}

فرنسا تحتفي بـ"معلم" الأنثربولوجيا البصرية جان روش

محمد الخضيري 25 مارس 2017
سينما فرنسا تحتفي بـ"معلم" الأنثربولوجيا البصرية جان روش
جان روش

تحتفي فرنسا بمئوية مؤسس الأنثربولوجيا البصرية، وأحد أبرز مخرجي السينما التسجيلية جان روش (1917-2004) . كانت صدفة التحولات الكبرى للقرن العشرين سفينة أبحرت بالرجل المناهض للكولونيالية إلى إفريقيا، حيث أنجز العديد من الأفلام والدراسات التي جعلته رائدا للسينما التسجيلية وأحد معلميها الكبار.

في صيف 1960، كانت فرنسا تخوض في مستنقع حرب الجزائر، وتمارس الرقابة على كل الأخبار التي تأتي من هناك. فيلسوف هو إدغار موران، وأستاذ جامعي ومخرج هو جان روش Jean Rouch، انبريا لهذه اللحظة التاريخية الاستثنائية، فصوّرا مجموعة من سكان باريس، عبر حوارات معهم داخل بيوتهم وفي مقاهٍ وخلال عطلة صيفية على ضفاف بحر الجنوب الفرنسي المشمس.  لكن أنوار "يوميات صيف"، وكان هذا عنوان الفيلم، كشفت ما يمور في أحشاء المجتمع الفرنسي من اضطرابات. فخلف أسئلة كيف تعيش؟ وهل أنت سعيد؟ كشف الفيلم الكثير من التناقضات التي يعيشها المجتمع، ودفعت بالاثنين إلى دائرة الأضواء أكثر من أي وقت مضى كمثقفين مناهضين للحرب، وللأوضاع المزرية للعمال والمهاجرين والناجين من المحرقة النازية. فيلم حصلا بفضله على جائزة النقاد خلال مهرجان كان لسنة 1961، وطرح السؤال حول "سينما الحقيقة" التي كانت في صلب النقاش النظري حينها.

في حميمية الأهالي

ليس من المفاجئ إذن أن تحتفي باريس، ومعها فرنسا، بروش، عبر مهرجان "سينما الواقع" (24-مارس/2-أبريل)، وأن تنظم فعاليات تستعيد منجزه الأكاديمي والإبداعي الذي يناهز مئة وعشرين فيلماً. احتفالية تمتد طيلة 2017 في مؤسسات بحثية ومتاحف وقاعات سينما عريقة في باريس.

كان جان روش، عند إنتاج "يوميات صيف" واحداً من أبرز الأسماء في سماء السينما التسجيلية، لكن في دائرة أضيق هي الأوساط الجامعية. من خلال أفلام إثنوغرافية يظل أبرزها "الأسياد المجانين" (1951) الذي يرصد طقوس طائفة الهاوكا (تعني الأسياد المجانين)، وهي طائفة دينية ولدت من رحم الاستعمار، تضم مهاجرين من القرى والضواحي، يحاكون عبر طقوس رقص وجذب المستعمِر "السيّد"، ويقدمون أضحيات، يذبحونها كقرابين لآلهة تحميهم من الحداثة ومخاطرها (الحوادث في ورشات البناء، أو الصعق الكهربائي إلى آخره)، قبل أن يعودوا في الصباح إلى "وظائفهم" داخل المجتمع الاستعماري في المدن الكبرى التي نبعت من سراب. إنها قصة الاستلاب و"الجنون" الذي يحدثه عنف المجتمع الكولونيالي ولم يحكه أحد بالصورة قبل روش.

 هذا القرب والدخول إلى حميمية هؤلاء التي كانوا يخفونها بعناية عن الرجل الأبيض، جعلت من روش أحد أوائل الذين استطاعوا أن ينفذوا إلى داخل من يصورونهم من الأهالي في المستعمرات. وبهذا تحول الرجل الأسود من "موضوع" إلى "فاعل"، تطورت مواقعه داخل أفلام روش مع الزمن. لكن "يوميات صيف" كان من أوائل الأفلام التي غيرت من نظرة كثيرين إلى السينما "الوثائقية"، وجعلت الجنس السينمائي يختبر أشكالا جديدة من السينما، ومعها الحدود ما بين الواقع والمتخيل، ويخرج من ميدان الإثنوغرافيا ليلامس مواضع أخرى.

روش ليس رائدا في فرنسا فقط، بل عبر العالم، إذ كان ضمن آخرين ابتكروا الجنس السينمائي في صيغته الحديثة، وما زالت أفلامه تدرّس في جل أقسام السينما في الجامعات الفرنسية وفي بلدان أخرى. 

الكاميرا امتداد للعين

بفضل شراكة فرنسية كندية استفاد من التطورات التكنولوجية التي حققها فريق من "المكتب الوطني للفيلم" بكندا، خاصة في ما يتعلق بالكاميرات المحمولة وتقنيات تسجيل الصوت ليشرع في تجارب أسست لمفهوم السينما التسجيلية التي تجاوزت فكرة أن الوثائقي هو للإخبار ويحمل نظرة موضوعية. عبر الكاميرا المحمولة على الكتف التي كان من السباقين لاستعمالها، حوّل من النظرة السينمائية وجعل الكاميرا امتداداً للعين، كما يورد أحد أهم منظري السينما التسجيلية فرانسوا نيني. وهي التقنية التي أعطت للتسجيلي بعده الذاتي الذي لم يكن ممكناً من قبل. 
وها هو روش يقول بلسانه للإنثربولوجي/المخرج البلجيكي جون بول كولين: "لماذا تغمر نفسك بفريق كامل؟ إن كنت كاتباً فلن تجعل آخرين يكتبون جملك (...) إنه الأمر نفسه مع السينما".

