}

"إطفاء الجمر في الصقيع": التصوير يفصح عن ذاته

أسعد عرابي 19 نوفمبر 2017
تشكيل "إطفاء الجمر في الصقيع": التصوير يفصح عن ذاته
من أعمال أسعد عرابي

الأول من نوعه

يقام في بيروت (أيام غاليري) معرضٌ استعاديٌّ هو الأول من نوعه لأعمالي الفنية، ابتداءً من الخامس عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني وحتى منتصف ديسمبر/ كانون الأول من العام الراهن.

وهو بمثابة احتفال بالذكرى العاشرة لبداية التعاون مع الغاليري المذكورة، بمعارضها التي كانت تتنقل بين دبي وبيروت ودمشق وجدة والقاهرة ولندن وباريس، وذلك ابتداءً من عام 2007 وحتى اللوحات الأخيرة- 2017.

لا ينسلخ هذا العقد أسلوبيًا عن مسيرة ستين عامًا من التصوير، وعشرات المعارض في باريس والبلاد العربية قبل هذا التاريخ (وأنا أشارف عمر الثمانين اليوم).

تتعقب لوحات المعرض نماذج أسلوبية متباعدة، تجمعها حساسية مشرقية متمايزة ترتبط غالبًا بمحنة المدن العريقة ما بين دمشق وصيدا، برغم أربعين عامًا من الاستقرار في باريس.

ويحفل عقد المعرض بكثافة المراحل السابقة واللاحقة على غرار:

1- استرجاع ملحمة المشاهد الحضرية في المدينة القديمة المسكونة بالأساطير وبالمجتمع الحلمي الملغز والأبديّ في «سيزيفيّته» وتعارض وخصوبة الإقامة بين عائلة والدتي (في دمشق) وعائلة والدي (في صيدا)، أي ما بين سلحفاة حواري الأولى المغلقة وشموس مرفأ الثانية ونورانيتها المتوسطية.

2- موسيقيّة التكوين، ورفع الحدود بين التشخيص التعبيري والتجريد، وصلت ذروتها في المعرض من خلال الموضوع الأثير المرتبط بالقصيد والتلحين الصوفي للثلاثي: السنباطي وأم كلثوم وأحمد شوقي، والتخت الشرقي وعلى رأسه محمد القصبجي، رموز فترة «النهضة العربية».

3- «تحية إلى موريس بيجار» عرض عام 2009 في نفس الصالة الرهيفة في بيروت: التحول من الموسيقى إلى الرقص والأجساد العارية من القناع والأردية السوداء التقليدية.

4- التجريد الغنائي الأول في الثمانينيات، تعانق الصالة مقتنيات عديدة منه (عدة معارض في باريس وأوروبا سابقة على العقد المذكور ولكنها ممثلة في المعرض).

5- التحول التدريجي من جديد إلى التجريد ذي الأصول الموسيقية، دون التخلي عن طبوغرافية التكوين الحضري. بلغ ذروته في معرض أيام في دبي عام 2015.  وخُصّصت له في المعرض عدة أمثلة.

6- العودة إلى موضوع «الساكن والمسكون» مع المحنة السورية، تقاسم العرض بين دبي وباريس، يعانق المعرض ثلاث لوحات أخيرة منه ختمت هذه الجولة من شريحة العشر سنوات.

ويختزل العنوان ما هو مشترك في شتى هذه المراحل: «إطفاء الجمر في الصقيع».

ويحتوي بيان المعرض على إضاءات نقدية لتفاصيل هذه المسيرة:

أستطيع أن ألّخص للقارئ: الجوهر الفكري لمراحل تصويري المتباعدة (منذ ستة عقود، وأنا أقارب الثمانين من العمر)، بأنه محاولة حثيثة لإقامة التوازن الحدسي بين ما هو "متذكر" (معاش) وما هو منسحب من دلالته السيميولوجية لأنه "منسي".

تتراوح أشكال وخطوط اللوحة بالنتيجة (مع كل دورة) بين نقطتي جذب: "التعبيرية التشخيصيّة" (الطازجة في معاناتها)، و"التجريد اللوني".

ينطبق على أداء الطرفين: الخطوط المأزومة التوقيعية والمواد الصباغية الكثيفة ضمن نسقها الموسيقي.

تتخلّق هذه التكوينات في الحالتين من ثنائية "بصرية- سمعية" متوازنة مع الثنائية المذكورة: "الذاكرة والنسيان".

 

الذاكرة والنسيان

إذا اقتصر النشاط الذهني على الأولى أصيب "بالشيزوفريني"، وإذا استسلم للثاني هاجمه مرض "الزهايمر". فالتوازن بينهما برزخ من درجات الصحة أو العافية الإبداعية. وهي المرتبطة بالنشاط الحدسي وليس العقلي، فالعقل ينتج العلوم، في حين أن الحدس الروحي (القلب) يفرّخ أنواع الفنون. لذلك أتوقف عن العمل في اللوحة في لحظة مباغتة تقف عند ذروة الاحتدام "الوجداني- الوجودي- الوجدي"، متجنبًا الغلو في صقل المهارات التقنية والبلاغات الأدائية المفتعلة، بحثًا عن بدائلها في اللاوعي والطفولة والحلم والهذيان، وموروث كهوف ما قبل التاريخ، وحكمة وشعث الآثار النقشية الطبيعية بما فيها السحرية.

