}

الشكل الدال في أعمال عمر سعدون

عز الدين بوركة 18 ديسمبر 2017
عمر سعدون (1978- القصر الكبير) فنان تشكيلي من الفنانين الذين يمكن اعتبارهم متعددي الاشتغال الفني بالمغرب، ويعد من الفنانين الذين ينتمون إلى الحساسية الجديدة، هؤلاء الفنانون الذين تندرج أعمالهم في الغالب، داخل خانة البراديغم المعاصر اشتغالاً وبحثًا وخطابًا. إذ تختلف اهتماماته الفنية من تصوير صباغي وفن الفيديو والبرفورمانس (فن الأداء) والتجهيز وغيرها من التعابير الفنية المعاصرة.

ترتكز مجمل أعماله بين التصوير الصباغي المعاصر وفن الفيديو، بينما تعدّ الدهشة منطلق هذا الفنان في الاشتغال الجمالي المعاصر، إذ يختار موضوعات أعماله من فضاءاته اليومية ومن محيطه ومتابعات الإعلامية والسياسية والاجتماعية، ما يجعلها أعمالاً غنية بسؤال اليومي والراهن. فتغدو غالبًا، احتجاجًا على الأوضاع الراهنية، من حيث إن العمل لديه نابع من قوة تأنيسية humaniser.

يعتمد عمر سعدون في أعماله "الاحتجاجية" على توظيف اللون كأداة ترميزية تفتح أفاقًا تأويلية متعددة، ما يجعل العمل لديه "تجربة جمالية" بالمعنى الذي يضعه غودمان في فلسفته الجمالية التحليلية للأثر الفني، باعتباره حاملاً للرموز. ومنه يغدو اللون عاملاً حسيًا داخل "حساسية العمل" ككل، هذه الحساسية التي تهرب إلى الدهشة، كخلق جمالي لنظام ترميزي، هذا النظام الذي يأتي باعتباره "الشكل الدال" la forme signifiante في أعمال سعدون من حيث أن الشكل الدال هو "الخاصة الجوهرية للعمل الفني" وهو تلك "الترتيبات والتضافرات التي تحرّك مشاعرنا  بطريقة معينة" وفقًا لما يقول كلايف بل في كتابه "الفن".





الصورة باعتبارها فضاءات الدهشة

ينطلق الفنان سعدون من تجربته الجمالية والحياتية للاشتغال على أعماله الصباغية، التي تترك للون إمكانية التدفق والتداخل وصدفة، ما يشكل "اللامتوقع". في أعماله الأخيرة التي بدأها منذ فترة ليست ببعيدة، انطلق هذا الفنان صوب عالم من الدهشة المتولدة عن تلك الصدمة التي يخلقها فعل "المشاهدة" للعمل في ذهنية المتلقي، الذي يجد نفسه أمام تصوير "بهيج" لجماجم بشرية، عبر تدفق اللون وتنقيطه وتسطيره. فالعمل هنا هو وليد اللون لا غير، باعتباره دالاً وجزءً من نظم الشكل الدال الذي يحضر باعتباره "الصفة الفريدة التي تشمل كل أعمال الفن البصري". فتتجسد الصدمة في تداخل البهجة بالمأساة، أو الموت بالحياة.

يهتم كثيرًا عمر سعدون في أعماله التلوينية الأخيرة بالجُمجُمة، كصورة دلالية تتعدد حجومها وأبعادها وزوايا تصويرها الصباغي، فتتعدد دلالاتها ورمزيتها، لما تتيحه من إمكانية طرح مأساوي يغذيه الفنان بالحقل التلويني البهيج، كأننا أمام انطباعية معاصرة. هذه الأعمال التي تستمد أصالتها وأصولها من فن "فانيتي Vanité"؛ هذا الفن الذي ظهر في القرن السابع عشر بأوروبا، والذي يقدم الموت بشكل مجازي وترميزي allégorique، عبر الترميز لذلك المرور الزمني الحياتي. إذ يعمد الفنان لتوظيف الجمجمة داخل فضاء تصويري لمجموعة من الأغراض الطبيعية (الطبيعة الميتة)، في تداخل إيحائي بين الحياة والموت. سيعرف هذا الفن ازدهارًا كبيرًا في الفترة الباروكية، إلا إنه سيختفي مع بدايات القرن الثامن عشر، وسيعاود الظهور مع سيزان Cézanne وغيره في القرن العشرين، بينما سيغدو جزءً من اهتمام التصويرية التشكيلية الحديثة، إلى أن يعرف أوجه مع الفنان التشكيلي المعاصر فاليري بِلان Valérie Belin، في العشرية الأولى من هذا القرن.

