}

أفلام فلسطينية: عن داخلٍ مرتبك في مواجهة خارجٍ محتلّ

نديم جرجوره نديم جرجوره 27 ديسمبر 2017
سينما أفلام فلسطينية: عن داخلٍ مرتبك في مواجهة خارجٍ محتلّ
ملصق فيلم "كتابة على الثلج"

يُلحّ سؤال الداخل الفلسطيني، وكيفية التقاطه البصري، في أفلامٍ فلسطينية حديثة الإنتاج. إلحاحه نابعٌ من تنامي حالة التنبّه إليه، في اشتغالاتٍ آنيّة، لها ماضٍ يُعاينه، ويُقارب أحواله؛ ومن كون الداخل الفلسطيني نفسه، بتحوّلاته ورهاناته في مواجهة شظف العيش وقسوة الاحتلال، أقدر ـ حالياً ـ على تحريضٍ سينمائي أكبر وأعمق على مقاربته، لغناه الإنساني، وأسئلته الأخلاقية والسلوكية والمعيشية المتنوّعة.

مقاربةٌ كهذه عائدةٌ إلى ثمانينيات القرن الـ20، وتحديداً إلى عام 1987، مع تحقيق ميشال خليفي (1950) فيلمه الروائي الطويل الأول "عرس الجليل"، الذي يعتبره نقّاد سينمائيون عرب (قليلو العدد) "المحاولة السينمائية الأولى"، المهمّة والجدّية والمثيرة لنقاشٍ وتحليل، والهادفة إلى تبيان هذا الداخل الفلسطيني (أو بعضه على الأقلّ)، بأهوائه وأمزجة ناسه، كما بمصائبهم وتناقضاتهم واختباراتهم وثقافاتهم ومسالكهم وخيباتهم، وعلاقاتهم بأنفسهم وأبناء بيئتهم، وبالمحتلّ الإسرائيلي أيضاً. هذا كلّه مُترافقٌ ومصاعب العيش في ظلّ الاحتلال الإسرائيلي، غير المتردّد عن ارتكاب أي فعلٍ، لتشديد سطوته، وتثبيت احتلاله.

 

أسئلة المعنى والاشتغال

والداخل الفلسطيني ليس ترجمة لأحوال الفلسطينيين المُقيمين في "أراضي الـ 48" فقط، لأنه تعبير عن اشتغالٍ سينمائي يتناول أحوال البيئة الفلسطينية في فلسطين المحتلة كلّها، إنْ تكن البيئة خاضعة لاحتلال الـ48 أو الـ67، أو تابعة للسلطة الفلسطينية، أو في قطاع غزّة. فالداخل الفلسطيني هو المكان الفلسطيني برمّته، في اجتماعه وثقافته ويومياته وجغرافيته، كما في سلوك أبنائه، وعلاقاتهم وأحلامهم ومُرادهم وصَدْماتهم، وصِدَاماتهم بينهم وبين أنفسهم، أو بينهم وبين المحتلّ الإسرائيلي.

كما أن تعبيراً كهذا يختصّ بمعاينة سينمائية لأفرادٍ لا لجماعات، ولأحوال فردية لا لقضايا عامة، ولانفعالاتٍ وأقوالٍ وتأمّلاتٍ وعيشٍ، تُصيب كلّها أناساً مُقيمين في بيئاتهم، حيث يُعانون ظروفاً قاسية لأسباب جمّة، بعضها مُتعلّق بثقافة العيش العربي وفقاً لقواعد وتقاليد غير مختلفة عن تلك الخاصّة بأي بيئة عربية أخرى؛ علماً أن مآزق البيئة الفلسطينية مُصابة، أيضاً، بتأثيراتِ احتلالٍ إسرائيلي، يُزيد من قسوة العيش، وتخبّطات ناسه، وارتباكات أنماطه. وهذا كلّه من دون تناسي طبيعة العلاقات القائمة بين الجميع، في الحبّ والزواج والصداقات والمعارف، وغيرها من أشكال التواصل المُعطَّل أحياناً، أو المرتبك أحياناً أخرى، أو الباحث دائماً عن تسويات تليق بحياة عادية للغاية.

