}

"تقاسيم لونية"؛ أمين الباشا والآخرون

أسعد عرابي 1 ديسمبر 2017
عانقتُ خلال مرافقتي لمعرضي الاستعادي (غاليري أيام) بيروت بشوق وشبق من افتقد أُنسها لعدة سنوات، وجدتها متجدّدة كعادتها المعمارية والبشرية، متجددة في خصوبة لبوسها الفنّي، أقصد مؤسساتها وصالات عروضها، وحسن استضافتها لفناني النزوح و"القيامة الشامية"، حتى كأنها عادت من جديد عاصمة الثقافة التشكيلية في المحترف العربي المشتت في الداخل والخارج، إليكم بعضاً من هذه الباقة البيروتية:

يقيم متحف سرسق في الأشرفية معرضاً استعادياً للمعلم أمين الباشا (لبلوغه عمر الخامسة والثمانين)، مستمراً حتى الثاني عشر من مارس/آذار العام المقبل. وذلك تحت عنوان مثير: "تقاسيم لونية" مؤكدًا أعمال ما بعد الستينيات التي بلغت خلالها خصوبته الأسلوبية منتهى النضج والتأثير. يُقام المعرض بدعم البنك اللبناني الفرنسي على مألوف عادة تشجيعه منذ تأسيسه عام 1930، وبالتعاون مع مؤسسة الفنان نفسه. قدّم المعرض الباحث الأكاديمي والمصور فيصل سلطان بنص بالغ العناية والدقة التوثيقية.



معرض استعادي آخر موازٍ للمعلم اللبناني الرائد عبد الحميد بعلبكي (1940 -2013) مستمراً حتى نهاية ديسمبر/كانون الأول من العام الراهن. تسلقت لوحاته "سيميز" الجدران الرحبة مفتتحاً الصالة المحدثة والأبرز في العاصمة، حاملة اسماً معروفاً: "غاليري صالح بركات" في كليمنصو. لعل افتتاح هذه الصالة العملاقة (كانت "مسرح المدينة") يمثّل الحدث الأشد سعادة وحداثة في العاصمة، بطابقيها وحلولها المعمارية المتراشحة بحرفية هندسية مستقبلية، لم يكن من السهل جمع هذه الكمية من أعمال الرائد بعلبكي الأب (الغني عن التعريف) لذلك رتبت اللوحات وفق سياق تاريخي، مما أعطى للمعرض والصالة الوليدة الطابع الثقافي، مع احتفاظ بركات بصالته العريقة: "أجيال" القريبة من الحمراء.

ثم هناك معارض الفنانين السوريين عبدالله مراد وسعد يكن، ورغم أن الشابة هلا عزالدين لبنانية من عرسال البقاع حيث تجمّع أكثر النازحين وأطفالهم التعساء، فإن موضوع معرضها في "أجيال غاليري" يمثّل المحنة السورية بامتياز، ولا يخفى أنها موهوبة في البورتريه (ذي الاستلهام الفوتوغرافي). ورغم حيوية فرشاتها المأزومة فإن التكرار غالب على مجموعة المعرض، بعكس النحاتة السورية الاستثنائية صفاء الست (من مواليد 1974) والتي تعرض هياكلها ومستحاثاتها المعدنية العجفاء والبالغة الأصالة في "دار النمر للفن والثقافة" في الجميزة. تستحق هذه الفنانة التوقف لبلاغة وحدّة تعبيرها، ليس فقط لأن النحاتين السوريين خاصة بمستواها نادرون بعكس حركة النحت الخصبة والمزدهرة في لبنان مما سمح لسيزار نمور بتأسيس متحف النحت الخاص به (ابتداء من سلوى روضة شقير وانتهاء بشوقي شوكيني)، بل لأن لغتها الشمولية تتجاوز المحنة السورية إلى الزمن المطلق والعبثي الذي يمثل الموت والاندثار الوجودي العام الذي يحكم تاريخ الكوكب الأرضي على مثال ما جرى منذ خمسة وستين مليون عام، عندما اندثرت كائنات الديناصور بحكم صدمة الديوريت، وفناء الأخضر واليابس وأنواع الأحياء والأسماك والطيور، هو ما يجري فعلياً في القيامة الشامية إن لم يكن أعظم. معرضها على مستوى هذه المأساة روحيّاً دون التعثر في الوصف المؤقت. هو ما يذكر بأن أبرز نحاتي ما بعد الحرب محمد عمران المقيم في باريس وقبله ماهر بارودي في ليون، علماً أن رسامي ما بعد الحرب هم ياسر الصافي، وليد المصري، يوسف عبدلكي، زهير دباغ وغيرهم.

