}

عمر الفيومي: يتتبع ألاعيب الساحر

سارة عابدين 14 نوفمبر 2017

إنّ أغلب ما يميز الفن الحديث، هي العلاقة المعقدة بين العمل الفني وبين عصره. لهذا السبب قال الفنان الألماني فرانز مارك الذي توفي أثناء الحرب العالمية الأولى "الفنانون العظام لا يبحثون عن الأشكال التي يرسمون بها في ضباب الماضي، بل يسعون للوصول إلى أعمق الأغوار التي يستطيعون الوصول إليها من مركز جاذبية عصرهم الأشد عمقاً". إذ أن هدف الفن الحديث هو أن يعبر عن الرؤيا الداخلية لدى الإنسان، وعن خلفيته الروحية والعقلية للحياة والعالم.

انطلاقاً من هذه النقطة الأعمق والأكثر شخصانية في الرؤيا الفنية للعالم والأحداث، بدأ الفنان التشكيلي المصري عمر الفيومي، صياغة مفهومه البصري الخاص لفكرة (الساحر) بكل ما تحمله من إرث بدائي، غامض، مرعب ، مشوه، مخادع؛ للمفهوم وشخوصه على مدار الزمن، في معرضه (الساحر)، الذي يتواصل حالياً وحتى 26 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري بغاليري العاصمة بالقاهرة.

المعرض يضم 25 عملاً فنياً، أنجزت بخامة الأكريليك والزيت، بين نهاية عام 2011:  2017 وتتباين أحجامهم بين 17سم* 17سم حتى تصل إلى العمل الأكبر في المعرض، الذي يقارب المترين في متر ونصف.

يستعيد الفنان ذكرى ثورة 25 يناير، بكل الزخم السياسي الشعبي وقتها، حين أصبحت السياسة جزءاً من الحياة اليومية، لأغلب المواطنين، وتحول الكثير من الناس إلى منظرين في السياسة والاقتصاد، بشكل سطحي إيهامي يعتمد على الإيحاء والإيهام بالمعرفة، للتأثير فيمن حولهم؛ إذ أن في أوقات الحراك الإجتماعي الشديد يمكن للفن أن يسهم في رغبة المجتمع في التغيير، عن طريق بحث الفنان نفسه عن تغييره الشخصي في تلك الفترات، التي ربما تنتج أعمالاً فنية مشوهة، قاتمة، مبهمة، غير يقينية، ثم تتحول تلك اللوحات إلى انعكاس أو مرآة يمكن من خلالها قراءة تلك الفترة الزمنية، ثقافياً واجتماعياً.

يقول الفيومي إن وظيفته كفنان كانت مراقبة ورصد التحولات التي حدثت على البشر، في هذه الفترة الزمنية، وكيف يتناقض مظهرهم الخارجي المرتب المنمق، مع كل تشوهاتهم الداخلية، والانحرافات التي يقومون بها، بالإضافة إلى تجلي فكرة الساحر في فعل الإيهام، ومحاولاتهم المختلفة لإيهام من حولهم، بصور وأفعال معينة، ليس لها أساس، لكنهم يحاولون تصديرها للجماهير.



تلك الإشارات والإيحاءات إلى الساحر، في معرض الفيومي، ربما يلتقطها كل متلق، حسب إدراكه، وخلفيته الثقافية والمعرفية؛ ربما هم رجال الدين، أو رجال السياسة والاقتصاد الذين يصدرون صورة الحفلات والمؤتمرات والحياة اللامعة، في محاولات مؤسساتية لتجميل شكل الواقع، وطمس التشوهات الاجتماعية والثقافية، عن طريق ألعاب سحرية تعطي انطباعات مغايرة للصورة الحقيقية. أو ربما هم السماسرة المتناثرون على كراسي المقاهي الحاضرة في اللوحات، لبيع كل شيء وأي شيء في أوقات الحروب والثورات.

 

ترجم الفيومي ثيمة الساحر اللغوية، بصرياً عن طريق  التشويه في الفيغرز، ولكي يكون هناك تشويها، يجب أن يكون هناك بعض المعايير التي يتم تغييرها لإحداث التشويه، وبما أن القواعد تتغير تغيراً كبيراً، عبر الوقت والثقافات، فيمكن ملاحظة ومعرفة التشويه الحادث، من ملاحظة الأعمال الفنية السابقة للفنان، للتعرف على شخوصه الطبيعيين، قبل تشويههم، وربما تعتبر هذه ميزة من مميزات وجود بعض الأعمال من مجموعة فنية أخرى للفنان في المعرض، والتي تعتبر كلاسيكية بالمقارنة بمجموعة الساحر. تمثل المجموعة بعض السيدات المتموضعات ببساطة للرسم، داخل إطار بيضاوي في مقاربة لوجوه الفيوم القديمة التي تأثر بها الفيومي، وأصبحت تشكل جزءاً من عمق أعماله الفنية.

 

يمكن ملاحظة التشويه في أكثر أشكاله بروزاً في المجموعة الفنية التي أغفل فيها الفنان وجود العيون؛ لأن تجاهل العيون أو طمسها بعد رسمها يعطي تأثيراً فورياً بالوحشية، وتحول الإنسان إلى مايشبه المسخ؛ بسبب اعتبار العيون نقطة محورية للتواصل والتفاعل البشري.

