}

الفوتوغرافي عمر صناديقي: لست مِمَّن يحرّكون الجثث لتلائم صورهم!

مناهل السهوي 30 نوفمبر 2017

"كانت الصدمة الأكثر إيلاماً لرؤية جثة أمامي هي في المرة الأولى. في ما بعد صار الأمر أقل وطأة لكن مع حضور قسوة الموت ذاتها" بهذه العبارة يواجهنا الفوتوغرافي السوري، عمر صناديقي، قبل أن يستذكر صورة ليد جثة يتوسط أصابعها خاتم من الفضة مزيّن بجوهرة، بالنسبة له هذا التفصيل كاف ليقول إن الموت حدث، وإن بقية الحكاية ستبقى مجهولة.

باتت الصورة العصب الأول لكل نزاع سياسي، من خلالها يتم نقل الحدث، توثيقه أو حتى الحصول على التعاطف في قضية ما من باب التأثير في الرأي العام أو إخفاء الحقيقة عنه، ولكن هل تم توثيق جميع أشكال الألم التي مرت خلال القصف، الجوع أو النزوح؟ منح عمل عمر كمصور صحافي لوكالة رويترز فرصة أكبر ليكون أقرب للحدث، للحرب الحقيقية وللجثث المرمية في الشوارع، ليست كل الجثث تُجمع في الحرب، ليتوغل أكثر بأزمة النازحين، الضحايا، الجائعين والمقاتلين بوصفهم جميعاً بشراً، سيعودون في لحظة ما إلى حقيقتهم.

وظّف عمر شغفه بالإنسان وإيمانه بأنه رهين الأفكار والظروف التاريخية والسياسية في التقاط لحظات جعلت من صورته توثيقاً يتخطى الحدث، ليبحث دوماً عن أثر الإنسان حتى في أكثر الأماكن دماراً، من حمص، لجوبر، لحلب وحتى دير الزور كان دوماً يواجه الحدث لينقله بأشكال مختلفة معوّلاً على العنصر البشري، قبل حطام المدن. "الكائن البشري عنصر أساسي في أيّ صورة، فوجوده يمنحها بُعداً آخر. امنح شارعاً فارغاً حركة إنسان أو قطة لتمتلك لَقطةً ببُعد مختلفٍ تماماً"، يقول.


التقاطاته هي حتمية مرور الإنسان، أثره، ألمه وصراعه، ليدفعنا دوماً لتخيل الإنسان الذي كان، أثره وأشياء كان يفعلها. تقدم هذه المشهدية اتصالاً أكثر بالواقع، فصورته هي اقتطاع للمكان، وتوظيفٌ لحواس المتلقي عبر جعل المشهد إنسانياً ومحاكياً لداخله العميق، باحثاً عن عفوية الصورة والإنسان داخلها بعيداً عن كليشيهات التمارين المسبقة على الألم والذعر، حتى عندما يصور السلاح أو حامليه يبحث عمّا وراء السلاح وعن الحقيقة المختبئة، عن الهشاشة والألفة الإنسانية التي شوهتها الحرب، كصورة المقاتل الذي يحمل كتاباً بيده، ربما يكون دفتر ملاحظات وحسب، لكنه عندما يحمل هذه المسودة لتاريخ نجهله ويدير ظهره لنا نحو عبارة جدارية عن نهاية الحرب يبدو لنا الحدث أكثر مرارة، من خلال هذا التركيب لأجزاء الخراب مع احتمالية انتهائها بعبارة جدارية قدّم عمر تصور الإنسان السوري عن مأساته.

ينطلق عمر من فراغ المكان المطحون والمدمر بجميع وسائل القتل، ويوظفه مع وجود إنسانيّ ضعيف وهش، الفراغ غير العادي، الدخيل، العنصر المثير للأسئلة: "عندما أمرُّ بقرى ومدن مهجورة تماماً، حيث كانت الأصوات تضجّ والأرواح والناس يعيشون حياتهم، أتساءل كيف يمكن أن أصور كلّ هذا الفراغ!". في صور هذا الفوتوغرافي الشاب، نحن أمام تفاصيل الموت بكافة طبقاته، تلك التي تترك أثراً عميقاً في عين المتلقي، تفاصيل تصفعنا، تلومنا، وتجعلنا نتوقف طويلاً أمامها ، كأن الذعر له شكل بيت محطّم والخوف امرأة تمضي وحيدة، والهزيمة جوع رجل عجوز، تظهر خصوصية عمل عمر صناديقي إذاً، في تقديم مفاهيم مجردة من خلال الصورة، المكان، أو اللحظة من خلال حكاية وهذا هو جوهر العمل الصحافي مقدماً بإخلاص ضمن إطار إنساني وشعوري عالٍ، كلّ صورة هي مصغر لحدث وقع، حدث متكامل له بداية ونهاية وأحداث جرت.