فإن كانت أعمال عمر سعدون مستلهمة من هذا الفن، فهو لا يعمد إلى جعلها واقعية بقدر ما يجعلها عامرة برمزية اللون والتلوين. فإن كانت للجمجمة دلالة ورمزية متعلقة بالمأساة والموت والفزع والوجع، فسعدون يغمرها ببهجة تستمد انبعاثها من تلك الألوان الفاتحة والباردة، عكس تلك السوداوية التي تغرق فيها أعمال فناني فن الـ"فانيتي". فيسعى بالتالي الفنان إلى الهروب من ظلمة العالم، عبر إغداق عليها "بهجة لونية" تعيد رسم الرموز وتبديل الدلالات الشكلية، أي تغيير معنى العالم.



في سلسلة من أعماله الصباغية التي اختار لها لوح الأطفال المدرسي L'ardoise d'écolier سندًا للرسم، سيعمد عمر سعدون لتصوير مجموعة من الهياكل العظمية (شخوص)، مختارًا لها حجم التمثال النصفي. وذلك في تعدد للشخصيات من بهلوان وجندي وموظف وشخوص أخرى، في تمثيل للحالة الإنسانية المتكسرة والمنهزمة، التي تصيب الإنسان في ظلّ ما يشهده العالم من حروب ومآس، إلى حافة الانقراض، إذ بات "موت الإنسان" من الأمور التي يصعب الحديث عنها، في الوقت الذي تحدثت عن ذلك فلسفات تنبؤية عدة، فالإنسان يعيش تغيرًا جذريًا في حياته أمام ما يعرفه العالم من تقدم تكنولوجي يكاد يصير ميتافيزيقيا، إلى الحد الأقصى الذي يحمله هذا المصطلح من دلالات ومعان. فحياة الإنسان المحدودة، وإن تسعى مجموعة من التجارب إلى التغلب على الموت، فإن هذا المسمى الموت، يبقى الحتمية الوحيدة في هذا العالم والأكيدة، بل إنه القلق الأنطولوجي للإنسان، ومحفّزه للإبداع، باعتبار الفن مواجهة صريحة مع الموت، إنها نوع من الخلود. هذا الخلود الذي يظهر في أعمال عمر سعدون عبر تلك الجماجم التي تحضر باعتبارها شخوصها ذات وظائف معينة.

فالفانيتي كفن - كلاسيكي - أعاد إحياءه الفنانون الحداثيون والمعاصرون، يعمد إلى الترميزية كسند تعبيري، وإلى التعبير عن العدمية، التي تشير إلى كون الوجود الإنساني بدأ يفقد دلالته. بينما تؤكد الأعمال المعاصرة المندرجة في خانة هذا التيار، على حتمية الزوال الوجودي للإنسان. ما يستدعي معه التفكير في تغيير الرؤية تجاه عالمنا اليوم والإنسان معًا. فالعالم باتت تضربه تلك الأزمة العدمية، حسب التصور النيتشاوي، وذلك بسقوط القيم العامة التي أغرقت الإنسانية في غم العبث، بأن فرضت عليها اليقين المتشائم الذي لا قيمة لشيء معه.

وللتغلب عن هذا "الانحطاط" بات ضروريًا التفكير في "الإنسان المتسامي"، وذلك عبر الانتصار للجسد باعتباره الصورة الوجودية للإنسان، فالإنسان لا يوجد إلا باعتباره جسدًا. وذلك في ظل تجاوز مساوئ الحداثة إلى ما بعدها، كما ينظر نيتشه ومن بعده بودريار وغيره. وهنا تسعى الفنون الجديدة المعاصرة إلى الإعلاء من الجسد عبر مساءلته، كما هو الحال في أعمال عمر سعدون، بوضعه موضع الموت، أو جعله أداة فنية استعراضية وأدائية وغرضًا فنيًا في الآن نفسه، كما نلمس في أعمال هذا الفنان وغيره من الفنانين المغاربة.





