}

أندريه الباز فنان التحولات

فريد الزاهي 7 يونيو 2017
كاد اسمه أن يظل حبيس ذاكرة مُجايليه من فناني الخمسينيات والستينيات في المغرب، وبعض النقاد والمثقفين الفطنين، لولا أنه اختار أن يعود أخيرًا لموطنه الأصل حاملاً معه تاريخًا شخصيًا حافلاً بالتجارب الفنية والاستكشافات وعناصر التميّز. إنه أندريه الباز (من مواليد 1934)، الفنان ذو الأصول اليهودية، المولود بمدينة الجديدة، الذي عاش فيها تربية فنية مع أبيه الذي كان يدير فرقة للموسيقى الأندلسية وفن الملحون. كانت اهتمامات الشاب أصلاً بالمسرح، وصار ينجز سينوغرافيا المسرحيات التلاميذية معتمدًا على فن الكولاج. وبعد المرحلة الثانوية، ها هو يغادر مدينة مراكش كي يلتحق بباريس حاملاً معه لوحاته الكولاجية، عارضًا إياها على العديد من الأروقة، معتقدًا في قرارة نفسه أنه قد اكتشف تقنية فنية جديدة، والحال أنها كانت معروفة مع الدادائيين والتكعيبيين.




الفن منقذًا من الموت

يحكي الباز أن باريس وثقافتها ومتاحفها في نهاية الخمسينيات كانت له بمثابة المدرسة. فقد جرّب في التشكيل أغلب المدارس، ليهجرها بعد ذلك. وكانت حياته الشخصية تتعرض لنوبات الكآبة. وفي ليلة ما، كان قدر قرر أن يضع حدًا لحياته بموسى قبالة مرآة. وهو يهم بذلك، أبصر في عمق المرآة بلوحة غير مكتملة. فقال لنفسه: "كيف أهجر الحياة من غير أن أكملها؟". فكان ذلك خلاصًا له من الموت واستعادة للرغبة في الحياة. أما الموسى فقد حلق به في الغد لحيته التي لازمته من مرحلة الباكلوريا.

تعمّقت تجربة الباز من خلال أسفاره. وتوطدت علاقته بالفنانين المغاربيين الطليعيين آنذاك وبخاصة أحمد الشرقاوي بباريس، وفريد بلكاهية العائد حديثًا إلى المغرب. وهكذا، سوف يستدعيه بلكاهية بعد أن عُيِّن مديرًا لمدرسة الفنون الجميلة بالدار البيضاء، لأن يلتحق بفريق التدريس. فكانت تجربة العودة والعرض التي لم تدم طويلاً. في تلك الفترة، التقى الباز بشاب فنان مبتدئ سوف تجمعه به صداقة طويلة هو الحسين طلال ابن الشعيبية. وسوف يكتشف أن الأم تطلب منه أن يساعدها على الرسم. فكان لها ذلك، إذ اهتم بها الباز من غير أن يؤطرها: "هذه الجاذبيىة التي أحسستها من البداية منحتني الرغبة في مصاحبة البدايات الفنية لهذا الكائن الذي كان يبدو موهوبًا.... وبما أني كنت مقتنعًا أن المقاربة الأفضل لمساعدة الشعيبية لا تكمن في أن أفرض عليها القواعد والمواضعات الفنية، فقد اخترت أن أتركها خارج أي مدرسة  وشجعتها على إخراج شهادتها الباطنة. وكلما كنت حاضرًا معها أقودها لتتذكر مشاهد طفولتها، ومشاهد الحفلات والأعياد والأعراس والمأدبات والموسيقيين". 



الترحال والبحث عن التحولات

ظلّ ترحال الفنان ما بين المغرب ولندن ومونتريال ونيويورك يخترق تجربته المطبوعة بعناصر قلَّ أن نجد لها مقابلاً في التشكيل المغربي. والحقيقة أن هذه القطيعة الطويلة مع المغرب سوف تنسي المهتمين بفنه. غير أن الفنان ظل متابعًا مسيره، معدِّدًا التجارب، مستكشفًا علم السينما بالأفلام التي أبدعها. ففي تجربته تلك نراه يهتم باليومي، متابعًا تشخيص ما تلتقطه العين خالقًا من كولاجاته تركيبات يتزاوج فيها الواقعي بالاستيهامي، والدلالي بالرمزي. وكأننا بأندريه الباز وهو ينمِّط الشخصيات، يقوم بذلك بالرغبة الآسرة في تملُّك مكنونات محيطه، بنكساته وانزلاقاته، وبكآبته ومرحه. إنه وهو يلتقط المتناقض في شخصياته اليومية، يمنحها طابعًا ملحميًا وأسطوريًا، بحيث يمكنه الكولاج من المزج بين الواقعي وسحر التآليف. الغرابة هنا مسلك صار طبيعيًا، وتعدد الدلالات مسعى تشكيليًا، وتفجير المعنى الجاهز هدفًا استراتيجيًا للوحة.