* * *  

تتعثّر أحادية الذاكرة بالواقعية الوصفية، وتقود أحادية النسيان إلى طريق حداثي مفتعل من أنواع المنمالية والتجريد الاختزالي المهندس. يحدوني يقين شخصي بأن اللوحة تستدعي من الأشكال المتذكرة ما يستحق البقاء والنجاة من النسيان، ثم إعادة رسم النتائج من الذاكرة من جديد، لأنها أول مصفاة تأويلية للواقع المحسوس.

منذ أن بدأت أصوّر أحياء المدينة القديمة المسكونة بالسحر والتعاويذ والأساطير والمحجبات في دمشق وصيدا كنت أنتقل مباشرة إلى الرسم الذاكراتي على الورق أو القماش، ويتمّ إلغاء (نسيان) ما هو وصفي مباشرة، إلى أن توصلت إلى منهج خاص في معالجة طبوغرافيّة هذه الحواري بإلغاء مناظيرها، والقناعة بثنائية الأبعاد المسطحة، كما هو "تنزيه" رسوم المنمنمات في المخطوطات العربية التي تعاف ذائقتها "التشبيه". في المرحلة الأشد دلالة تشخيصية وهي مواجيد أم كثلوم - السنباطي في القصيد الصوفي،  كنت أتأمل ساعات مديدة وأنا أنصت إلى دررها الوجدية، ثم أغلق الصورة وأرسم من الذاكرة وجهها وجسدها واختلاجاتها وأقراطها المتراقصة، وأناملها المرتعشة، بحيث هي تبدو بمثابة نقطة الجذب في فلك عازفي تختها الشرقي. أتمسك بأغنية بعينها أكررها وأنا أعاود العزف المقامي بالألوان المتكاملة حتى يصل عيني صداها، ويبلغ صدحها بصيرتي الخطية.

لا شك بأنها رمز لعصر النهضة مع السنباطي وشوقي ورامي وتوفيق الحكيم الذي سمى ابنته باسمها. ثم يعقد آخر مؤتمر للموسيقى العربية في القاهرة عام 1932 ويعين الخديوي إسماعيل "بيلا بارتوك" الموسيقي الأعظم على رأس لجنة الاستماع، مما سمح بالحوار بينه كعازف بيانو أول وبين زكريا أحمد كعازف عود أول وكذلك السنباطي كملحن أول، وعدّل من مواقف بارتوك وتحولت موسيقاه إلى برزخ متوسط بين الموسيقى الأفقية المقامية وديوان باخ الكونتربوان، علمًا بأن السنباطي هو الأول الذي حوّل أوزان الشعر إلى مقامات شرقية الألحان.

رغم أني لا أميل أبدًا إلى أدلجة الفن، لكن اللوحة التي تمثل ضمير المصوّر لا تحتمل شهادة الزور والتزام الصمت دومًا "فالساكت عن الحق شيطان أخرس" وإذا كان الحياد طبيعيًا في المرحلتين التجريديتين  وفي موضوع الطبيعة الصامتة، فهو أقرب إلى الاعتراض في الموضوعات التي تدين التعّصب الديني (على غرار معرض تحية إلى بيجار الذي كان عريّه أشد استفزازا من التظاهرة الراقصة التي منعها مشايخ لبنان بسبب تعري صدور الراقصين الشباب في مشاهد ثانوية في حينها) أو تدين تدمير المدن الممنهج والمعادي للثقافة، كما هو المعرض الباريسي الأخير "الساكن والمسكون" وكما هي بعض لوحات الستينيات التي تفضح حرب التعمير التي سبقت حرب التدمير،  ولا شك أن إحياء ذكرى أم كلثوم كرمز لعصر النّهضة المتسم بالتسامح الديني والقومي لا يخلو من إدانة مضمرة للانحسار الثقافي العام مقابل صعود الأصولية العمياء. والحديث يطول عن بقية المراحل. فلندع المعرض يكمل الحديث.

 

التجريد المتدرج

يشير العنوان إلى مراجعة المعرض الراهن للمرحلة التجريديّة، وهي التي طبعت تجارب أوائل الثمانينيات في باريس، أي فترة الالتزام بالمشاركة السنوية في صالون "الواقعيات الجديدة" (المختص بالتجريد منذ تأسيسه عام 1945). تسلّم إدارته في تلك الفترة كل من جاك نالار (أستاذي في البوزار) وشفيق عبود ومحمد كسوح. كنت أعرض إلى جانب أسماء لبنانية – سورية مثل جورج ندرة وهنبعل وبورجيله وجلل وفرزات وآخرين إضافة إلى هؤلاء.

