}

غايتان دو كليرامبو الفوتوغرافيا عين على النفس والآخر

فريد الزاهي 25 أبريل 2017
في خريف 1996، كنت في إقامة بباريس بدعوة من الجمعية الدولية لنقاد الفن. كان شغفي بالسينما حينها لا يزال متوقدًا، قبل أن يسرقني منه الفن التشكيلي تدريجيًا من غير أن ينطفئ إلى حد اليوم. أثار انتباهي في قاعات السينما فيلم بعنوان "صرخة الحرير"، وهو أول شريط لإيفون مارسيانو، من بطولة ماري ترتينيان، ابنة الممثل الفرنسي الشهير الذي مثل دور المهدي بن بركة. كان الفيلم مستوحى من حياة أحد أعمدة التحليل النفسي المغمورين غاتيان دو كليرامبو، ويحكي قصة فتاة أمية مغرمة بأثواب الحرير التي لا تتورع عن سرقتها من المحلات التجارية واستخدامها ابتغاء للذة توحُّدية فتيشية. وحين ضبطت مرة، وجهتها الشرطة على سبيل الخبرة لطبيب نفسي كان هو أيضًا يعشق ملمس الحرير. سوف تترعرع بين الشخصيتين علاقة حب ستضطر معها المرأة إلى تعلم الكتابة في السجن كي تراسل حبيبها الطبيب الذي أصيب بالعمى بعد أن انخرط في الحرب وزار المغرب.


كانت متعتي بهذا الفيلم العميق كبيرة جعلتني أبحث عن كل ما يمكنه أن يطلعني على حياة وأعمال هذا العالم الفنان الذي التحق في أواخر القرن التاسع عشر بمدرسة الفنون الزخرفية بباريس قبل أن يختار دراسة الطب النفسي، فمارسها، واشتهر فيها بدراساته الاستكشافية. وفي الآن نفسه ظل دو كليرامبو يشتغل على القماش في تثنيه على الجسد الإنساني ويمارس أبحاثه النفسية والتصويرية عليه. حين التحق بالجيش في الحرب العالمية الأولى، قام بزيارتين للمغرب. وطبعًا لم يكن للطبيب إلا أن يهتم باللباس المغربي الأنوثي منه والذكوري، في وقت كان فيه المغرب لا يزال تلك البلاد المجهولة المستغلقة على الأجنبي، التي لا يتجاوز فيها المغامرون الأجانب مدينة طنجة، إلا مصحوبين بالعسكر الحماة.





طنجة ذاك الزمان


كانت مدينة طنجة حينها تحظى بوضع خاص، فهي محمية دولية منفتحة يقصدها الفنانون، كهنري ماتيس (1912-1913)، ويستقر بها التجار والبعثات الدبلوماسية لدول من قبيل ألمانيا وبريطانيا وفرنسا. كان المغرب عند اندلاع الحرب العالمية الأولى قد صار تحت الحماية الفرنسية، وستتحول الرباط سنة بعد ذلك على يد ليوطي إلى عاصمة للمغرب بدل مدينة فاس التاريخية.


يبدو أن طبيبنا استقر في مدينة طنجة، التي عرفت فتح العديد من الاستوديوهات منذ بداية القرن. هذه الاستوديوهات كان يملكها في الغالب يهود مغاربة تعاطوا التصوير بالنظر إلى انفتاحهم المبكر على التقنيات. وكانت النماذج النسوية التي تصور في الغالب حينها من اليهوديات. بيد أن كليرامبو كان مفتونًا لا بالفضاءات المغلقة للاستوديو بل بالفضاءات التقليدية المفعمة بالحميمية والمزدانة بزليجها وزخارفها.  

ظل الغموض محيطًا بحياة الرجل. فعدا تاريخ ولادته وموته المأساوي حين وضع حدًا لحياته بإطلاق رصاصة على نفسه، لم يكن يُعرف عنه غير ما ينشره من مقالات متخصصة في مجال الطب النفسي. أما حياته الفوتوغرافية فقد أبقاها سرًا، واهتمامه بالثوب المثنى drapé لم يُعرَف إلا عندما نشرت محاضرتاه في مدرسة الفنون الجميلة أربعين سنة بعد وفاته. ولم يطلع الجمهور العريض على أعماله الفوتوغرافية إلا في سنة 1990 في المعرض الذي خصصه له مركز جورج بومبيدو، بعد أن تم الإفراج عن أعماله التي ظل يحتضنها متحف الإنسان بباريس سنة 1974.


