}

جماليات المنفى: الفنانون العراقيون يتمثلون أحلامهم في بلدان المهجر

سعد القصاب 14 أكتوبر 2017
تشكيل جماليات المنفى: الفنانون العراقيون يتمثلون أحلامهم في بلدان المهجر
عمل للفنان كريم رسن
 

دفعت ثلاثية السياسة والحرب والاحتلال كثيرا من الفنانين العراقيين للرحيل ومغادرة وطنهم الأم، مضطرين، إلى بلدان استقبال أجنبية. رحلة تعدت أي خيار جمالي يتمثل صفة الاتصال والاطلاع على فن آخر ينتج خارج بلدهم، أو لاجتياز مسافة ثقافية سابقة، تطل على ما بعدها، على ما يشهده الفن في العالم من تحولات عميقة وجذرية في الأطروحة والرؤية. لقد كان الأمر هو هجرة دائمة.

منذ تسعينيات القرن المنصرم، وبأسباب الحصار الدولي الذي فرض على العراق بعد حرب الخليج الثانية، بدأ الفنان العراقي يعيش وضعا يكاد أن يكون خانقا تمثل في: عوز اقتصادي، العزلة وغياب الاتصال مع العالم. الفقر ثقافي، حتى أن تلك الاتجاهات الفنية والمفاهيم المعاصرة، مابعد الحداثية، التي باتت تكرسها التجارب الجديدة ويتداولها الخطاب النقدي الفني، لم تكن سوى تسميات مجهولة المضامين والنماذج بالنسبة إليه.

منذ ذلك العقد انشغل الفنان العراقي في البحث عن منفذ للخروج إلى العالم. تعلّة اللجوء، السياسي أو الإنساني، إلى الغرب، منتهى رغبته الى حياة جديدة ومختلفة. كان ذلك الزمن، أيضا، عقد اختلاق الحكايا من قبل الفنان لإقناع مكاتب الهجرة بقبوله لاجئا. لقد بات هذا الفنان وحيدا إلا من صحبة أعماله الفنية التي تبقت لديه.

تلك السنوات، أطلق عليها الهجرة الأولى. مابعد 2003، عام الاحتلال الأميركي للعراق، ستبدأ الهجرة الثانية، الأكثر عددا وكثافة من الفنانين العراقيين. بعد ذلك التاريخ وكان ما خلّفه الاحتلال: تعمّق الإحساس باللاجدوى والاندحار، تلك المشاعر التي يولّدها التفكير بوطن محتل. تردي الوضع الأمني والاجتماعي. التهجير القسري. الصراع الطائفي السياسي. والكثير الآخر من مظاهر خسائر وجودية لم تنته بالنسبة للعراقيين. 

لكن بعد ما يقارب الثلاثة عقود من الزمن، حيث توطن الكثير من الفنانين العراقيين في بلدان أجنبية، نضجت خلالها تجاربهم وتطلعاتهم، هل يمكن السؤال حول هذا الفن الذي أنتج في المهجر؟ هل يمكن اعتباره لحظة تعبيرية وجمالية مضافة إلى المحترف الفني العراقي، العربي؟ وهم الفنانون الذين مازالوا يحدقون الى خريطة وطنهم، كما لم تغب عن عناوين معارضهم الشخصية والمشتركة، كلمات المنفى أو الوطن. أم أن فنهم هو فن مهجر بات شاهدا على عالم معولم، ينطوي على صفات الهجرة، ولا يكترث تماما لتصنيف الهوية؟ أم لا ذاك، ولا هذا، أي حتى بوصفهم فنانين يحملون جنسيات البلدان التي استوطنوها، وباتوا جراء ذلك فنانين غربيين من أصول غير غربية؟

ثمة أسئلة تنتمي لهذا الالتباس وعدم التعيين يمكن التفكير فيها وحولها؟

الفنانون الذين عاشوا وطأة تغيير البيئة والمجتمع ووفرة التقنيات الجديدة، لابد أن هناك أسئلة لازمتهم وأثارت ارتباكهم وحيرتهم، وهم يتطلعون إلى أماكن غريبة وثقافة مغايرة، غير معهودتين لهما.

