التنبّه إلى خللٍ وتسطيح في كتابته فيلمي "ناصر 56" و"حليم"، تحديداً، لأن تحويل الكتابة السينمائية إلى تفكيكٍ جذريّ لـ"مقدَّساتٍ" كثيرة مرفوضٌ، والرافض كاتبٌ يعي رفضه هذا تماماً، في بيئة تُشاركه رفض المسّ بالمتداوَل والمعروف في التاريخين الفردي والجماعي، الراهن والقديم. فهو غير راغبٍ في مُقاربةٍ تُناقض كلّ خطابٍ رسمي، أو رواية رسمية، أو توافقٍ جماعي على معطيات متداوَلة ومعروفة، إما لعجزٍ عن جرأة الاختراق، وإما لتواطؤ مع النفس إزاء الخضوع لمسلّماتٍ، ما يعني أنه غير قابلٍ لإعادة النظر فيها، وغير مُكترثٍ بمدى واقعيتها وحقيقتها وصدقها، وغير مُجتهدٍ في ابتكار إسقاطاتٍ، جمالية وإنسانية وفكرية وتأملية، عليها وعلى "أبطالها"؛ فإذْ بالروائيّ يُصبح تسجيلياً مصنوعاً بأدوات المتخيّل الروائيّ السينمائيّ.

أما القول بوقائع التاريخ، كما في "ناصر 56" مثلاً، التي تحول دون إسقاطاتٍ، جمالية وإنسانية وفكرية وتأملية، لكونها "وقائع" يريد السيناريست والمخرج والمنتج والممثل تقديمها على الشاشة الكبيرة كما هي، فناقصٌ ومرفوضٌ، لأن لا وقائع ولا حقائق "ثابتة" أو "جامدة" في التاريخ، الذي يحتوي، دائماً، على حكاياتٍ وخبرياتٍ وسردياتٍ غير موثَّقة، أو غير مروية، أو غير مؤرَّخة. في المقابل، فاكتفاء السينما بتقديم المعروف يُسقِط عنها صفاتها وأحوالها وأنماط اشتغالاتها ومعانيها، المناقضة تماماً لكلّ جامد وموروث ومنغلق.

 

تكثيف درامي منقوص

والأسوأ من ذلك يكمن في أن الكتابة، المحافِظَة على المروي والمتداوَل والمعروف والمقدّس كما هو، مُصابة بعطب الإبداع، أحياناً، وبعجزٍ يمنع ارتقاء العمل إلى مصاف الترجمة البصرية العادية، على الأقلّ، للنصّ الرسمي، أحياناً أخرى. هذا حاصلٌ في "ناصر 56"، في مقابل تردٍّ واضح في كتابة سيرة عبد الحليم حافظ، التي ستبدو ـ كسيناريو تبسيطيّ عاديّ للغاية، قبل أن يتحوّل إلى فيلمٍ مرتبكٍ ومُسطّح، لن يكون مرض أحمد زكي سبباً في بهتانه ـ تركيباً ساذجاً وباهتاً لشخصية فاعلة في الوجدان والتاريخ الفرديين والجماعيين، في مصر والعالم العربي، بصورة أساسية.

وهذا مُنسحبٌ، أيضاً، على السيرة التلفزيونية لـ"أم كلثوم" (1999) لإنعام محمد علي (1938)، مثلاً: صورةٌ، ممنوعٌ المسّ بها، لفنانةٍ لن يتجرّأ أحدٌ على كشف المخبّأ في حياتها (وإنْ يكن بعض المخبّأ ـ وهو كثيرٌ على أي حال ـ مُتداوَل ومعروف، شفهياً وشعبياً)، ولن يذهب النصّ المكتوب إلى قراءة بصرية لهذا المتداوَل والمعروف، أو الاشتغال عليه والتنقيب فيه، لكشف حقائقه أو وقائعه؛ فتُقَدَّم الشخصية بحسب المسلَّم به في حكاياتها "الرسمية"، كأن أم كلثوم (1898 ـ 1975) نفسها المُشارِكة الوحيدة في كتابة المسلسل، كما في تنفيذه، وتمثيل دورها فيه.

المسألة نفسها واضحةٌ في سيرتي جمال عبد الناصر (1918 ـ 1970) وعبد الحليم حافظ. فرغم أن "ناصر 56" مختصٌّ بمرحلةٍ، يصفها صانعو العمل بأنها الأهم في حياة الزعيم المصري، إلاّ أن تكثيف اللحظة الحقيقية بواقعة محدّدة ـ أي العدوان الثلاثي على مصر (29 أكتوبر/تشرين الأول ـ 7 نوفمبر/تشرين الثاني 1956)، وأسبابه وخلفياته ونتائجه ومناخاته ـ عاجزٌ عن التحوّل السينمائيّ الإبداعي إلى تكثيفٍ بصري جمالي درامي لواحدة من اللحظات المصيرية في التاريخ الناصري، المحتاجة إلى نقاشٍ وتحليل خارج الإطار السينمائي. في حين أن كلّ تبريرٍ بالخلل الدرامي لـ"حليم" يُحصَر بمرض أحمد زكي، يكون تنصّلاً من مسؤولية الكتابة التبسيطية في السرد التأريخيّ، كأن السينما "درسٌ في التاريخ" فقط لا غير، أو "سيرة ذاتية أو حياتية"، تُقدَّم من دون أي تمحيصٍ أو تحليلٍ أو تنقيبٍ أو كشفٍ أو سجالٍ أو نقاشٍ، يُفترض بها كلّها ألاّ تتعدّى أصول الإبداع السينمائيّ.

