}

معارض سورية متزامنة في صالات الاغتراب الباريسي

أسعد عرابي 15 مارس 2017
لعلّه من محاسن الصدف أن تشهد العاصمة الفرنسيّة حاليّاً، عدة معارض شخصيّة متألقة لمواهب متميزة من الجيل الشاب لفن الاغتراب السوري في صالات العرض الباريسية.

تعكس باقة هذه التجارب عمودية المحنة السورية: دماؤها ودموعها وبدرجات متفاوتة في اللوحات. ابتداءً من وليد المصري وصولاً حتى خالد تكريتي، وعبوراً من محمد عمران وفادي يازجي.

(عمران والمصري من مواليد نفس العام 1979م في دمشق وتكريتي 1964م في بيروت) والتداخل بالتالي بين سورية ولبنان والفرانكفونية التشكيلية ازداد مع المحنة السورية، فالاثنان الأولان عرضا تباعاً في غاليري أوروبيا (إدارتها ذات أصل سوري) وتكريتي ويازجي في غاليري كلود لومان (التي تحمل اسم صاحبها ذي الأصل اللبناني). دون أن ننسى عروض السوري أحمد معلا في الغاليري اللبنانية الباريسية لمارك هاشم.



1-     وليد المصري: من شرنقة (دودة الحرير) إلى أكفان الأطفال

نبتدئ منه لأن معرضه في صالة أوروبيا انتهى ليبدأ معرض زميله محمد عمران، وكان تزامن مع معرض بانورامي له أقامته رحابة صالة "كريم غاليري" في عمان (الأردن)، لذلك فقد خصص معرضه الباريسي بعدد من اللوحات الورقية المائية إضافة إلى لوحتين فقط من أعماله. هو من مواليد دمشق عام 1979 من أصل لبناني وخريج كلية الفنون فيها (قسم التصوير). عرفناه من خلال عروضه المتألقة في صالات عروض "أيام غاليري" المتباعدة ما بين دمشق وبيروت ودبي ولندن وسواها استقل مؤخراً عنها. من خلال معرضيه المتزامنين المشار إليهما.

وجد وليد ضالته حين عثرت ذاكرته على موتيف ثنائي الدلالة: فسيميولوجيته ملتبسة كمفردة تشكيلية حويصلية أولى. لأنها تدرك بنفس الوقت شرنقة بيضاء (مرتبطة بشكل بيوض دودة القز الحريرية) وكفن أبيض جنيني طفولي نوراني مثل أجنحة ملائكة الموت التي حصدت أطفال سورية بالآلاف. يستحضر المدافن الجماعية لهؤلاء الرضع ضمن لفافات تصطف وتتزاحم ببياضها الحدادي وفق خنادق لانهائية قبل مواراتها التراب وتحولها إلى قبور جماعية منسية مع جلاديها.

أما انتظام هذه الوحدات (المفردات الجنينية – الشرنقية) ضمن ثريا عنقودية فهي تملك هيئة أوراق الشجرة الوارفة مع جذعها الذي يشق الفراغ، مستحضراً رمزياً خصائص شجرة الحياة: الآرامية – الفينيقية – البيزنطية.

ندخل بالتالي في درجة مفاهيمية ثالثة من درجات التورية في الدلالة والمضمون والإشارة والإلماح. تشي الأشكال بالمعنى الرمزي دون أن تستسلم لأدبيته الوصفية. لأن طبيعة الفراغ والتكوين لديه تجريدية تنزيهية. بل إن انتباذ هذه العناصر لزاوية قصية من اللوحة تذكّر بالمبدأ الطاوي في أفضليّة الفراغ على الامتلاء. هو البعد الروحي الذي ترسخه طريقة الأداء الاهتزازي في الألوان وأنسجتها وملامسها النحتية.

يشتد هذا الإحساس التجريدي بطريقة تشظّي المساحات اللونية في اللوحات الورقية المائية. وكأنه يقرّب مجهره التشكيلي أكثر من تكويناته البانورامية العامة والتي يحيكها مثل خلايا النحل.