اتسمت هذه المرحلة بممارسة "التجريد الغنائي"، بصفة أن ما قبلها كان تشخيصيًا تعبيريًا (مرتبطًا بتشكيلات المدينة المحلية النكوصية مثل صيدا ودمشق وبيروت)، وبصفة أن ما بعدها بدوره كان استمرارًا للتشخيصية التعبيرية الاستهلالية (المرتبطة بتدمير نفس هذه المدن خلال الحروب الأهلية). من الأكيد أن دورة هذه المراجعة أشبه بتواتر دورات الفصول. لم يتم تحولها بقرار إرادي وإنما ضمن تطور عضوي متدرج.

***

يتجاوز التداخل بين التجريد والتشخيص خلال أكثر من نصف قرن، حدود ممارسة الاتجاهين بنفس الوقت، ذلك أن وحدة هذا التراوح تفد من شراكة الطرفين بنفس "طبوغرافية" التكوينات، هي المستلهمة من البنائية الحضرية، ومن المقامات اللونية المتصلة بالنواظم الموسيقية المحلية.

أنا أجد أن هوس توخي الطابع المميّز في اللوحة لدى البعض يقود إلى خطيئة الأسلبة التجارية (بما يشوبها من تكرار ممل)، ويرجع التمايز في الواقع إلى الحساسية الاختبارية المتجدّدة. وما تنوّع الموضوعات لديّ، سوى نوع من التعويم الامتحاني لهذا التمايز. هو الذي يمثّل وحدة التواريخ والمحاور المتباعدة في اللوحات.

قد يكون أحد أسباب انحيازي إلى وحدة التشخيص والتجريد، هو استغراقي بدراسة المميزات الروحية للموروث التشكيلي، سواء أكان رسوم المخطوطات أم الأيقونات أم الأرابسك والحليات وخيال الظل والمقرنص وأنواع الرقش. إن التفريق الحاسم يقع بالأحرى بين التنزيه (البصيري القلبي) والتشبيه (الوصف البصري الحسي للمرئيات الظاهرة)، هو سر الوحدة الحدسية بين تنزيهات الرسوم التشخيصية والزخارف الرقشية التجريدية (من سجاجيد وحليات وحرائر وجدران السيراميك المزجج وسواها).

استعرت من حكمة أقطاب المصورين الأجداد: العمل في اللوحة من الجهات الأربع بوضعها أفقيًا (الإحالة هنا إلى رسوم مخطوطة فنون الحرب والفروسية التي تتجاوز آلية قلب الأشكال كما هي لدى جورج بازلتز).

هذا هو شأن اللوحة التجريدية، في المقابل في اللوحة التشخيصية (التعبيرية المحدثة) فإن تشريح الفراغ (التكوين التجريدي فيها) يتفوق في إحكامه على تشريح الشخوص. في الحالتين أتوقف لأختتم اللوحة عندما أبلغ ذروة الانفعال "الوجداني – الوجودي – الوجدي" أكثر مما أطمح إلى محطة الكمال التقني التنميطي ومحسناته البديعية المرهقة. هو ما يعطي ظاهريًا وهم عدم الاكتمال، فاللوحة بالنتيجة عمل غريزي تلقائي مباشر مثله مثل الرسوم التحضيرية المخاطرة، وكما علمتنا "الطاوية" في تاريخ التصوير الصيني.

***

لست التشكيلي الوحيد بالنتيجة الذي تحدوه صبوة المقاربة بين التشخيص والتجريد، بين الموسيقى والتصوير. فأنا أتعقّب (منذ الاستهلالات الأولى) المسعى التوليفي التصوفي لدى المصور – الموسيقي القطب بول كلي. كذلك شأن الوجودي نيكولا دوستائيل انتهاء بوليام دوكوونينغ وكييفر، عبورًا ببيكاسو وكوبكا وبرانكوزي. أذعنت لوحتي لتأثير بعضهم بدرجات متفاوتة.

يعلمنا تاريخ الفن عمومًا هذا التماهي الحر بين الأطروحة ونقيضها. يحضرني مثال الرؤيوي بيير بونار: حيث إن المفاصل التجريدية في لوحته أشدّ بلاغة من دلالات ومدلولات الشخوص والأمكنة الذاكراتية الداخلية والخارجية؟ هي التي ألهمت صراحة تجريدات المرحوم شفيق عبود.

أما عنوان الصالون المذكور الذي كان يجمعني معه لسنوات وهو "الواقعيات الجديدة" فقد شرح لي ذات مرة بأنه يعني "الواقعيات التجريدية الأشد واقعية من الواقع".

يطرح إذن المعرض سؤالًا شرعيًا: هل طُمس التجريد من الموضوعات الحضرية لدي (السابقة منها أم اللاحقة)؟ وهل اختفت المدينة من اللوحات الراهنة، ثم ألم تشف الحدود بين التشخيص والتجريد في وسائط ما بعد الحداثة، اليوم؟ وهو ما ينطبق على وصية هنري ماتيس: "دعوا التصوير يفصح عن ذاته".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.