تحولات اللباس المغربي

انتبه كليرامبو بشكل مغاير للباس المغاربة التقليدي، هو الذي ظل مفتونًا باللباس الروماني الذي يتسربل به الرجال والنساء ويمنح قوام الإنسان الكثير من البهاء الجمالي. ففي الوقت الذي كان لباس الرجل المغربي (المكون من الجلباب والبرنس) يفتن الكثير من الرحالة الأجانب بحيث إن الكثيرين منهم (الأب دوفوكوا وبيير لوتي، ومصور سلطان المغرب مولاي عبد العزيز، مثلاً) كانوا يأخذون لأنفسهم صورًا به، كان اللباس النسائي، المكون من إزار من القماش أو الصوف (يسمى "الحايك") يغطي كامل الجسم، ويخلق مسافة مطلقة بين عين الأجنبي وجسد المرأة الشرقية. هكذا جاءت تعليقات أغلبهم تعبر عن الاستغراب والغرابة، من واصف للنساء في الأسواق بسرب الحمام أو قطيع الشياه. بيد أن الكاتبة والفنانة الفرنسية ألين دو لينس، التي استقرت بالرباط ثم بمكناس منذ 1913، سوف تمنحنا نظرة أخرى لهذا اللباس، الذي كانت تستعمله في تنقلاتها بالمدينة القديمة للقاء معارفها من المغاربة.

الحايك دثار سهل الاستعمال تلتحفه المرأة بسرعة وتمسك به جهة بيديها من الداخل كي تتمكن من إخفاء الجسم والإمساك به جيدًا ملفوفًا عليها. وهو يخفي تمامًا سن المرأة وجمالها، بحيث لا يمكن للناظر أن يتعرف على ذلك إلا من خلال إيقاع المشية ونوع الدلال والتثني فيها. وهو سوف يندثر تدريجيًا بسبب لجوء النساء في المرحلة نفسها (أي في عشرينيات القرن الماضي) إلى الاستحواذ على جلباب الرجال ومنحه طابعًا أنثويًا من خلال اللون وطبيعة الخياطة بما فيها من تطريزات تتجاوز بساطة الجلباب الرجولي. في الوقت نفسه، سوف يعمد الرجال إلى التبني التدريجي للبنطلون الأوروبي والسترة الغربية، الأمر الذي أغاظ بعض الفقهاء فتداولوا في طبيعة الجلباب النسوي وأجازوه لطابعه الساتر لجسم المرأة، فيما عمد آخرون (وأشهرهم عبد الله بن المؤقت المراكشي) إلى مهاجمة البنطلون وتحريمه ومعه تحريم استعمال الصور والفونوغراف وغيرها من معالم الحداثة الغربية.



التصوير بين الاستشراق والمعرفة النفسية


في هذا السياق، وجد دو كليرامبو ضالته. فعمد إلى فضاءات تقليدية مغربية وحولها إلى استوديو مفتوح، ليصور بها العديد من النماذج النسوية والذكورية في وضعيات يختارها لهم، يبدو بعضها غير معتاد حتى في الصور الاستشراقية آنذاك، التي كانت تركز على خلق النموذج الأنثوي في وضعيات مثيرة. يبلور المصور الطبيب نظرته من خلال وضعة الجسم، وكأنه بذلك يقتطع الموديل من سياقه ليحوله إلى كيان مغاير يتملكه بصريًا ليغدو مطابقا لنظرته ومقاصده النفسانية والذاتية. من ثم إذا كانت هذه الصور ذات طابع إثنوغرافي، فهي تنزاح عن ذلك لتأخذ طابعًا جماليًا، بحيث يمكننا القول إنها كانت تؤسس خلسة لظهور نظرة أخرى يمتزج فيها الاستشراقي بالمعرفة النفسانية بالنظرة التاريخية الثاقبة، كما بالرغبة الذاتية أيضًا.

لهذا السبب كان البصر أساسيًا في النظرة التحليلية النفسانية لكليرامبو، كما لدى تلميذه جاك لاكان. ولهذا السبب أيضًا، ما إن فقد كليرامبو بصره حتى قام بمسرحة موته، حيث جلس على أريكة ووضع أمامه مرآة، وأطلق نار بندقيته على نفسه. وكأنه بذلك يعيد خلق حياته وموته كما أعاد خلق الكائنات التي صورها بآلته الفوتوغرافية.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.