}

أحلام مريم بلمقدم: نجمة تحلق في سماء الرباط

عز الدين بوركة 20 نوفمبر 2017
بعيدًا عن ضجيج الساحة الفنية والثقافية المغربية، وبعيدًا كل البعد عن اللقاءات التي يضجّ بها فضاؤنا الفني؛ ولو أن هذا الضجيج اليوم يعرف خفوتًا لا تحمد عقباه، وبعيدًا عن الصراعات والجدالات التي تكاد تكون صَخَباً بلا غاية، تقبع مريم بلمقدم في عالمها الخاص، في معبدها الخاص، وفي زاويتها /ورشتها، حيث تعثر على ذاتها الهادئة وكينونتها بين فوضى المكان واللون.

فمريم بلمقدم ليست فنانة كباقي الفنانين، فلها حالتها الخاصة والفريدة التي تجعل منها استثناءً جماليا داخل الدائرة التشكيلية المغربية. حالة بين الهنا والهناك، بين الذات وعالمها الداخلي، لا تكترث بلمقدم لما يعتري هذا العالم سوى ألوانه وفوضاه الخلاقة. تسكن جسدها وعقلها الباطن، لا تبحث عن تمظهر أو تمسرح أو ضجيج إعلامي لا يُجدي بالفن نفعاً.

كنتُ قد التقيتها في قليل معارض ولقاءات، إلا أني تعرفت عليها عن كثب في معرضيْها الأخيرين هذه السنة بالدار البيضاء والرباط، المتتابعين (فيلا الفن ورواق باب الكبير). هناك سأتعرف عن قرب على صباغاتها التجريدية والحركية، وهي أعمال تبتغي فوضى الرش واللطخ والتبقيع، غاية في رسم نظام يعتري العمل ككل. فالعمل التشكيلي لدى مريم بلمقدم غير قادم من أية أكاديمية ولا ينتمي لأي فن خام وفطري، لكونه ثائراً على النُظم المدرسية، ولا يبتغي الاشتغال على اللون في خامه والشكل في تسطيحه وبعده الثاني. فلا أشكال في أعمال مريم بلمقدم سوى الحركية والحكي. فهذه الفنانة القابعة في أعماق الذات تحكي قصصًا غير مرئية، يلزم الناظر رؤية خاصة لفك جُملها ومفرداتها المكتوبة باللون الذي ينتشر على طول صفحة القماش.

تكاد تجسد أعمال بلمقدم تلك المقولة لشوبنهاور عن الموسيقى أنها "تكشف لنا المعنى العميق للوجود الحقيقي للأشياء، وتجسده لنا بكل دقة ووضوح"، بل تكاد تشابه موسيقى فاغنر، الذي يجعلنا أمام معزوفات التفاصيل الصغيرة، حيث لكل نوتة حقها الوافر ولكل أداة موسيقى حضورها الواسع. فالفنانة التشكيلية مريم بلمقدم تلعب بألوانها كعازف بيانو أو كقائد أوركسترا يعرف اللحظة المناسبة لرفع أو خفض يده. تعمد بلمقدم إلى تسيير ألوانها المتدفقة في فضاء اللوحة، كأنها نوتات تبدو عشوائية إلا أنها "فوضى خلاقة"، تشبه تَصاف المجرات البعيدة في أقاصي الكون. أما الفن عندها فيحضر بصفته "مهمة الحياة الأسمى ونشاطها الميتافيزيقي"، كما أعلن نيتشه. فمهمة الفن لدى بلمقدم هي الإعلان عن ذاتها القابعة في سموات ميتافيزيقية بعيدة عن العويل والرعيل.




أكاد أسمي مريم بلمقدم تلك "الفنانة الطفلة التي لا تكبر"، فهي تقيم علاقة ودّ معك عند أول لقاء، كما تقيم علاقة ودّ أبدية مع الصباغة والقماشة، التي تجعل منها مسرحًا لأحلامها، أو لنسمّها حكاياتها، إلا أنها حكايات مجردة من الشخوص والوقائع والسرد العامر باللغة السمينة والدسمة والفائضة عن اللزوم. فهي تحكي بتدفق لا يبتغي رسمًا مسبقًا ولا سيناريو جاهزًا، ولا حتى سعيًا نحو إعمار المساحة بلا غاية تذكر. فلكل لوحة نصيبها الخاص وحظها الوافر من اللون، الذي يأتي في حركية مدهشة ملأى بالروح الطفولية لا الفطرية. فلا أسمي مريم بلمقدم فنانة فطرية، بل أسميها "فنانة طفلة" تقص حكاياها بشغف وبلا مبالاة، في غنائية تجريدية ناصعة الاشتغال، إذ تعمد إلى لطخ اللون وتشتيته وتسطيحه (في أعمالها المونوكرومية وثنائية اللون)، بدربة تضاهي الفنانين الذين مكثوا في مدارس تخرجهم سنوات طوالاً. إنها ابنة وخريجة مرسمها حيث صقلت مهاراتها، وحيث تعلمت ضرب اللون وتبسيطه، وتعلمت كيف تربي أحلامها في حدائق لوحاتها.