المحاولة للإجابة عن تلك الأسئلة جاءت بمثابة شهادات لستة فنانين ينتمون لثلاثة أجيال فنية، في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات من القرن المنصرم: " علي النجار- 1940"، داود سلمان–1953"،" علي جبار-1959"، "كريم رسن-1960"،"كريم السعدون-1962"، غسان غائب-1964". جميعهم أقاموا معارض شخصية عديدة في بلدهم الأم قبل رحيلهم عنه، كما أقاموا وشاركوا في معارض ونشاطات فنية في بلدان الاستقبال الجديدة. بنيت شهاداتهم على بعض أسئلة محورية، وعلى النحو الآتي: هل تحول المهجر "بلد الاستقبال" إلى واقع حياتي جديد، تمكنت من التآلف معه بحرية، أم مازلت تنظر إليه بوصفه خيارا إجباريا، تنعكس أسئلته وتداعياته على عملك الفني؟ المهجر بوصفه فضاء حياتيا وثقافيا ووجوديا مختلفا، هل كان تأثيره بالغا في إجراء تحولات أسلوبية عميقة لديك، والبحث عن موضوعات مختلفة، وتطوير مكتسبات تجريبية جديدة، وجدت خلالها أن عملك الفني أصبح ينتمي تماما إلى عالمك الجديد، ومنفصلا عن تجاربك السابقة في بلدك؟ اندماجك في بلد الاستقبال، واكتسابك لثقافة مغايرة، هل دعاك ذلك إلى التفكير في بلدك الأصيل بوصفه ذاكرة وتجربة وجود سابقة، أم أن هناك لديك تصورا آخر مختلفا؟ هل تنظر إلى منجزك الفني بكونه امتدادا لثقافة بلدك الأصيل؟

في حكايات ألف ليلة وليلة، يهاجر السندباد البحري، بغداد، سبع مرات ليعود إليها، ولكن ماذا عن الرحلة الثامنة؟  

              

 المهجر موطنا ثانيا

علي النجار / السويد

 أعترف بأني لا أسمي البلد الذي استقبلني منذ حوالي ثمانية عشر عاما بالمهجر، بل بات يمثل لي موطنا ثانيا. بني بالتدريج عبر علاقة مع المحيط، ومع الآخر الراعي لشخصي، وأحيانا لعملي الفني. إضافة إلى طغيان عامل الجغرافيا التي تغلغلت في وجداني وامتيازات الرعاية (الاجتماعية) المتشعبة، بذلك تنتفي شروط الإقامة الجبرية ،خاصة، بعد توفر حرية التنقل السلسة إلى شتى بقاع العالم.

كفنان ممارس، تمنحني الحرية غير المقيدة، في بلدي الثاني السويد، الثقة في تنفيذ أعمالي. ونحن نعلم أنه من أولويات شروط التعبير في الأداء الفني هو عامل الحرية، كي تنطلق المخيلة وتجوس مناطق الزيف الإنساني الملغومة بمحرماتها وموانع ثقافاتها المحلية "الشعبية والشعبوية".

 بالنسبة لظروف العراقيين الكارثية، التي بدأت منذ بداية ثمانينيات القرن المنصرم، وإقصائهم عن العالم الخارجي، لم تعد تمثل هذه البلدان لغالبيتنا، مهجرا، بقدر كونها موطنا. وصارت مواطن حاضنة تخصّبت فيها تجارب فنية مهمة، لكن ذلك لا يعني أن جميع هذه التجارب وجدت طريقا سهلا للشهرة وسط صخب التشكيل ورعاته العتاة. فشخصية الفنان غالبا ما تقود مساراته العملية. فهناك الفنان الحالم، والفنان التاجر الذي يجيد لعبته. أنا أتكلم عن الندرة، لكثرة التشكيليين العراقيين المهاجرين الغافلين عن حراك محيطهم الجديد، والذين لا يزالون يجترون طرائقهم التنفيذية السابقة، نفسها، في حفلة الأهل الأصدقاء.

