}

ما لا نعرفه بين "بوليوود" و"لوليوود"

أثناء عملي مع مجموعة من الطلاب على دراسة النزاع في كشمير وتحليل أسبابه والأطراف المنخرطة فيه، والحلول المقترحة لإنهائه، ذكرت زميلة بأن أفلام بوليوود (الهندية) ربما تشكل قوة ناعمة لحل النزاع بين باكستان والهند، فهي تروّج للسلام والأخوة والتعاون بين البلدين. فوجئت بهذا الطرح، فالأفلام الهندية، التي أتابعها باستمرار، تُعنى فقط بتلميع صورة الهند كبلد متسامح، بينما تروج للطرف الآخر، الباكستاني، باعتباره إرهابياً، وأمثلة على ذلك، "The dirty Picture"، "Agent Vinod" ،" Jab Tak Hai Jann"، وغيرها من الأفلام.


وجهة النظر هذه لا تقتصر على زميلتي في الجامعة، فسينما بوليوود أصبحت في صلب ثقافتنا، بعدما خصصت الشاشة العربية قناة تبث الأفلام الهندية على مدار اليوم، بحيث تبنت ، ربما من دون أن تدري، وجهة النظر الهندية حيال ما يجري هناك. فالمشاهد العربي يجد نفسه متعاطفاً مع الممثل الهندي الذي يقتل الإرهابي الباكستاني ويتخلص من شروره، بينما قد يذرف الدموع لو حدث العكس.


ضجة "ريّس"

مناسبة هذا الكلام، استضافة دولة عربية أبطال الفيلم البوليوودي الجديد "ريّس" الذي يقوم ببطولته الممثل الهندي، شاه روخ خان، والممثلة الباكستانية مهيرة خان، وسط جدل كبير في باكستان والهند حول جدوى عمل الفنانين الباكستانيين في الأفلام الهندية. يتزامن الأمر مع رفع الحكومة الباكستانية الحظر عن بث وعرض الأفلام الهندية في دور السينما والشبكات التلفزيونية في البلاد بعد منع دام عدة أشهر.

في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2016، كتب زميلنا في "العربي الجديد"، معن البياري، مقاله "السينما الهندية تخيف باكستان"، شارحاً الأثر الاقتصادي الكبير الذي سيخلفه حظر الأفلام الهندية في باكستان على أصحاب دور السينما. وهذا يدفعنا لطرح سؤال معاكس، هل هناك سينما باكستانية؟ وإن وجدت ما الذي تقدمه اليوم؟ ولماذا لا تعرض على شاشاتنا العربية؟

استطاعت المخرجة الباكستانية، شارمين عبيد شينوي، لفت الأنظار مجدداً إلى السينما في باكستان بعد فوزها، مرة ثانية، بجائزة الأوسكار عام 2015، عن فيلمها "فتاة في النهر: ثمن الغفران" الذي يتحدث عن جرائم الشرف في باكستان. وكانت قد فازت عام 2012 بجائزة أوسكار أخرى عن فيلمها "حفظ ماء الوجه"، الذي تناولت فيه قضية العنف ضد المرأة.

لكن هذه الأفلام وثائقية، غير ترفيهية، وأقل حضوراً وتأثيراً جماهيريين، وهنا يبقى السؤال حاضراً، لماذا تراجع أداء "سينما لوليوود" (السينما الباكستانية)، التي كانت تنتج حتى أواخر عام 1970 بين 80 و100 فيلم في السنة؟


من النخبوية إلى الشعبية

ولفهم الوضع أكثر، لا بد من سرد قصير لأسباب غياب سينما "لوليوود" عن الساحة العالمية، والتي تراجعت، بل، انهارت، على يد الجنرال، ضياء الحق، فبعدما أطاح بذي الفقار علي بوتو (حزب الشعب الباكستاني) في انقلاب عسكري عام 1977، حدث انطواء اجتماعي كبير، كان من نتائجه، تأثر الحركة الثقافية في البلاد، ومن بينها صناعة السينما الباكستانية. ففي عام 1979 فقدت دور السينما جمهورها من الطبقة الوسطى، وتحولت هذه الدور إلى "ساحات للتسوق"، كانت سينما "ناز" الشهيرة في كراتشي ضحيتها الأولى. وفي إثر ذلك، شهدت البلاد انتشاراً سريعاً لآلة الفيديو التي أبقت الكثير من الباكستانيين في منازلهم، لمشاهدة الأفلام الهندية المهربة على أشرطة الفيديو، بعيداً عن مشروع "أسلمة" الحياة الثقافية والاجتماعية الذي تبناه ضياء الحق، والرقابة المفروضة على عرض الأفلام بحجة المحتوى الجنسي والعنف.

ساهم تراجع السينما الأوردية (سينما الطبقة الوسطى) في ازدياد عدد الأفلام البنجابية والبشتونية، التي تناولت مواضيع كالثأر والشرف، وهذا أثر بدوره على نوعية المشاهدين، فأصبحت السينما شعبية، ومُلئت بمشاهدين من الطبقات العاملة في المدن، والقادمين من المناطق الريفية. وفي إثرها، بدأت الأفلام الأوردية، التي تتناول الموضوعات الحضرية، تختفي بعد خسارتها جمهورها الأصلي، وتنحصر لصالح جهاز الفيديو حتى نهاية الثمانينيات.