في مقابل انهماك سينمائيين فلسطينيين في التنقيب البصري والإنساني والأخلاقي في تلك البيئة، المفتوحة على أسئلة الهوية والانتماء والذاكرة والراهن والعلاقات، كما اليوميّ بأشكاله كلّها، وهو انهماك يزداد حضوراً منذ مطلع القرن الـ21؛ فإن الاهتمام بالداخل الفلسطيني يعثر على نمط تجديديّ في ابتكار لغة سينمائية خاصّة به، مع المشروع السينمائي لإيليا سليمان (1960)، خصوصاً في أفلامه الروائية الطويلة الـ3، بدءاً من تسعينيات القرن الـ20، ("سجل اختفاء"، 1996؛ و"يد إلهية"، 2002؛ و"الزمن الباقي"، 2009)، كما مع هاني أبو أسعد (1961) ونزار حسن (1960) وعزّة الحسن (1971)، وغيرهم، في أفلام روائية ووثائقية مختلفة الأشكال وأساليب العمل، وصولاً إلى الإنتاج الحديث والجديد، أي ذاك المصنوع بين العامين 2015 و2017.

فمع رشيد مشهراوي (1962) وآن ـ ماري جاسر (1974) ومهى الحاج (1970) ومؤيد عليان (1985)، مخرجي 4 أفلام روائية طويلة حديثة الإنتاج، يتأكّد إلحاح السؤال، وينعكس انهماك هؤلاء في التوغّل في مسام الاجتماع الفلسطيني، وانفعالات ناسه في يومياتهم، واضطراب الأحوال السياسية والأمنية والاقتصادية، وتنامي الانشقاقات الفلسطينية الداخلية في أمورٍ شتّى. وهذا كلّه متنوّع الصُوَر والحالات، وموزَّع على بيئات مختلفة داخل فلسطين المحتلّة.

 

حيوية الآنيّ

في "كتابة على الثلج" (2017) لمشهراوي، ينفتح المدى الفلسطيني من قطاع غزّة إلى قلب الحكاية الفلسطينية، داخل منزلٍ محاصرٍ بالقصف الإسرائيلي، تُقيم فيه 5 شخصيات (السوري غسان مسعود، والفلسطينيان عرين عمري ورمزي مقدسي، واللبنانية يمنى مروان، والمصري عمرو واكد)، هي انعكاسات إنسانية وبشرية وثقافية وأخلاقية وسلوكية لفلسطينيين عديدين. بينما ينتقل المُشاهد، مع جاسر، إلى مدينة الناصرة، في جولةٍ يقوم بها أبٌ وابنه (محمد وصالح بكري) لتسليم بطاقات الدعوة إلى عرس الابنة/ الشقيقة (ماريا زريق)، فيُصبح كلّ كلام بينهما جزءاً أو تفصيلاً أو ملمحاً أو حكايةً، متعلّقة بهما كفردين اثنين، كما بأحوال تلك البيئة الفلسطينية، وانشغالات ناسها وهواجسهم ويومياتهم (واجب، 2017). الناصرة نفسها هي المكان ـ الجغرافي والبشري والإنساني ـ الذي تريده الحاج مساحةً لمتابعة دقيقة لتصرّفات أفراد فلسطينيين، من خلال عائلة (محمود شواهدة وسناء شواهدة وزياد بكري ودريد لدواي، وغيرهم) يتوزّع أبناؤها بينها وبين رام الله، بالإضافة إلى السويد (أمور شخصية، 2016). أما الجولة فستكون حاضرة، هي أيضاً، في "الحب والسرقة ومشاكل أخرى" (2015) لعليان (حسين نخلة ورياض سليمان ورمزي مقدسي وكمال الباشا، وآخرين)، عبر سارقٍ يتورّط ـ من دون قصدٍ ـ في اشتباك غير متوقّع مع الأمن الإسرائيلي، إثر عملية سرقة سيارة.

التنويع المكانيّ كشفٌ لحالات تتشابه في مصائبها، لكنها تتناقض في آليات مواجهة تلك المصائب، وأساليب المعاينة والمواجهة. فاللقاء المنتظر، والمتأخر، بين شادي وأبو شادي (واجب)، يتحوّل سريعاً إلى نوعٍ من اغتسالٍ روحي، تنكشف فيه أحوالهما وأفكارهما وهواجسهما، كما ينعكس عبره نبض المدينة وناسها، في نمائمهم وانفعالاتهم وعلاقاتهم الملتبسة. واللقاء، غير المتوقّع، بين الشخصيات الـ5 (كتابة على الثلج) داخل منزل واقعٍ في منطقة معرّضة لمزيدٍ من القصف الإسرائيلي، تعرية لاجتماعٍ فلسطيني مفتوح على السياسة والتربية وقواعد العيش والسلوك، وفقاً لثقافات تمتدّ بين تزمّت وأصولية وانفتاح وإيمان وعزلة.