إذا كانت حساسية فناننا الرهيفة وليدة ألغاز لوحته، فهي ترفض بشطحها التجريدي خيانة ذاكرته الجريحة، لأنها عصية على كتم أنفاس صور القيامة الشامية: البعيدة – القريبة. فكل لوحة تمثل جثة مجنّحة تصرخ في واد أصم.




2-     خالد تكريتي: "المرأة والحرب".

 هو المعرض الراهن في طابقي "غاليري كلود لومان" في حي المونتبارناس من 18 كانون الثاني وحتى شباط 2017. تصطف في الطابق الأرضي باقة من البورتريهات النسائية الموشحة بحداد اللون الأسود (الدانتيل الشفاف) بتقنية الأكريليك على القماش بقياس رحب، أما الطابق السفلي فقد حُشدت فيه اللوحات المتواضعة القياس تمثل تنوعات على شكل كيس "البقجة" الشامية، المشبعة بحميمية أسرار الأنثى في الدور الدمشقية القديمة. عُرف خالد بخصوصيته البسكولوجية في التصوير، فاللوحة مرآته الباطنة تكشف في حالة المعرض علاقته الحميمة بوالدته، وأحزان الاثنين على القيامة الشامية. فهي تقيم في بيروت منفى عائلة العظم المنتسبة إلى رئيس الوزراء في العهد الوطني خالد العظم، وفناننا هو أحد أحفاده ومولود في بيروت عام 1964م، فارق محترفه الدمشقي واستقر في باريس مثل وليد ومحمد عمران بينما لم يغادر دمشق كل من فادي يازجي ويوسف عبدلكي.

هو خريج كلية الهندسة (قسم العمارة)، اختصاص ليس بعيداً عن مهنة التصوير، فهي مادة رئيسية فيه. هو ما يفسّر تأخره في العرض حتى أوائل التسعينيات، فأًصبح ناشطاً ويشارك في التظاهرات العامة، ابتداءً من "بينالي القاهرة" وانتهاءً ببينالي فينيسيا الأخير عبوراً من متحف الدوحة القطري. ناهيك عن عرضه بدوره في "أيام غاليري" وانسحابه منها مؤخراً ليعمل مع صالة كلود لومان، هي التي يعمل معها يوسف عبدلكي المقيم بين دمشق وباريس، وكذلك مؤخراً فادي يازجي، واستضافت السنة الفائتة كلاً من السوريين عبد الله مراد ونصوح زغلولة. تحمل اسم صاحبها ذي الأصل اللبناني. علماً بأن الصالة التي عرض فيها وليد وعمران وهي "أوروبيا" أصحابها من أصل سوري.




3-     محمد عمران ومعرض: "انتظار"

يمثل معرضه الباريسي (من نهاية كانون الثاني إلى 17 شباط 2017) علامة فارقة بالنسبة إلى المحترف النّحتي السوري. هو ما يفسّر الاهتمام الإعلامي النقدي الاستثنائي به. هو من مواليد دمشق عام 1979م (بعمر وليد)، ودرس مثله في كلية فنون الجامعة السورية وقبل أن يستقر معه في باريس.

عنوان ذو مغزى وجودي وأيديولوجي: "انتظار؟!" يعانق المعرض حشداً من المنحوتات البشرية المقزّمة. تصل إلى ثماني عشرة مجموعة أو جماعة يجلس كل فرد منها على مكعب هندسي. ناهيك عن ستة لوحات تعتلي جدران غاليري أوروبيا من النحت النافر – الغائر (البارولييف) بحيث تخلط التقنية بين خطوط الرسم الحادة والصياغة النحتية.

إذن هناك حشود عزلوية مقسّمة إلى مجموعات أو مجتمعات مصغرة مستقلة، من منمنات عرائس "خيال الظل" بقياس هزيل "ميكروكوزمي"، يستبدل الكراسي بمكعبات هندسية تتناغم مع التبسيط التكعيبي المرمز والملغز في الأجسام والهيئات العصابية المقنعة غالباً بنظارات كثيفة. يريم على سكونها الإحباطي المتراخي صمت مريب (يشبه السكون الذي يسبق العاصفة)، هو ما يذكرنا بمجموعة بيكاسو عن الأرلوكان المهرج حيث يسترخي الذكر على مكعب وترقص الأنثى على كرة. عمران استغرق في سكونية وهمودية وهوس الطرف الأول، دون أدنى حركة وكأنهم شخوص يتمسكون بتلابيب العدم والخواء الأصم "وكأن على رؤوسهم الطير".