بالإضافة إلى هذا، يكمن الاختلاف بين النصّ، المحتاج إلى إعادة تأهيل جذري وفعّال، وعملية تحويله إلى فيلمٍ سينمائيّ، لن تكون قراءته النقدية إيجابية، في شخصية المخرج، ومدى تمتّعه بتلك القدرة الإبداعية على تنقية السيناريو من شوائبه، ما يُفترض به أن يؤدّي إلى عملٍ إبداعي أقوى وأعمق وأفعل. لكن المسألة لن تكون سهلةً: فركاكة الكتابة، أو سطحيتها، أو توافقها والرواية الرسمية، لن تُسهِّل عمل المخرج، بل ستكون أحد أبرز الحواجز أمامه في عملية الإخراج، رغم كلّ ما يتمتّع به من ثقافة فنية وسينمائية وثقافية وجمالية، علماً أن هذا الـ"كلّ" قادرٌ، أحياناً، على تخفيفٍ كبيرٍ من وطأة الاستسهال والسطحية في تلك الكتابة.

مع صلاح أبو سيف، يختلف الأمر قليلاً، لأن المخرج نفسه مُشاركٌ في كتابة السيناريو، أولاً؛ ولأنه يمتلك لغته السينمائية، ويتمكّن من ولوج عوالم متحرّرة، إلى حدّ ما، من وطأة الرسميات؛ علماً أن "القادسية" لن يكون أحد أفلامه الأهمّ والأجمل والأعمق، سينمائياً وثقافياً وجمالياً ودرامياً وفنياً. وهذا غير موجود في نصّي "ناصر 56" و"حليم": فإلى الكتابة المسطّحة والجامدة والمحافظة والتقليدية والخائفة من أيّ تفكيك وتنقيب ومناكفة واختلاف، يظهر المخرجان ـ محمد فاضل وشريف عرفه ـ في مظهر المتواطئ والموافق والخاضع، في المستويات العادية للكتابة والإخراج والمعالجة.
 

طغيانُ الجماعيّ

لن يكون "أم كلثوم" مختلفاً، على مستوى كيفية المقاربة الكتابية لسيرتها، بل يؤكّد، مجدَّداً، عقم الكتابة الدرامية المتعلّقة بشخصياتٍ عامّة، بانغلاقها على نفسها، أو بتحوّلها إلى بوقٍ يروِّج المتداوَل والمعروف. وهذا متأتٍ من تربيةٍ وسلوكٍ يوميين جماعيين عربيين، يمنعان تنقيباً تفكيكياً في أحوال تلك الشخصيات ومساراتها ومصائرها، وفي كشف المستور في حياتها ونتاجاتها وأفعالها، على نقيض الوعيّ والثقافة الغربيين، اللذين يتيحان مساحات شاسعة أمام الفرد، تسمح له بمقاربة تلك الشخصية أو ذاك الحدث بحرية كبيرة، وبشغف واضح في التحليل والتعمّق والرؤية والقراءة، وإسقاط كلّ ممنوع، واختراق كلّ محجوب، وفضح كلّ مبطّن؛ مع أن كثيرين يرون في هذا "اعتداء" على خصوصيات الشخصيات العامة، وعلى حميميات عيشهم. وهو سؤال لن تسهل مناقشته في سطورٍ قليلة، مخصّصة ـ أصلاً ـ بقراءة سيناريوهات محفوظ عبد الرحمن، المعنيّة بحدثٍ تاريخيّ، أو بشخصيات عامّة.

أكثر من ذلك: التربية والسلوك اليوميان الجماعيان العربيان يواجهان كلّ محاولة جدّية لقراءة المختلف والمسكوت عنه (وإنْ يكن معروفاً على المستوى الشعبي والشفهي) في سيرة هذه الشخصية أو تلك. والأسوأ يبقى في الرفض القاطع لاعترافات هذه الشخصية أو تلك، إنْ تتجرّأ هذه الشخصية أو تلك على البوح بخفايا الذات وبواطنها، وبحكاياتٍ غير معروفة.

 

لذا، تبقى السيناريوهات السينمائية الـ3، بالإضافة إلى سيناريو "أم كلثوم"، للراحل محفوظ عبد الرحمن توثيقاً بصرياً عادياً للحظات مختلفة، تتعلّق بسيَر تاريخية لأحداثٍ وشخصياتٍ، من دون أن تنقلب على السائد، ومن دون أن تمنح المُشاهد إمكانية التفكير وإعمال العقل إزاء أحداثٍ وشخصياتٍ، لها حضور فاعل ومؤثّر في الوجدان الفردي، والمتخيّل الجماعيّ.

 

* ناقد سينمائيّ من أسرة "العربي الجديد"

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.