}

سينما فلسطينية في العالم: الحكاية الأصلية

نديم جرجوره نديم جرجوره 21 أبريل 2017
سينما سينما فلسطينية في العالم: الحكاية الأصلية
مشهد من فيلم "روشميا" لسليم أو جبل
يتكثّف الحضور الدوليّ للسينما الفلسطينية، في الآونة الأخيرة. يتشكّل هذا من أفلامٍ مُنتَجة قديماً، أو في أعوامٍ قليلة سابقة، أو حديثاً، تُعرض في محافل ومهرجانات دولية، أو في احتفالٍ يتمحور حول مخرجٍ واحد، وتنفتح على أسئلة الهوية والمواجهة والمنفى والعيش والعلاقات.

والحضور الدوليّ ـ إذْ يتّخذ من السينما منحى لتواصلٍ إنسانيّ، يبلغ منافذ الحياة والمقاومة والتحدّي، كي يروي فصولاً من مقارعة محتلٍّ، ومن مسعى دائم إلى كسرِ جدران الصمت العربيّ إزاء أحوال الناس ومساراتهم ومصائرهم ـ يُساهم في إشاعةِ لغةٍ أهدأ وأجمل وأعمق، من أجل حوارٍ أسلم مع غربٍ، لن تُقدِّم حكوماته حلاًّ لأزمة الاحتلال الإسرائيلي، ومع عربٍ، لن تُبدي سلطاتهم القامعة أدنى اكتراثٍ بحقٍّ أو واقعٍ أو تاريخٍ.

والسينما ـ إذْ تتجرّد غالبية أفلامها، المُشاركة في الحضور الدولي هذا، من هيمنة الخطاب الإيديولوجيّ ـ تسعى إلى ممارسة فعلٍ ثقافي وإنساني وأخلاقيّ، عبر نتاجاتٍ تعكس شيئاً من حيوية الاجتماع الفلسطيني في شؤون يومياته المختلفة، وتوثِّق بعضاً من وقائع الصلف الإسرائيلي في التعامل مع أبناء البلد، وتقول جوانب من قسوة النظام الأبويّ في علاقاته وسلوكه ومنطق تواصله مع المحيطين به، والخاضعين له.





جوهر التنوّع


أما الحضور الدوليّ فمتنوّعٌ، بتنوّع الأفلام المختارة، ومواضيعها وأشكالها وآليات اشتغالها، كما بتنوّع المحافل الدولية والأمكنة الثقافية، التي تنفتح على سينما تُصارع قدرها، فتغلبه أحياناً كثيرة، بتحقيقها إنجازاتٍ سينمائية، تجد مكاناً لها في العالم، لامتلاكها شرطها الإبداعي، أساساً. والتنوّع أداة اختبار، إذْ يتيح لكثيرين إمكانية العمل، كي يتسنّى للأهمّ والأجمل والأمتن والأعمق أن يكون الصورة المطلوبة، والمتمكّنة من قولٍ سينمائيّ يتفوّق، كثيراً، على ما عداه من أقوالٍ تُساوِم، ومن أفعالٍ تُعلي شأن المصالح الضيّقة، فتُغيِّب الجوهر، الذي تهيم به أفلامٌ فلسطينية عديدة، فتصنع منه بعض روائع السينما العربية.



والجوهر الفلسطيني، الظاهر في أفلامٍ كثيرة، منبثقٌ من الحكاية الأصلية، أي من أحوال ناسها وحالاتهم. فالفرد أساسيّ، ولقصّته الذاتية أولوية البوح والتعبير، وحقّ الاستماع إليها. ذلك أن نتاجاً سينمائياً فلسطينياً، يُصنع منذ مطلع تسعينيات القرن الـ 20 على الأقلّ، يتوصّل إلى الانتصار على مقولة "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، كي يُثبِّت مقولة أخرى، تتعلّق بتلك الحكاية الفردية نفسها، وبهواجس الفرد الفلسطيني وأحلامه ومشاكله وانفعالاته وصوته وحضوره ومخاوفه ومشاغله.