إحياء صناعة سينما لوليوود

في عام 1992، بدا وكأن سينما لوليوود تستعيد عافيتها، عندما قرر الممثل الباكستاني الشهير، عمر الشريف، إنتاج فيلمه الكوميدي "Mr. 420" (السيد420)، بحيث حقق قفزة تجارية كبيرة، فأشاد الصحافيون بالفيلم باعتباره الخطوة الأولى في إحياء صناعة السينما في البلاد، وإعادة "جمهور محترم" لدور العرض السينمائي. ولكن النشوة لم تدم طويلاً، فالفيلم تبعته سلسلة من الإخفاقات أعادت الوضع إلى ما كان عليه.

خلال حكم الجنرال برويز مشرف (1999-2008)، اشتكى اللوبي السينمائي من أنه مضطر إلى إغلاق بعض الدور السينمائية في البلاد، إذا لم تقم الحكومة بتخفيض ضريبة الرفاهية. فصناعة السينما الباكستانية أفلست تجارياً، ولم تعد دور السينما قادرة على البقاء في العمل بسبب تأثير أفلام هوليوود. في ذلك الوقت، اقترح أصحاب دور السينما على الجنرال مشرف بأن يوافق على السماح بعرض أفلام "بوليوود" في دور السينما الباكستانية (فدور السينما الباكستانية عرضت الأفلام الهندية -والعكس بالعكس- سابقاً حتى عام 1965، لتعود باكستان إلى حظرها مجدداً بعد الحرب التي اندلعت بين البلدين حول "النزاع في كشمير" في تلك السنة)، وعليه أعطت الحكومة الموافقة على الأمر، وبدأ عرض أحدث أفلام بوليوود في دور السينما الباكستانية. وبرأي نقاد كثيرين، فإن استيراد الأفلام الهندية كان المسمار الأخير في نعش صناعة السينما الباكستانية آنذاك.

لاحقاً، قرر المنتج الباكستاني، شعيب منصور، الاستفادة من بدء عودة الطبقة الوسطى إلى السينما، وإن كان عن طريق الأفلام الهندية، فأنتج فيلماً درامياً بعنوان "Khuda Kay Liye" (باسم الله). تناول الفيلم مسألة التطرف والارتباك الفكري والمعنوي الذي أصاب عدداً من الشبان الباكستانيين بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول. وبهذا الفيلم، يكون قد ساهم في خلق أسلوب سينمائي جديد بعيداً عن الأسلوب "الهزلي" من القضايا الاجتماعية والسياسية الذي اعتمدته السينما الباكستانية لوقت طويل. وبدلاً من تصوير تقليدي للأغنياء والحديث عن مشاكلهم المتمثلة في شرب الكحول والجنس، وتصوير حياة مرفهة لا يطاولها الكثيرون، تغير الأمر، وباتت مواضيع مثل الدين والفساد السياسي، تُطرح مع قدوم مخرجين جدد يأتون من خلفيات متنوعة، جلها من الطبقة الوسطى، أو غير المرفهة.

لوحظ الأمر وبشدة، في فيلم "Zinda Bhaag" (الهرب على قيد الحياة) الذي رُشح لجائزة الأوسكار عام 2014، والذي يعبر عن الموجة الجديدة لأفلام السينما الباكستانية. يتحدث الفيلم عن شخصيات قادمة من منطقة البنجاب تسافر إلى دول أوروبية لكسب العيش بسبب ظروف الحياة الصعبة في باكستان، ويصف الفيلم معاناة الوصول إلى "الحلم الأوروبي". بينما حقق فيلم "Waar" (هجوم) مكاسب مادية كبيرة وصلت إلى ما يقارب مليوني دولار، فالفيلم الذي يتناول قضايا الإرهاب، مستوحى من قصة الهجوم الإرهابي الذي استهدف مركزاً للشرطة في مدينة لاهور عام 2009.

ومع أن إنتاج أفلام لوليوود يبقى أقل بكثير مقارنة بأفلام بوليوود، إلا أن الأفلام الباكستانية استطاعت أن تميز نفسها عن الأفلام الهندية، التي فُرضت على دور السينما المحلية في وقت من الأوقات، فجاءت وفقاً لشروطها ومعاييرها التي تتناول قضايا قريبة من الحياة اليومية لمواطنيها، بحيث ساهمت في خلق هوية باكستانية خاصة مختلفة عن الأفلام الهندية التجارية التي لا تعكس واقع الهند بأي شكل، فهذه الأخيرة، تنأى بنفسها عن المشاكل الاجتماعية الكبيرة التي تعاني منها الهند، مثل التحرش والاغتصاب والتمايز الطبقي الشديد فيها.

بيد أنه من المهم إدراك أن باكستان والهند دولتان مختلفتان، وعليه فإن عرض الأفلام الباكستانية على أنها أفلام بوليوود، كما يجري في القنوات العربية، لا يساعدنا على فهم التحولات الثقافية في تلك المنطقة، كذلك لا يساعد صناعة السينما الباكستانية على التطور والانتشار في العالم العربي، كما تفعل الدراما التركية أو السينما الهندية. وعليه، يجب أن تفرق الشبكات التلفزيونية العربية بين سينما "لوليوود" وسينما "بوليوود"، وأن تعرضها بانتظام أيضاً، فقد يسهم الأمر في فهمنا للتغييرات الاجتماعية الطارئة في كلا البلدين.


الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.