حين نظمت المعاهد الفرنسية في بداية الألفية الجديدة معرضًا جوّالاً لأعماله، ثم سنوات قليلة بعدها معرضًا استعاديًا بالدار البيضاء، اكتشف الجمهور فنانًا ينبض بالتحولات الإبداعية ويعود بقوة جبارة ليستعيد موطنه الطبيعي في التشكيل المغربي. هكذا يقدم لنا الفنان تجربة حافلة بالقطائع، يبنيها تبعًا لتجريبية واضحة تجعله ينزاح بشكل واضح عن مسير التشكيل المغربي ويتقاطع معه في الآن نفسه. فسواء من خلال سلسلة المدن الشرقية، أو الشخصيات اليومية، نلفيه يبلور شخصيته الفنية الساخرة والتركيبية، وذات البعد السياسي والاجتماعي. وهذا الانخراط يجد مصدره في حساسية سوف تطاول الذات نفسها لتعيد النظر فيها وتدمرها بغية ولادة جديدة فينيقية تستشرف أفق العطاء.



عتبات المعاصرة

منذ البداية نلفي لدى الباز يجترح لنفسه منحى تتداخل فيه التيارات الفنية، التكعيبية ودو ستال، والواقعية المفخمة، والكولاج السريالي. وهي تركيبة جعلته يبني عالمه الفني في الحدود الفاصلة بين اللوحة والمنشأة والمنجزة الفنية. وكأننا به لا يهتم بالتناغم التشكيلي ولا بالتلوينية حتى وهو يتقنها، ولا بالرسم حتى وهو يمهر فيه. إن ما يهمه هو الصدمة التي يخلقها لدى المشاهد بحيث يسعى إلى أن يجره إلى داخل اللوحة. فالدلالات المتناثرة المركّبة التي يخلقها الفنان يكون الهدف منها إقامة متواليات تناسلية من المعاني المسترسلة التي يتابعها في أعمال أخرى.


ولعل هذا المقصد هو ما سيتبدى جليًا في أربع تجارب فريدة سيبدعها الفنان. تتعلق الأولى بما سماه "البيكتودرام - الدراما التصويرية"، في السبعينيات، والتي تعبر عن حسه المسرحي، وتقوده من ثم إلى الفن العلاجي. ثم سلسلة "الألياف النباتية" التي يصنع فيها الفنان في الثمانينيات (قبل من ارتادوا هذا المضمار في العالم العربي)، سنده من الألياف النباتية ويجعل منها لوحة إضافية. وبعدها "تشوهات"، وهي سلسلة "التحولات البصرية" التي يسكنه فيها المسوخ والتشوهات التي تطال الكائنات، والتي تقرّبه من تعبيرية ساخرة تتحول معها الرؤوس الآدمية إلى حيوانية، كما للتعبير عن أغوار الحياة المعاصرة ووحشيتها الآسرة.

بيد أن التجربة الأخيرة التي سوف يستعيد فيها الفنان كيانه الفني بكامله، هي تلك التي سوف يسميها "قوارير" يعمد فيها أندريه الباز إلى تقطيع بعض أعماله وجمع أشلائها في قارورات تشبه جرار رماد جثث الموتى، تحمل ألوانَ وأوصال العمل الفني لتعيد تشكيلها في نمط جديد هو نمط التجميع. ثم يرصّها في شكل منشآت فنية تحمل ذاكرة العمل الفني ومآله الجديد. هذا البعد المجازي والرمزي، يكاد يعلن أن الفن يموت، يولد في معناه من ذاته، وأن جسد اللوحة قابل لأن يتلقى صورًا جديدة تشكل بشرة استعراضه. في عملية القطع والقطيعة هذه، تتحول اللوحات والرسوم القديمة لتعيش مآلاً جديدًا يشكل ولادة جديدة لها، وكأن الفنان يستقبل الألفية الجديدة ببقايا ذاكرة مخرومة يطعّمها بوجود جديد منفتح على معطيات الحاضر. إنه استحضار يدعو لإعادة خلق الذات ويحول الفن إلى لعبة تشكيل جديد لها، تشذّر الذاكرة من غير أن تمحوها، وتجعل أفق العمل الفني في مصدره، يكفيه القليل من التفكير والكثير من التحويل والأكثر من استشراف مآلات الإبداع الفني. 


الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.