}

المسرحية السورية "عرض البحر": لا شاطىء قريبا يلوح!

مناهل السهوي 29 ديسمبر 2017
مسرح المسرحية السورية "عرض البحر": لا شاطىء قريبا يلوح!
مسرحية عرض البحر

أن تجلس إلى جانب الخشبة لتتابع عرضاً مسرحياً أمرٌ يحصل في حال كانت الكراسي تغصّ بالمتفرجين، وهذا ما حدث خلال 11 يوماً من عرض مسرحية "عرض البحر" والتي عُرضت مؤخراً، إخراج مجد فضة، على مسرح سعد الله ونوس في دمشق. على أحد المقاعد التي اتخذتها إلى جانب الخشبة، كانت وجوه الممثلين أقرب، والأصوات تصل عميقاً داخلي، إنها التجربة الحميمية مع المسرح وكأن جزءاً مما يحصل يعنيني كما يعني الكثيرين.

 

طوف واحد وثلاثة رجال

يبدأ العرض المأخوذ عن مسرحية "في عرض البحر" للكاتب البولوني سلافومير مروجيك على طوف من الخشب مع بضعة صناديق وثلاثة رجال قام بأداء أدوارهم وسيم قزق، بدور هيثم، الرجل الأربعيني ذو السلطة والتأثير الأكبر، الفرزدق ديوب، بدور أبو العز الشاب الثلاثيني الذي يمتلك القليل من التفكير والكثير من العصبية ويعمل طاهياً، ياسر سلمون، بدور رضا الشاب العشريني الطموح المؤمن بالحب والمُثل العليا، الثلاثة تائهون على متن طوف في عرض البحر، لا شاطئ قريباً، ولا يبدو أن هناك أملاً في الوصول إليه.

بعد سهرة عامرة بالكحول والغناء والضحك رغم حالهم المزرية، يسقط الثلاثة في نوم عميق عدا هيثم الذي يقوم بتناول كلّ ما تبقى من الطعام ورمي الصنارة التي كانوا يصطادون بها في عرض البحر، في حركة يصعب تفسيرها، لكنه ربما العبث الذي يتربص بنا، الخراب أو حتى الرغبة في امتلاك الآخر والسيطرة عليه، ينهض الثلاثة صباحاً ليكتشفوا فقدان كلّ مؤونتهم من الطعام وحين لجأوا إلى الصنارة كانت قد فُقِدت أيضاً، يتبادلون الاتهامات ويرمون المسؤولية على بعضهم بعضاً، ليظهر مأزقهم الوجودي وهو فقدان الطعام وخوفهم الموت جوعاً. يعود هيثم، أو المستبد، ليطرح نفسه كعنصر تحوّل فيقترح أن يأكلوا واحداً منهم، تتعدد طرق اختيار الضحية بالاقتراع أو بالانتخابات أو حتى بطرح معايير غير منطقية ولا تتلاءم سوى مع غايات الفكر الذي يطرحها، وهكذا تبنى المسرحية على نسق كوميدي متصاعد، وشيئاً فشيئاً يظهر لدينا حزبان، هيثم المثقف وأبو العز المنساق خلف عصبيته من جهة، واللذان يقرران أن رضا هو من يجب أن يؤكل ومن الطرف الآخر رضا الذي يحاول إيجاد مبررات كيلا يغدو طعاماً لرفاقه، يبقى العرض على هذه الوتيرة حتى يظهر رجل يدعى موظف البحر (مجد فضة) يمشي على البحر الذي تمكنوا من "تبليطه" كما قال، ليصبح هذا الموظف الطعام الجديد للثلاثة، ينساق الموظف لأوامرهم بشخصيته المهزوزة والضائعة والتي تنسى من تكون أو ماذا تريد حتى؟ يختفي فجأة هذا الموظف، ينكر هيثم وأبو العز ظهور هذا الموظف بينما يصرّ رضا على أنه أتى وحدثهم، وأن البحر تم "تبليطه" وأن الشاطئ قريب، يمارس الاثنان على رضا مجموعة من الضغوط النفسية، وذلك بإيهامه أن ما حدث لم يكن حقيقياً وأنه بدأ يفقد عقله، وشيئاً فشيئاً يتحول رضا الطموح والواثق من النجاة إلى شخص منقاد يضحي بنفسه في سبيل الجماعة، ذات الجماعة التي أوقعته في هذه الورطة وغيرت تفكيره ليتماهى مع لاعقلانيتها.

 

تسلط الجماعة على الفرد

يخرج العرض بعدة اتجاهات قد يكون أهمها وأغناها الصراع القائم بين الفرد والجماعة وإعادة قولبة الفكر بما يتماشى مع رغبات وتوجهات هذا المجتمع، وهذا ما يدخل في صلب عمل المسرحي سلافومير مروجيك، وهو ما قد يدفع الأفراد إلى التضحية بأنفسهم بالمعنى الواقعي أو حتى المجازي والتخلي عن حقيقتهم وإيمانهم وزعزعة ثقتهم بما يؤمنون، ليتحولوا إلى جزء من منظومة أشمل.

ومن هنا ندرك أنه لا حاجة لفهم ما حدث قبل ضياعهم، ولماذا هم في هذا المأزق، فالماضي غائب والحاضر مزعزع والمستقبل ضبابي، إنه الإنسان في أكبر محنه الوجودية وهي الجوع، حين تتحول القيم والمبادئ والثقافة إلى سراب أمام الأمعاء الخاوية ويتراجع الإنسان إلى مستواه الأول أي الوحشي، فلا ثقافة ولا حب ولا أمجاد سابقة تساعد على الصمود أمام إنسانيته فيقبل بحلول وحشية كالتهام أخيه الإنسان، وفي الأزمات الكبرى يبقى المستبد هو صاحب السلطة المطلقة، أما الصغير سواء الفقير أو صاحب السلطة الأضعف هو الضحية دوماً.

مسرحية مخيفة

إنها مسرحية مخيفة فعلاً ليس بوقائعها، إنما بالفكرة وبعنفها، وفهمنا للصلاحيات الواسعة التي قد يمارسها الآخر علينا من قتل وتجويع ونسف للحقائق والأفكار، لستَ مُلك نفسك ومهما كانت المساحة، فالإنسان ملك الشروط الاجتماعية والفكرية التي يحياها، وكلما زادت هذه الشروط بالضغط على توجه الفرد، كلما فقد قدرته في الدفاع عن وجوده، تطرح المسرحية فكرة تسلط الفرد على الآخر بشراسة وبهمجية من خلال نسف كل ماضيه وخلق وجود جديد له يتماشى مع اللحظة الراهنة التي قد تكون من صنع الفرد نفسه. في اللحظات الأخيرة من المسرحية توضع آلة طحن اللحوم في مقدمة الطوف ويبدأ طحن اللحم أو الأفكار أو حتى الحياة وفتفتتها حتى تأخذ شكلها الجديد، الشكل الأكثر ملائمة للأفكار الشمولية، ورغم عودة موظف البحر ليقنع رضا بوجوده إلّا أن الأخير يكون قد استسلم تماماً للجماعة.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.