أما الصمت، الذي يغلب على مناخ "أمور شخصية"، خصوصاً في المنزل العائلي، الذي يعيش فيه الوالدان، فيبقى مرآة شفّافة وسلسة وحادّة، تفضح حالاتٍ، وتقول بوحاً، وتتيح للخارج أيضاً منافذ قولٍ وبوحٍ يُترجَمَان بكلام أو تصرّف أو موقفٍ. هذا كلّه مختلفٌ عن الغليان في مسارات أفرادٍ يلتقون صدفة، أو يتواجهون عن قصدٍ، أو ينعزلون في خلواتٍ خاصّة بفرديتهم، بحثاً عن أجوبة معلّقة، وخلاصٍ مؤجِّل، كما في "الحب والسرقة ومشاكل أخرى".

 

مشتركات واختلافات 

إلى هذا، تلتقي الأفلام وتنفصل، عبر سمات عديدة. ففي مقابل تشابه فيلمي "كتابة على الثلج" و"واجب" على مستوى وحدتي المكان والزمان؛ تنفتح المتتاليات البصرية لـ"أمور شخصية" و"الحب والسرقة ومشاكل أخرى" على مرور الوقت (بطيئاً أو متوتراً)، وتقلّص الأمكنة الظاهرة في أزقّة ومساحات أوسع ومدنٍ قليلة. والتشابه بينها كلّها حاضرٌ في قلّة الشخصيات الأساسية، وفي تمحور النصوص على سردياتٍ تعكس وقائع وتفاصيل، يتّخذ بعضها اهتماماتٍ روتينية عادية للغاية ("أمور شخصية" و"واجب" و"الحب والسرقة ومشاكل أخرى")، ويذهب بعضها الآخر إلى السياسي والنضالي وأسئلة الهوية والانتماء والعلاقة بالآخر، كما في "كتابة على الثلج" و"واجب"، باختلافٍ واضحٍ في كيفية تقديم هذا كلّه بينهما، إذْ ترتفع نسبته في الأول، من دون التغاضي عن هوامش يجعلها مشهراوي أساسية في تحديد شخصية كل فردٍ، ونفسيته وثقافته ولغته وقناعاته وتساؤلاته؛ بينما تبقى أخفّ وطأة في "واجب"، رغم التلميحات ـ وبعضها مباشر ـ إلى تلك الأسئلة نفسها، خصوصاً بالنسبة إلى العلاقة بالآخر، الفلسطيني والإسرائيلي على حدّ سواء.

الانشغال بالسرقة، وبكيفية التنصّل من مأزق سرقة سيارة "فلسطينية" موضوعٌ في صندوقها إسرائيلي مختطف، يرسمان، في فيلم مؤيد عليان، لوحة واقعية عن تشابكٍ قاسٍ بين يوميات مزرية، ورغبات معطّلة، وسعي موؤود إلى الهجرة، في فلسطين المنكوبة باحتلالٍ، وبتفشّي عَفَنٍ اجتماعي طاغٍ داخل البيئة الفلسطينية نفسها. والانشغال بترتيب أحوال المنزل العائلي، في "أمور شخصية"، لن يحجب مأزق "الإقامة" في بلدٍ محتلٍ، لن تكون الحواجز الإسرائيلية دليلاً وحيداً عليه، إذْ يُثير لقاء البحر، مثلاً، نشوة ما بعدها نشوة، في مقابل انهياراتٍ جمّة في الحبّ والعلاقة بالأهل وانتفاء حاجة أحد الوالدين إلى الآخر، وتهاوي كلّ شيء داخل العائلة/ داخل فلسطين. أما الانشغال بعرس الابنة/ الشقيقة، في "واجب"، فلن يكتفي بتشكيل مسارٍ جغرافي داخل الناصرة، بقدر ما سيخوض معارك الذات وارتباطاتها العائلية والاجتماعية، كما بالمحتلّ الإسرائيلي؛ فتنفتح فضاءات أوسع من المكان والجولة والعرس، لتنكشف مصائب في الاجتماع والعلاقات العائلية وخراب المحيط الضيّق. والانشغال بمواجهة ليلة عنيفة، في ظلّ قصف إسرائيلي على غزّة (كتابة على الثلج)، مدخلٌ إلى تعرية الاجتماع الفلسطيني بأشكاله كافة، الدينية والثقافية والسياسية والاجتماعية.