أما تثبيت المقولة الأخرى، فمرتبطٌ بصُوَر سينمائية، تخرج من عمق الحكاية الأصلية، كي تُفكِّك جدران الحصار والصمت والاحتلال، وكي تُعلن انتماءها إلى الإنسان الفرد، بتناقضاته وخطاياه وآلامه وأحلامه وقلقه، كما بمقاومته الاحتلال، ومواجهته تعنّت القواعد العربية التقليدية للعيش، وفضحه التشابه القاتل بين السلطة الأبوية داخل العائلة والبيئة الصغيرة، والسلطة المتحكّمة بشؤون الفرد والجماعة معاً.

إذاً، بعد أسابيع قليلة على انتهاء الدورة الـ 9 (15 ـ 24 مارس/ آذار 2017) لـ "أيام بيروت السينمائية"، المحتفِلة بـ "سينما المنفى"، عبر أفلام متعلّقة بفلسطين وناسها، لمخرجين فلسطينيين وعربٍ ("ضفة ثالثة"، 16 مارس/ آذار 2017)؛ يُدَشِّن "اصطياد أشباح" (2017) لرائد أنضوني (1967) ـ المعروض في ختام تلك الدورة نفسها ـ مساراً احتفالياً دولياً جديداً بسينما فلسطينية، تُعيد التذكير بمسألتين جوهرتين: جماليات الصناعة السينمائية، التي تُنتج أفلاماً تمتلك شرطها الإبداعي؛ والحفر عميقاً في صلب الحكاية الفردية، المفتوحة على الجماعة والتاريخ والراهن.

ففي 18 أبريل/ نيسان 2017، وبمناسبة "يوم الأسير الفلسطيني"، يُشاهد موظّفون عديدون يعملون في "منظّمة الأمم المتحدّة" في مبناها في نيويورك، جديد أنضوني هذا، بدعوة من هيئات تابعة للمنظّمة تُعنى بحقوق الفلسطينيين، بالتعاون مع بعثة فلسطين. وجديد أنضوني وثائقيٌّ يكشف بعض فظائع المحتلّ الإسرائيلي، عبر اشتغالٍ مع معتقلين فلسطينيين سابقين في "سجن المسكوبية" (القدس المحتلّة)، يبنون سجنهم في مصنع قديم، ويُزيلون كلّ حدّ بين ذاكرتهم ـ ذكرياتهم وراهنهم، وبين التوثيق والمتخيّل، وبين التمثيل والواقع، كي يغتسلوا من جرحٍ أو ألمٍ، وكي يوثّقوا بعض عيشٍ لهم في ظلّ وحشية المحتلّ الإسرائيلي، وكي يستعيدوا شيئاً من نضارة علاقاتهم بأنفسهم وبالآخرين ("ضفة ثالثة"، 1 أبريل/ نيسان 2017).




تناقضات المشهد



والحضور الدولي سيستمرّ في أشكالٍ أخرى. فبين 18 و24 أبريل/ نيسان 2017، تُنظّم "سفارة فلسطين في القاهرة"، بالتعاون مع "الجمعية المصرية لكتّاب ونقّاد السينما"، تظاهرة منضوية في إطار "عام القدس السينمائيّ"، المُعلَن عنه في الدورة الـ 32 (21 ـ 27 سبتمبر/ أيلول 2016) لـ "مهرجان الإسكندرية السينمائيّ لدول البحر المتوسّط"، بمناسبة مرور قرنٍ على "وعد بلفور" (1917)، و50 عاماً على حرب الأيام الـ 6 (1967).
وبين 19 و23 منه، يُكرِّم "المتحف الوطني الإيطالي للسينما"، في "تورينو"، المخرج رشيد مشهراوي (1962)، بعرض 6 أفلامٍ له، وبتنظيم ندوة يُشارك فيها، مع زوجته الممثلة عرين عمري. وسيُتوَّج الحضور المذكور، بأول عرض دولي لـ "رجلٌ يغرق" (2017)، للفلسطيني الدنماركيّ مهدي فليفل (1979)، في المسابقة الرسمية للأفلام القصيرة، التي تتنافس هي أيضاً على "سعفةٍ ذهبيةٍ" خاصّة بهذا النوع السينمائيّ، في الدورة الـ 70 (17 ـ 28 مايو/ أيار 2017) لمهرجان "كان" الدوليّ.