هكذا يحضر الزمن باعتباره صورة للغياب، الفقدان، الخسارات وهشاشة الإنسان، يندمج عمر مع زمنه يفهمه ويستوعب مدى الفاجعة التي يعايشها فينقل بأمانة ما حدث، يرفض تماماً أي لعب بتكوينات المشهد قبل التقاطه "لستُ من أولئك الذين يحرّكون الجثث لتلائم صورهم". وهو ربما ما يحدث لكثير من الصور التي نشاهدها كلّ يوم، فبقدر ما قدمت الصورة خلال العقود الماضية حقيقة إنسانية مؤلمة بقدر ما تم التلاعب بها وتزييفها لتناسب أجندة معينة، ومقابل عدم خضوع الوثائق المصوّرة للحرب لأي تعديل أو تزوير، وهو أحد القواعد الأساسية للتصوير الصحافي، يمنح عمر الصورة طاقة إضافية، ما جعله يدرك أبعاد الحدث والزاوية الملتقطة واللحظة الأنسب لنهب الألم المتراكم بصدقية فوتوغرافية عالية، معرفته المسبقة لاستحالة أي تعديل على صورته جعلته يطور حساسيته، وربما كان ذلك إحدى الهبات التي مُنحت له، فهو من أولئك الذين تمكنوا من التصوير بكاميرا الأفلام حيث تمتلك فقط 36 صورة، يجب أن توظف حدثاً ما في عدد محدد من اللقطات، ما زال يشعر بحنين لذلك الزمان لكن الحياة تبدلت والسرعة مطلوبة لمجاراة حرب لا تنتظرنا دوماً لنلتقط صوراً كافية لها. في المقابل وفي أرشيفه الخاص، نجد صوراً تم الاشتغال عليها بتقنيات باهرة، خصوصاً بالأسود والأبيض. الظل والنور هما الوحيدان القادران على إظهار مدى قوة الصور وجودتها، الصورة الضعيفة يفضحها الأبيض والأسود، أما القوية فتتحول إلى مشهدية فريدة.

في تجربة "حلب قبل وبعد" وثق عمر مرحلة مهمة من ازدهار حلب ما قبل الحرب خلال الأعوام 2008/2009/2010، فحفظ أماكنها وشوارعها، وبعد الحرب كان من أولئك القلائل الذين يحفظون كل شوارعها وأرصفتها، يحفظونها بمحبة ليعودوا إليها بعد الخراب الكبير ويلتقطوا ذات الصور، الأماكن المكسورة والمنهوبة، وكأنك تجمع لقطتين لشخص في طفولته، وفي أيامه الأخيرة، ما يجمعهما فقط بعض الملامح القليلة، وكأن عشرات السنوات تفصلنا عن آخر مرة رأيناه فيها، إنما حلب لم تحتج سوى سبع سنوات من الحرب لتتغير ملامحها بالكامل.


 لكلٍّ مكانه في الحرب، أما عمر فقد اختار توثيق الحدث سواء في أرشيف صحافي نجده في موقع وكالة رويترز أو كأرشيف شخصي. حتى الموت لن نتمكن من تأكيده ما لم نصوره، يعتقد عمر بأنه إن لم يوثق ما يجري على هذه الأرض لربما لن يصدقه أبناؤه إن أخبرهم يوماً عن حجم الكارثة التي مرت. سيقول لهم هذا ما كنت أفعله في زمن الحرب، كنت أنقل الحرب لتتحول بعد انتهائها إلى مجموعة من الصور وحسب، أو كما يقول زولا " لا يمكنك أن تدعي برؤيتك شيئاً ما، حتى تقوم بتصويره".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.