بالتأكيد بيئتي الجديدة دلتني على مناطق أداء كنت غافلا عنها سابقا، بل حتى لو كنت أدرك أو أفقه بعضها في بلدي الأم، فإنني غالبا ما كنت أعتمد التورية والغموض بدل التصريح المعلن خوفا من المحظور. بينما هنا، لي الحرية في اختيار الموضوعة وأداة التنفيذ والمواد الأولية. على سبيل المثال كنت قاصرا في إدراكي لمفهوم الأداء- "Performance"، إذ لم أكن أدرك بأنه ينطبق، أيضا، على أداء مواد الطبيعة الخام مثلا وغيرها، مثلما نفذتها لاحقا. مع ذلك فإني لم أنفصل عن طرائق وتصورات أعمالي السابقة بشكل مطلق، بل حاولت إغناءها بتفاصيل وإخراج فني جديد. لي أعمال فنية وكأنها لا تنتمي لي إلا في روحها. بالتأكيد أحسب ذلك مكسبا من مكاسب الاستيطان في بلد غربي.

وجودي في البلد الجديد لا يمثل اندماجا بالمعنى الكلي الذي يمثل الذوبان، بل يحمل صفة التجاور، خاصة، كون إقامتي جاءت فيه بعمر متأخر. التجاور بمعنى البين بين، ما بين ماض حفر بعيدا وحاضر غربي له خصوصيته الشمالية. بالنسبة لي لم أشعر بأني غريب بالمطلق في حاضنتي الجديدة، لقد تثقفت بالتشكيل الغربي، في السابق، وكنت قد زرت العديد من دول أوروبا. تقبلت حاضنتي الجديدة بعد أن وجدتها قد وفرت لي أسباب الإقامة وحرية التفرغ لعملي الفني.

لا أزلت أحمل ذلك الوهج العاطفي الشرقي في ملونتي، خاصة، وفي الكثير من تفاصيل رسوماتي رغم كونها عائمة في طبيعتها التي هي بعض من مساحة فضاءات أمنت الطبيعة التي لا تحدها حدود. إذ لا أجد فرقا في استقبال رسوماتي بين مختلف الأجناس وقاطني الجغرافيا الواسعة. فالخيال في الغالب هو ملح العمل الفني، وطريقة الأداء تنسبه لجغرافيته المحلية أو العالمية. حيث لا فرق في هذا الزمن "المعولم" الذي يروج للثقافات الفرعية  الثانية أو الثالثة، وفي فضاءات "الميديا" ووسائلها التي تلهت لبلوغ منطقة الخيال المطلق، سواء في شطحاتها أو بوصفها صنوا للذات الإنسانية في مناطقها الأسطورية. أليست "الميديا" هي الأخرى من صنعنا؟ وأعتقد لا بد من أن تمسنا وسائلها الأدائية سواء المباشرة منها أو غير المباشرة. 



التنافذ الثقافي

الفنان عمار داود/ السويد

لم أشعر ولو للحظة بأن وجودي في بلد الاستقبال هو خيار إجباري، لقد كان قراري طوعيا ودون أي إحساس بثقل تحمّل هكذا قرار. ذلك لأني كنت أشعر بصعوبة العيش في بلد اسمه العراق، خضع لحكم سياسي قاس. وتداعيات هذا الخيار لم تجلب لي إلا الإحساس بالغبطة وفرحة الاكتشاف والتعلم.

لقد جلبت لي دراستي في أكاديمية الفنون الجميلة البولندية، التي استغرقت ست سنوات، الكثير من الخبرات والمعلومات، أدى ذلك إلى حصول تحولات أسلوبية جذرية في تجربتي الفنية. لكن من المهم الذكر هنا، بأنه لم يتم لي آن أتحول أسلوبيا بشكل يقطع صلتي بجذوري الأولى، بل على العكس، فقد قمت بتطوير تجربتي للحد من جعلها، كما يؤكد الآخرون ومنهم أساتذتي في الأكاديمية، قد تمكنت من خلق قيم أسلوبية توفيقية تتنافذ فيها ثقافة أوروبا والشرق معا.

لازلت أفكر بثقافة بلدي، وهي تكوّن محتوى وجداني الأعمق وتصوراتي المفاهيمية عن سمات عملي الفني، وهذا واضح جدا في أعمالي الفنية التي أنجزتها طيلة سنوات تواجدي في المهجر. 

عمل للفنان عمار داود



أجد أن منجزي الفني ينتمي إلى ثلاث ثقافات، وهي البولندية والسويدية والعراقية، ولا أشعر بأي حرج من ذلك. أنا ابن هذه الثقافات وابن العالم كله ولا أشعر بالغربة في الداخل، لهذا السبب أستطيع القول بكل ثقة أن هذه الثقافات تتجانس، أو تتوافق في عملي بشكل ملحوظ جدا.