مزوداً بكاميرات خفيفة (16 ملم) إذن ومعرفته الدقيقة بمجتمعات إفريقيا الغربية خاصة النيجر ومالي وعاداتهما وطقوسها، كان روش واحداً من الآباء المؤسسين بعدسته للسينما التسجيلية في بعدها الأنثربولوجي. عدسة ثاقبة التقطت مشاهد تحولت بالجنس الفيلمي إلى أفق جديد، ودفعت به إلى ممارسات إبداعية وتقنية لم يتوقعها أحد. تزوَّد روش في اشتغاله على السينما التسجيلية في بداياته السينمائية، بزاد الإثنوغرافيا وتكوينه كمهندس، وبمواقفه السياسية المناهضة للاستعمار، وصداقته لإفريقيا.

هكذا فإن أثره يظل واضحاً على الفيلم التسجيلي الذي يوصف في فرنسا بـ"الفيلم الوثائقي الإبداعي"، جنس وضع أسسه روش رفقة آخرين منذ الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي وعلى خطواتهم سار الجيل الجديد في سكة السينما التسجيلية. عبر أفلام تقارع الواقع وتقارب الإنساني عن قرب من أبعاد مختلفة: الطقوس الدينية، التحولات الاجتماعية والاقتصادية، العلاقات بين البيض والسود أسس تياراً قائما بذاته في السينما التسجيلية. وكان على نفس المسافة والمرتبة، وبعيدا عن النظرة المتعالية للباحث أو السياسي، وسرابات النظرة/ التحليل "الماكرو".  

 

المخرج والأكاديمي

لم يكن أي شيء يؤهل روش إلى أن يصير ما صار إليه. كان يسخر قائلا إنه صار مخرجاً بفضل الحرب العالمية الثانية. فقد درس بناء القناطر والجسور والطرقات كمهندس، لكن هذا التكوين لم ينفعه في "تحرير سيرة ذاتية تتضمن بناء بضعة جسور وطريق في آخر حياتي"، كما كان يردد ساخراً، بل في أن يتحول إلى خبير في تفجيرها خلال الحرب العالمية الثانية.   قبل أن يشارك روش في الحرب عمل مهندس طرقات في النيجر. هناك، ربما أصابته "لوثة" والده الذي كان من أوائل مستكشفي القطب الجنوبي، فدوّن آلاف الوثائق حول طبيعة المجتمع، وعلاقة العمال السود، مع الكهرباء، والديانات الجديدة التي أسست انطلاقا من علاقة الرجل الإفريقي بصدمة العالم الجديد الذي أتى به المستعمرون، ودينه التقنية (وكانت الأبحاث وراء تصوير أفلام كـ"جاغوار" و "أبناء الماء" و"مامي واتر"). كانت تلك اللحظة المؤسسة لتجربته كغربي يكتشف طبائع شعوب نهر النيجر، فعاد إلى فرنسا ليدرس الإثنوغرافيا على يد مارسيل موس ومارسيل غريول (أحد أول المخرجين الإثنوغرافيين)، ويعد دكتوراه دفعت به إلى تشييد جسور جديدة في علاقته بإفريقيا، ليمزجها بعشقه الكبير للسينما الذي طوره انطلاقا من علاقة الصداقة الحميمة التي جمعته بهنري لونغلوا، مؤسسة "لاسينماتيك دو فرانس" الشهيرة.

على طول نهر النيجر، كان الرجل يتنقل ويلتقي السكان المحليين وربط علاقات بالمثقفين والمواطنين البسيطين. وكان مدافعا عن ثقافتهم. لم ينظر روش إلى الإفريقي كإنسان أقل مرتبة في هرم "الأعراق" الوهمي. وكان من الأوائل الذين جعلوا منه فاعلا حرا أمام الكاميرا.    وعبر أفلام كـ"الهرم الإنساني" أو "أنا أسود" أو "شيئاً فشيئاً" (أفلام تجمع بين الوثائقي والتخييل) التي صورت في إفريقيا، اختبر العلاقة ما بين الواقع والخيال، وبنى قصصا انطلاقا من شخصيات حقيقية، ليستكشف مع تجولاتها في المدن الجديدة وليدة الاستعمار، التحولات التي عاشتها البلدان الناشئة بعد الاستقلال.

تقنية روش وطريقته في التصوير أغوت مخرجي "الموجة الجديدة"، ومعهم منظرو "السينما المباشرة". هكذا امتد تأثيره ليس فقط داخل السينما التسجيلية، بل أيضا في التخييلية. ما جعله "معلماً" حقيقياً بالمعنى الأكاديمي والروحي يحضر محاضراته في الجامعة مئات المريدين من الطلاب والمخرجين الشباب الذين كانوا في أولى خطواتهم على درب العين-الكاميرا، ووجدوا فيه شيخهم. تأثير روش امتد إلى أميركا، حيث درّس في جامعات مختلفة. وإن كان آباء الأنثربولوجيا البصرية عديدين ألهمهتم أفلام روبرت فلاهرتي كمارغريت ميد أو غريغوري بيتسون، فإن فرادة روش، هي في طريقة اشتغاله، وبصيرته التي رأت أبعد من الواقع.

عاش روش طيلة حياته، وفياً لإفريقيا، وللبحث والتصوير. وإلى آخر لحظة من حياته كان مصيره مقترنا بإفريقيا. في عام 2004، توفي في حادث سيارة في النيجر. هناك حيث يرقد جسده إلى جانب "الأسياد المجانين".

 

 

رابط فيلم  الأسياد المجانين على اليوتوب

https://www.youtube.com/watch?v=podpwdMDGWo

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.