فن الفيديو أو البحث عن اختراق المألوف

عمر سعدون، هذا الفنان القادم من عمق الفن المغربي، والمتمرد على المّألوف والمعتاد فيه، والباحث عن أساليبه الخاصة في عالم الفن المعاصر، إلى جانب اشتغاله على لوحاته الصباغية المغايرة وإنشاءاته الفنية، وتركيباته الإبداعية، التي يوحدها الشكل الدال من حيث هو صفتها المشتركة، فقد اختار أن يشتغل على فن الفيديو لإنتاج مجموعة من منجزاته فنية التي تمس وجدان المتلقي.

لقد أخذ الفنان نام جون باك Nam June Paik عالم الفن إلى أفق مغاير، فهذا الفنان المعاصر والمجرب، وفي الوقت الذي أراد فيه أن يخترق اللوحة وعوالمها وأن يجرب طرقًا تعبيرية مغايرة، وبالتحديد في العقد السادس من القرن المنصرم، سيحاول الجمع بين الفن والموسيقى والتكنولوجيا، إذ سيعرض مجموعة شاشات التلفزيون مرتبطة بالف، وكل شاشة تعرض عرضا موسيقيًا مختلفًا. لكن لن يتوقف جون باك عند هذا الحد، بل سينقل آلة تصوير الفيديو خارج المعرض والإستوديو إلى أن تصير أداة فنية بعدما قام بتسجيل تلك الطقوس التي يقوم بها رئيس الكنيسة، ليخترق فن الفيديو جسد الفن ويصير أسلوبًا فنيًا معاصرًا بامتياز.

وقد حرك الفن المعاصر الصورة وتحرك معها، وتعدد معه الشكل الدال، بل يكاد يكون قد تغيّر، إذ لم يعد يقتصر على اللون والخطوط والأشكال، بل قفز صوب نظم مخالفة ومعاصرة، ومن هذه الحركية والتغير ينطلق العمل الفني لدى هذا الفنان. فيستفز المتلقي لطرح الأسئلة، بتركيب أشرطته الفنية عبر توليفات من الأسود والأبيض والتصوير السالب وغيرها من الأساليب، مثل دمج الصور وجعلها متقابلة ومتماثلة أو متعددة داخل الشاشة، فتشابه تلك الصور الأولى للـ "بوب آرت" Pop Art المتكررة، للفنان أندي وارهول عبر استنساخ الحريري السريغرافي متعدد الألوان لصور مصغرة ملتصقة جنبًا إلى جنب. يجعل عمر سعدون شريطه متكررًا داخل مربعات صغرى ومتغيرة الألوان، مثلما قام به في الفيديو الفني (إغاثة SOS - 2009) حيث تتداخل الصور وتتداخل نوافذ الإغاثة بينما يعم الضجيج أرجاء الفضاء، موسيقى قادمة من بعيد، وظلال تتداخل في تناص موسيقي، ما يجعلنا أمام أثر مفتوح على احتمالات وتصورات وتأويلات لامتناهية. بينما المربعات التي تكبر وتصغر وتتعدد وتتغير ألوانها (في تقابل مع الـ بوب آرت Pop Art) هي تعبير عن محاولة القفز خارج النافذة، في بعد سيكولوجي يجعل المتلقي كأنه هو نفسه راكب الحافلة والراغب في القفز والنجاة من نافذة الإغاثة، لكن أي نافذة؟ هل هي الذات أم الوطن أم العالم بسوداويته أم شيئًا آخر؟ تتشابه الأمور لتصير مجرد ظلال وانعكاسات إشعاعية، ويصير المشاهد هو المنكوب والمنقِذ. هذه الإغاثة التي تجد لها متسعًا في ما سبق وذكرناه عن العدمية وحتمية موت الكائن الإنساني، والذي لا يسعف انقاذه سوى "إغاثة الإنسان المتسامي" فيه. أي الخروج من العدمية في إعادة لمساءلة القيم الموجودة اليوم داخل هذا المجتمع.

هذا ويعالج عمر سعدون شرائطه المصورة والمتحركة منذ سنة 1993، تاريخ أول فيديو فني أنجزه، في تداخل ما هو واقعي وتجريدي ومفاهيمي، عبر مناقشة مواضع عدة من اليومي وما يمثله الفنان من دور داخل المجتمع. الدور المنوط به إعادة الاعتبار للفرد وفردانيته التي يفقدها داخل عادات هذا المجتمع التي ما تزال غاطسة في البدائية والقدم والأعراف. فمسعى الفنان المعاصر هو مساءلة عالمه اليومي والاجتماعي وطرح التابوهات في ظل بناء ما بعد حداثي، نكاد نفتقر إليه في المغرب.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.