وكذلك وجوهه العصابية المصطفة في البارولييف، فرغم أنها تذكّر بوجوه نذير إسماعيل (المنتزعة من مرآة عذابات الاعتقال) فلدى عمران لا تشي بأي معنى أو معاناة، عذابها السادي والماوزشي الوحيد مرتبط بهاجس الانتظار المديد والمستديم. مثلها مثل "سيزيف"، والحكم القدري بعذاباته الأبدية في حمل أعباء الصخرة إلى قمة جبل الأولمب قبل أن تتدحرج ويعيدها من جديد وهكذا.

شخصيات سكونيّة إحباطية، منتزعة من متاهات كافكا وسكان قبور زكريا تامر، ووحدة لباس وحيدي القرن لدى يونسكو.

تذكر وحدة اللباس الحزبية هذه بحشود الفخار الصيني في العصر الطاوي والكونفوشيوسي، لذلك يحتاج المعرض إلى عين تشكيلية وبصيرة حساسة لاكتشاف الفروق الرهيفة بين هذه الأقزام المتراخية باستسلام رتيب. إحدى المجموعات فقد اثنان منها رأسهما، وأخرى تحول بعض ذكورها إلى إناث. ناهيك عن التبدل اللوني الذي لا يكاد يبين. فالفروق الحساسة هنا والتي تعارض ظاهرة التكرار العدمي المقصود هو التلون العاطفي والبسكولوجي والسلوكي، فالكل يصرخ بصمت واحد، ولكن لكل هزيمته واستلابه الخاص. يرد صمت المعرض من كون الأذن البشرية لا تسمع الأصوات العالية البالغة الشدة (كالانفجارات الكونية بين المجرات) ولا الأصوات الخافتة، فهو صمت مشبع بضحكات السخرية والاستفزاز والعبث. شخصيات مخصيّة الانفعال، لا تعرف الضحك ولا البكاء، مفرغة من أي معنى أو حافز ما خلا إدمانها على الانتظار. محاربون عزل متقاعسون في انسحابهم من أية معركة. مستقيلون من أي موقف. وكأننا في جلسات تعزية متجمدة العواطف. فالموت والحياة سيان وكذلك الآخر والأنا.

انتظار ماذا؟ قد يكون اللاشيء! السؤال يلامس الزمن المصائبي الذي يمتد حتى قيامة العالم والعودة إلى نقطة الصفر.

لعل معرض عمران امتداد لتألق بعض معلمي النحت السوري، ما بين عاصم باشا في مدريد، وماهر البارودي في ليون، ولطفي رمحين وأخيه اللذين كانا يعملان مع مصطفى علي في دمشق، وهو الذي برع خاصة في الملصقات الخشبية، وآخرين. فاتني أن أذكر أن النحّات والمصور فادي يازجي خريج كلية الفنون الجميلة – دمشق من مواليد 1966 يقيم محترفه في دمشق الذي يعرض حالياً مع صالة كلود لومان إلى جانب زميله يوسف عبدلكي، هو من أبرز مبدعي البارولييف، خاصة أن أعماله الفخارية التي عرف بها تستعيد الهوية الحضارية السورية المتراكمة منذ ماري والآراميين وحتى الأيقونات السوريانية المحلية. تعبق تشكيلاته بهذه الروحانية الشامية، شهدناه قبل عام مشاركاً بجناحه الخاص في "صالون آرت باريس"، حاصداً الجائزة الكبرى في النحت على كرته البرونزية المزروعة بالشخوص. ننتظر قدومه مع أعماله بلهفة كبيرة. فهذا الصالون سيشرع أبوابه بعد أسابيع قليلة. لا شك في أن النحت السوري مثل توأمه التصويري بصحة وعافية خاصة في الملمات، فما بعد الليل إلا النهار. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.