الذات الأولى

الفنان علي جبار/ المملكة المتحدة

بداية،  سيشكّل المهجر بالنسبة لي واقعا حياتيا جديدا، وجاءت الحريّة المتاحة فيه بمثابة هبة أتحدى بها هذا العالم المختلف. وعلى الرغم من أنني لم أكن في مقتبل العمر، حين وصولي إلى المهجر، ما دفعني الأمر للعيش بالاعتماد على تكويني الثقافي الأول. حيث فتحت حواري الخاص مع المكان الجديد بكل ملكاته، وخرجت باستنتاجات معينة. لكني لم  أستسلم حينها لكل ماهو موجود ومفروض وشائع من قوى هذا المكان.

لقد جربت تقنيات كثيرة وطرقا مختلفة في الرسم والنحت، ومن دون رقيب، وبحرية مطلقة. وفي النهاية، وبعد سنين كثيرة، ساقتني كل تلك التجارب الى ذاتي الأولى، التي تكونت في العراق، مضافة لها الحرية في الأداء وتأثيرات البيئة الجديدة "الألوان، المناخ".

وكانت كلما تخونني شجاعتي القديمة أعززها بشجاعة جديدة مكتسبة، خاصة، بعدما أزلت عني بعض القيود الاجتماعية التقليدية القديمة، حينها بدأت برؤية الأشياء بوضوح أكثر، وتمكنت بذلك، من خلق تصالح مؤقت بين ما أنجزته في السابق من أعمال فنية، وما هو منجز في الوقت الحاضر.

عمل للفنان علي جبار 



قبل مغادرتي بلدي العراق، كانت لدي معرفة وتصور عميقان عن المجتمعات الأوروبية والعالم، لكن لحظة وصولي لذلك العالم قد وسّع من تلك المعرفة وذلك التصور. ولأنني أصبحت في قلب المشهد وجزءا منه، لذا كان الانسجام معه كمجموعة روابط مشتركة بدا أمراً حتمياً. تلك الحتمية التي بدأت بإنتاج تجربة أكثر رصانة وحرية من السابق.

نعم، أصبحت أنظر لواقع الماضي نظرة مختلفة الآن، وكأنه جزء من حلم لا أستطيع العودة إليه إلا مرغَما. هناك بقيت أشلاء الماضي القديم وهنا صنعنا لأنفسنا أشلاء جديدة.

خلاصة القول: خلال خمس وعشرين عاما، من بقائي في المهجر، لم أنحن لكل ماهو جديد ولَم أقاطعه كذلك. لقد بقي عقلي وقلبي منفتحين على تجارب الآخرين، كما لَم أتعصب لنفسي أو لغيري، وتركت الحوار قائما ومطلقا.


يوميات المهجر

الفنان كريم رسن/ كندا

مع استعدادي للرحيل إلى أرض المهجر، كندا، في العام 2008، راودتني وقتئذ أسئلة كثيرة، ظل البعض منها ملازماً لذهني في السنين الأولى بعد تلك الهجرة القسرية، غير المخطط لها في السابق، وذلك بسبب الأحداث الطائفية التي عصفت بالعراق  عام 2006، والتي تسببت في هجرة الكثير من شرائح المجتمع، بما فيهم العديد من  الفنانين والأدباء.

مع مرور الزمن وحينما بدأت بالشروع في إعادة تأسيس مشروعي الفني، باتت تلك الأسئلة أكثر إلحاحاً. أتوقف أحياناً للبحث عن أجوبة شافية عنها، وأحياناً أخرى أقنع نفسي بأن الزمن هو الكفيل بالإجابة عليها. رغم ذلك كانت أكثر الأسئلة إلحاحاً هي الآتية: هل ستكون هناك تغيرات بالمعنى الأسلوبي والرؤيوي على أعمالي الفنية كرسام؟ وهل سأكون جزءاً من منظومة ثقافية جديدة أتفاعل معها بكل معطياتها؟ أم أني سأظل محافظاً على إرثي الفني الذي تراكم على مدى سنين عديدة ينهل من تراث فني وثقافي سابق ومختلف له علاقة بالمكان الذي عشت فيه؟ 