* * *  




لا شك في أن أبرز هذه العروض هو استعادية أمين الباشا الذي يستحق تقريب مجهرنا النقدي التحليلي من خصائصه اللونية الموسيقية. ولد فناننا في بيروت عام 1932 من عائلة شغوفة بالموسيقى والرسم، كانت دار عمه حضناً لاجتماع الموسيقيين بين الحين والآخر. ابتدأ تعلمه التصوير في "الألبا" (الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة) وكان يتردد على محترف المعلم سيزار جميل، وذلك قبل حصوله على منحة فرنسية في بوزار باريس ما بين عامي 1960 و1986. ثم يسافر إلى إيطاليا أثناء الحرب الأهلية ابتداء من عام 1976 للاطلاع، أما الإقامة الحاسمة التي حددّت مساره الإسلوبي الحاسم فكان عام 1987 إلى إسبانيا-الأندلس. وهنا يعثر على جدوى التشظي في المساحات الملونة المشرقية ثم تحول إلى تلوين الصفائح الخشبية المتعددة الطبقات، مثل النوافذ والأبواب، الغائرة والنافرة مثل عناصر المقرنصات الملونة، مرة بلون متقدم في قسمها المقعر مثل الأحمر ومرة بلون متأخر في قسمها المحدب مثل الأزرق، أي أن الالتباس والتبادل والتكامل اللوني اشتدّ رهافة بعد هذه الرحلة، وتسلل التأثير الموسيقي القزحي أكثر فأكثر، في عام 1989، ينجز لوحة مفصلية مهمة عنوانها: "تحية إلى موسيقي الأندلس زرياب" اقتناها متحف معهد العالم العربي عن طريق محافظه ابراهيم العلوي.

ولا شك أيضاً في أن تشظي الأشكال وتفتيت ألوانها يتناغم مع اهتمامه بفن الموزاييك (الفسيفساء) والزليج والسيراميك والمقرنص. ابتدأ بالملصقات التكعيبية الخشبية، وذلك بالتصوير على البارافانات والعلب الخشبية الجاهزة والصناديق. متخيلاً حلم سندباد البساط الطائر، وعصافير الجنة، والفنون البيزنطية (خاصة في تكوينات الموضوعات الكنسية. ناهيك عن موضوعات الموسيقيين والإنشاد الديني، تتظاهر ما بين عامي 1980 و1990 عناصر خشبية ميكانيكية مصبوغة بطريقة غبطوية روحية كما هو ميكانيك الجزري والساعات المبرمجة في عصر الرشيد، وسائط للتسلية واللهو والمرح والترويح عن النفس. تتراوح مواده الأساسية بين الألوان الزيتية على القماش والألوان المائية على الورق، يصور في الحالتين أحوالا يومية في مدينة بيروت ثم أصبح يهتم بالمحفوظات ثم رسوم الأطفال، وكان قد جمع في كتاب مئة لوحة مائية من الفترة الأندلسية. هو بالإجمال لا يفرق بين التجريد والتشخيص التعبيري، بين المسطحات والمحجمات يتحول من الواقع إلى مسرحة الحلم، والأماكن الحميمة وفق "منظور عين الطائر" كما يقول التي ترى العالم من القبة السماوية دون جاذبية أرضية أحادية ودون أحادية مصدر الضوء.



أرى أن الطابع المتوسطي الشمولي الذي يمثل جوهر الحساسية اللبنانية في التصوير يتحالف فيه الثلاثة الكبار:

صليبا الدويهي وشفيق عبود وأمين الباشا. ليس بقية المعلمين ببعيدين عن هذه الروح. يقيم الأول توليفاً مع مدرسة نيويورك المتأخرة خاصة نيومان والمينماليزم، و يقيم الثاني توليفاً مع مدرسة باريس الغنائية، متفوقاً على إستيف في تحويل بونار إلى تجريد غبطوي، ويقيم الثالث توليفاً مع بعض تيارات الأندلس الفردوسية، دون أن ننسى نهلهم الشاب من الطبيعة اللبنانية الغنّاء بين الجبل والبحر، ثم اجتماع الثلاثة على تصميم الزجاج المعشق، ناهيك عن القرابة في المقامات الصباغية. تحتاج هذه الملاحظة الجمالية إلى دراسة مخبرية مقارنة معمقة لتثبيت متوسطية اللوحة اللبنانية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.