في معرضها في باب الكبير بالرباط (من 9 إلى 28 نوفمبر/تشرين الثاني 2017)، تخط مريم بلمقدم مسارها الحافل بأعمال مجردة بصريًا، ومشخصة في العمق باعتبارها نتاج الدخل والذات والجواني، وهو مسار يعود إلى زهاء  عشرين سنة (1997-2017) من اللعب باللون وتجريب الصباغة وحكي الذات.

تنتمي أعمال بلمقدم إلى الرعيل الثالث من الفنانات التشكيليات المغربيات، والجيل الخامس من الفنانين المغاربة، هذا الجيل الذي تسكنه أسئلة الحداثة وتجاوزاتها وأوهامها والسائد والمنطبع والمعروف، وأسئلة الهوية وثقالتها وشساعتها، كما أسئلة الذات وجوانياتها وروحانياتها.




تمتح أعمال هذه التشكيلية من اتجاهات تجريدية عدة، من غنائية وحركية وتعبيرية، كما تنتهج التكرار أسلوبًا لأعمالها وتبتعد عنه عبر الكولاج، كأسلوب يبحث عن إضفاء بعد ثالث على العمل، ما يجعله قابلاً لتأويلات متعددة، تغني مخيلة المتلقي وتفاعله المباشر وغير المباشر، مع الأثر ككل. فأعمالها المعروضة بمعرض باب الكبير، تعد عرضًا مسرحيًا على الجدران، لمختلف المسار التجريدي الذي مرت به الفنانة منذ بداياتها المتعثرة الأولى وانطلاقتها الفعلية خارج البلاد، بدولة الإمارات بالتحديد، وعودتها إلى المغرب حيث ستجد لها متسعًا كبيرًا بين الفنانين لتبصم على مكانة خاصة واستثنائية في المشهد التشكيلي المغربي.

تكاد مريم بلمقدم تكون محدودة التواصل مع العالم الخارجي لغةً، إلا أنها عوضت عن ذلك "النقص" باشتغال بصري ضاجٍّ بغنائية وبحكايات ترويها وتسردها وتحكيها وتقصها الفنانة مستعينة بالصباغة وأدوات أخرى تجعلها ملصقة على القماش، من قصاصة الورق وأدوات الصباغة peinture (فرشاة، أنبوب صباغة، إلخ)، في تواصل مع المتلقي المتعدد والمتغيّر والمتجدد، الذي يدخل معها في حوار جواني وداخلي، كأني بها (بلمقدم) تضع أجزاء من ذاتها داخل كل عمل.

مريم بلمقدم الفنانة الطفلة التي لا تكبر، تصنع أعمالها في مرح طفولي يلامس "فن الطفل"، ذلك الفن الذي يحدده الفنان السويسري، فرانز تشزك، في كونه يتمتع بـ: التكرار والمبالغة والحذف، والتسطيح والشفافية والدمج بين مسطحات لونية des aplats في فضاء واحد، والخلط بين الكتابة والرسم. قد يكون هذا العنصر الأخير غير مُدْرَج في معجم أعمال مريم بلمقدم إلا أن العناصر الأخرى تحضر في غالبية أعمالها، ما يجعلنا نصطلح عليها بشكل أكيد بـ"أعمال طفولية"، تمرح الفنانة في الاشتغال عليها، كأنها طفلة تزيّن دُماها الكثيرة وترتبها كما تشاء داخل فضائها الخاص.

الفن الطفولي الذي ألهم فنانين كثيرين: بابلو بيكاسو وبول كلي وخوان ميرو وشاغال، يشكل نوعًا من نقطة الانعطاف بالنسبة لغالبيتهم في مسارهم التشكيلي. أما مريم بلمقدم فقد ظلت مخلصة لهذا الاتجاه الذي أبدعت فيه في استثنائية مبهرة.

يحدد علماء النفس المتخصصون في الفن الطفولي أن الطفل يبدأ بالرغبة في إسقاط قوته الداخلية على الأشياء التي تحيط به. من ثم يعمد إلى محاولة محاكاة محيطه، وما يبصره في العالم الخارجي من شخوص وفضاءات وما يدهشه مثل قوس قزح وغيره. إلا أن مريم بلمقدم - "الطفلة" المخلصة لعالمها الداخلي - لا تقترب من أية محاكاة، بل تنفر منها، لأنها تبتغي أن تُسْقط ذاتها لا غير على فضاء اللوحة، التي تختار لها في الغالب الشكل المربع، كنوع من الكمال الصوفي في الشكل متساوي الأضلاع والزوايا. فهذه الفنانة لا تهاب اللون ولا تخاف من القماشة بل تقصدها بعفوية وطفولية، لتُسقِط "أحلامها وحكاياتها"، ما يجعلنا، ونحن نشاهد مسارها الفني عبر تلك اللوحات المعلقة على الجدار، أمام عرض لفيلم سينمائي مُسَلّط على القماشات /اللوحات؛ وبدل الضوء يحضر اللون، وبدل الشخوص تحضر الأحلام المجردة؛ أحلام مريم بلمقدم.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.