بالإضافة إلى هذا كلّه، يتشابه فيلما رشيد مشهراوي وآن ـ ماري جاسر، أحدهما بالآخر، عند غياب الإسرائيلي، الحاضر ـ في الوقت نفسه ـ عبر ثقل غيابه، أي من خلال منافذ أخرى: أصوات قصفه وتدميره، وأسئلة المواجهة معه (كتابة على الثلج)؛ أو استعادة ماضٍ أليم بالنسبة إلى الابن، إذْ للأب علاقة "صداقة" ما بإسرائيلي، يقول الأب إن له الفضل في إنقاذ الابن، المهاجر إلى ايطاليا (واجب). في المقابل، يتشابه فيلما مهى الحاج ومؤيد عليان في حضور مباشر للإسرائيلي، وإنْ بنسب مختلفة: حواجز عسكرية، وغرف تحقيق، وعلم إسرائيل على شاطئ البحر، وثقل أزمنة ماضية تقضّ مضاجع شخصياتٍ، من دون أن تنبس بكلمة، لأنها تعاني ألم ذاك الثقل في أسلوب عيش، أحياناً (أمور شخصية)؛ في مقابل ظهور المحقِّق الإسرائيلي والمخطوف الإسرائيلي والضغط الإسرائيلي (الأمني والبشري) أيضاً (الحب والسرقة ومشاكل أخرى).

 

جماليات مختلفة

هذه نماذج حديثة، تستكمل ما يُمكن اعتباره مشروعاً سينمائياً متنوّع الأشكال وأساليب القول، يتعلّق بتفكيك البنى المختلفة في الداخل الفلسطيني، كبيئة ونمط حياة وسلوك عيش. نماذج مفتوحة على مزيدٍ من التساؤلات النقدية، المترافقة واشتغالٍ سينمائيّ تتجلّى جمالياته البصرية في "أمورِ شخصية"، المنخرط في المناخ الدرامي والفني والسينمائيّ نفسه تقريباً، الذي يسم أفلام إيليا سليمان؛ كما في "الحب والسرقة ومشاكل أخرى" أيضاً، المبني على حركة أسرع في مقاربة التفاصيل، وعلى مزيج التشويق والنَفَس البوليسي والكوميديا الساخرة، عبر ترتيب المتتاليات البصرية وفقاً لمونتاجٍ وتقطيع يتماهيان بتناقض المسار الحكائيّ، بين مواقف إنسانية وغليان المطاردة.

وإذْ يرتكز "واجب" على جمالية "فيلم الطريق"، إلاّ أنه يعتمد على الهوامش في سرده تفاصيل الحكايات، عبر كاميرا ترافق الشخصيتين الأساسيتين بلقطات قريبة، وتلتقط نبض المدينة بلقطات أبعد أحياناً. في حين أن اعتماد المنزل حيّزاً وحيداً لسرد حكاية "كتابة على الثلج"، وما فيها من كشفٍ وتعرية ومواجهة، يفرض لقطات قريبة، وتقطيعاً مرتبكاً كارتباك الشخصيات المقيمة في مناخٍ عنفيّ، ينكشف في سلوك أو قول أو تصرّف.

بين داخلٍ فلسطيني مُقيم في مصائب العيش اليومي، وخارجٍ محتلٍّ يُزيد من حدّة الانكفاء والاختناق والمواجهة العفوية والانفعالية غالباً؛ تبدو النماذج الـ4 أشبه باختبار سينمائيّ لتعرية بيئة محاصرة بتفكّك وانشقاقات وخراب ذاتي فردي متنوّع، وبصدامات (بعضها صامتٌ وقاس) داخل جدران المنازل، التي تُشبه فلسطين في اضطراباتها وتبدّلاتها، وبرغبات محطّمة، وهواجس ملتبسة، ورغبات معطَّلة.

 

ناقد سينمائيّ من أسرة "العربي الجديد"

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.