 في لوحات أخرى يمكن للمشاهد أن يلاحظ تشوه الفم أو انبعاجه، أو تحوله إلى مجرد خط غير منظور ويظهر أكثر في اللوحات التي يبدو فيها حواراً دائراً بين أكثر من شخص. بالنظر إلى الفم باعتباره بوابة إلى جسم الإنسان، أو حتى سلاحاً أو وسيلة للتواصل، يصبح تشويه الفم مرادفاً لتشوه خصائص التواصل البشري، أو تحويل الحوار بين الأشخاص، إلى ما يشبه جلسات الاتفاقات السرية المشبوهة، بكل ما تشير إليه إشارات الأصابع المصاحبة لشخوص الفيومي، والتي يمكن أن تمثل الجدل الدائر بين أطراف الصفقات السرية غير الإنسانية، بما تحمله من عزلة و عدوان عميق حتى على المتلقي؛ ليذكرنا بمقولة الفنان الإنجليزي فرانسيس بيكون "من هو القادر على تسجيل أي شيء يمر أمامنا باعتباره حقيقة، دون إحداث ضرر عميق بالصورة".

الضرر في لوحات الفيومي أو التشوه بالرغم من امتداده في كل اللوحات المعروضة، كرابط يجمع الأعمال، إلا أنه يمكن ملاحظته بطريقتين، الأولى تظهر في اللوحات الغنية بالتفاصيل السليمة تماماً في الجسم والملابس، ليبدو التناقض واضحاً بين الرأس المشوه، والجسم والملابس المتأنقة، الصورة التي ربما تحيلنا إلى الأقنعة المختلفة التي يرتديها الساحر المعاصر، مع احتفاظه بمظهره المنمق وملابسه اللامعة الحادة، ليظهر التشويه متعمداً وليس فقط من قبيل عدم القدرة الفنية، بل هو قرار محسوب، لتمثيل الرعب والإنحطاط في العمل الفني، ليمثل للمتلقي ما يشبه التطهر، الذي يضمن له الوعي الذي يحمله لمستوى أسمى من المعروض أمامه على الجدران.

على جانب آخر تظهر بعض اللوحات بصورة غير مكتملة، تفتقد المظهر المصقول للمجموعة السابقة من اللوحات، ويبدو فيها الحس التجريبي طاغياً أكثر، ليبدو فيها التشويه أكثر عمقاً وبدائية لتقترب أكثر من المعنى الشعبي للساحر أو ما يطلق عليه شعبياً اسم "الحلنجي"، الذي لا يفوت أي فرصة لتحقيق مكسب مادي شخصي.

بالرغم من محاولات التجريب في بعض لوحات الفيومي، لكن في الوقت نفسه تطغى دراسة الفيومي الأكاديمية بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة، ثم بأكاديمية ريبين بروسيا لمدة خمس سنوات على يد البروفيسور أندريه أندريفيتش ميلنيكوف على لوحاته، وعلى اختياره لتموضع أماكن شخوصه، في كتل راسخة لا تتغير أماكنها غالباً داخل اللوحات، ليصبح التجريب الذي ينتهجه الفيومي، تجريباً محسوباً لا يتخلى عن التفكير والتخطيط الأكاديمي الأقرب للكلاسيكية.

 

 المعنى الأكثر تداولاً للمسوخ يظهر في لوحات الفيومي، في معالجات تم تناولها من قبل لشكل المسخ، مثل القرون النابتة من الرأس، والوجوه الخضراء والزرقاء، التي تحيل إلى بعض مفاهيم الرعب الشعبي البدائي، البثور والصراخ والنظرات الثابتة المحدقة، ليظهر التشويه أكثر في نصف الوجه الأعلى، بالإضافة إلى تشوهات الأصابع التي تبدو أكثر استطالة، للتأكيد على حركات الساحر والخديعة التي تتسرب من بين أصابعه، أو لتعطي ما يشبه الإشارات النابية للأصابع في الأماكن الشعبية، ليظهر من خلال التناولات المختلفة للساحر التسلسل الدرامي والشكلي لفكرة الساحر منذ بدايتها الأولى، حتى وقتنا الحالي.

 ربما يعد معرض الساحر تنويعة جديدة على فكرة المقهى التي تناولها عمر الفيومي، أكثر من مرة منذ تخرجه في كلية الفنون الجميلة وحتى الآن، في بداية الأمر اختار رسم المقهى بتفاصيله القريبة، ورواد المقهى أثناء أحاديثهم الجانبية، أو لعبهم للورق من زواية قريبة ومباشرة، ثم بعد ذلك رسم المقهى ورواده من زاوية أبعد وأكثر اتساعاً. في تناول آخر أكثر جموحاً وخيالاً رسم الملائكة جالسين على المقاهي، والبشر يحلقون حولهم في السماء.

لذا يعتبر الساحر بمثابة مشروع فني يجمع بين مقاهي عمر الفيومي، وشخوصه الذين تحولوا إلى كائنات ممسوخة، لكنهم يجلسون على نفس الكراسي، يلعبون الورق ويتبادلون الأحاديث الجانبية، ويقيمون صفقاتهم السحرية على المقهى.

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.