لن يكون سهلاً استعادة الأفلام كلّها، المشاركة في هذه المناسبات. فالأهمّ كامنٌ في قدرتها على بلوغ شيء من المُراد لها، كفعلٍ إبداعي يؤرِّخ لحظةً، ويوثِّق حالة، ويروي مقتطفاتٍ من الحكايات المبثوثة في خفايا الحياة ومساربها ومنعطفاتها. والأهم كامنٌ، أيضاً، في أن التنويع المعتمَد في اختيارها يكشف، بفضل التناقض الحاصل في مستويات إنجازها، حيوية حراكٍ سينمائيّ، ينطلق من داخل البلد المحتلّ، وينتشر في أصقاع العالم، ويمتصّ اختبارات صانعيها ووعيهم المعرفيّ والجمالي والإنساني، ويُحمِّل مضامينها خلاصاتٍ شتّى لتجاربهم المُعاشة، هنا وهناك.


وهذا لن يُلغي اتّساع المسافة الجمالية بين بهاء الصورة رغم قسوة مضمونها، في بعض الأفلام، من جهة أولى؛ وبساطة الاشتغال الذي يتناول مواضيع عادية تُعالَج بتبسيطٍ يخلو، أحياناً، من سطوة الجمال والحاجة البصرية إليه، في أفلام أخرى، من جهة ثانية؛ من دون تناسي عفوية السرد ورغبته في قولٍ مباشر، من دون اكتراثٍ كبيرٍ بمتطلبات القول وأدواته ومفرداته ومساراته، من جهة ثالثة؛ وفعالية إدخال المتخيّل السينمائيّ في صلب التوثيق البصري، من جهة رابعة.


الأمثلة عديدة، بدءاً من "عطش" (2004) لتوفيق أبو وائل (1976) و"الجنّة الآن" (2005) لهاني أبو أسعد (1961) و"روشميا" (2014) لسليم أبو جبل (1971)، المُشاركة في "أفلام فلسطينية في القاهرة"، إلى جانب 14 فيلماً آخر، و"اصطياد أشباح" لأنضوني، طبعاً. هذه نماذج تعكس تحرير النصّ السينمائيّ الفلسطيني من كلّ محرَّم حكائيّ (مُغلَّف بحيوية بصرية جميلة)، ومن كلّ ممنوع في الاجتماع والسياسة والمواجهة الفردية لوحشية الاحتلال الإسرائيلي، ومن كلّ خطابية تغتال الفنّ وعمق المعالجة وسلاستها. هذه نماذج تنفتح، بشكلٍ أو بآخر، على أفلامٍ أخرى لرشيد مشهراوي (1962)، كـ "حتى إشعار آخر" (1994) و"حيفا" (1996)، تحديداً.

الاختبار الدولي خطوة إضافية لبعض السينما الفلسطينية، في كيفية تواصلها مع نفسها أمام العالم، ومع العالم أيضاً. خطوة إضافية للبحث في معنى الصورة وعلاقتها بالواقع، وفي مغزى الاشتغال السينمائي وعلاقته بالحكاية، وفي منحى التجريب السينمائي وعلاقته بتوثيق اللحظة والذاكرة والحكايات، بلغة مفتوحة على كلّ جمالية ممكنة.

(*) ناقد سينمائيّ من أسرة "العربي الجديد"

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.