لم يكن التعامل مع تلك الأسئلة بالأمر اليسير، ولم تحسم، كذلك، الإجابة عنها، حتى بعد مضي زمن قصير. لقد أصبح الأمر يتعلق بخوض تلك التجربة الإنسانية والفنية معاً. حيث تطلب الأمر التعاطي مع مواد وخامات جديدة، والخوض في تجارب أسلوبية جديدة، أيضاً، تم من خلالها إيجاد توافقات مهاراتية ورؤيوية مع ما تدربت عليه في السابق، كان الغرض منها هو بناء نسيج حيوي مع التجارب الجديدة التي باشرت فيها في السنين الأولى بعد الهجر. وبعد مرور زمن وجدت أن تلك الأسئلة قد بدأت تترك أثرها الواضح على أعمالي الفنية، إذ ثمة عوامل ساهمت في هذا التأثير منها: المكان الجديد، والثقافة الجديدة، واللغة، والتداول الفني.

عمل للفنان كريم رسن



كانت الأعمال الفنية التي أنتجتها بعد ذلك، هي نتاج سلسلة رؤيوية متتالية ومكملة لما أنتجته في السابق. والمتعلقة بالأثر الإنساني المحيطي الذي كان من صُلب اهتماماتي الفنية، إلا أنها باتت تنحو منحىً آخر، مُتأثرة بالبيئة التي انتقلت للعيش فيها. حيث يختلف الأثر هنا شكلاً ومضموناً، يتغير باستمرار مع إيقاع المدينة الحديثة المُتسارع. وحيث يتمثل ببعض المقاطع والمشاهد لصور الإعلانات وتراكماتها فوق بعضها البعض. ومن ثم إزاحتها بواسطة الكشط لتحل محلها أخرى جديدة، تاركة آثارها، بعد ذلك الفعل، على شكل طبقات يمكن قراءتها على أنها بقايا صور وكتابات وعلامات ودلالات وظيفية. تحولت بفعل التراكم والتعرية إلى مقاطع صورية ذات دلالات جمالية من نوع خاص، تم استحضارها وإعادة إنتاجها برؤية بصرية توفيقية، مع إضافات لعناصر تشخيصية وشكلية بسيطة. تدرجت في النمو بعد ذلك الى أن تكون عناصر رئيسية فاعلة في فضاءات أعمالي الفنية التي تلت تلك المرحلة الفنية. والتي اعتمدت فيها على عناصر التشخيص التعبيري التجريدي، مع دلالات أخرى غير تشخيصية متوافقة ومكملة للعناصر الأخرى في اللوحة. كان الغرض منها التعبير عن يوميات المهجر ومصاعب التأقلم في المجتمع الجديد وطبيعة مناخه المتقلب والقاسي البرودة.

 

 ونتيجة لجميع  تلك العوامل، والاحتكاك بثقافة البلد المُضيف، اتسمت أعمالي الفنية التي أنتجتها خلال التسع سنوات الماضية بالتنوع الأسلوبي والمهاراتي. حيث توزعت بين فن الرسم وفن التصوير الفوتوغرافي، وفنون الطباعة والفوتومونتاج، وعمل الدفاتر الفنية. والدمج بين بعض هذه الوسائل أحياناً، من أجل الاكتشاف والتواصل مع العالم الجديد الذي أعيش فيه. بعض من تلك المهارات مكتسبة، تدربت عليها في السابق، والبعض الآخر هو وليدة تجارب جديدة تنتمي إلى ثقافة المكان الجديد، الذي أنتمي إليه الآن.



لم يغادرني بلدي

غسان غائب/ الولايات المتحدة الأميركية

واقع المهجر الجديد حياتيا وفنيا جاء كحل لمشكلة كنت أعاني منها في بلدي، وهي عدم الأمان والاستقرار، وضياع المصير الذي ولّد تداعيات على الصعيد الشخصي والجمعي. في الواقع الجديد بات الاندماج بالنسبة لي فعلا حياتيا يخلو من أية صعوبة تذكر، كونه واقعا وجدته مفعما بالروح الإنسانية الصادقة والقيم النبيلة التي لطالما كنت أسمعها ولا أراها في بلدي الأصلي، لكنها موجودة هنا بالفطرة.

المهجر، بوصفه حياة جديدة، ساهم في تغيير وإغناء تجربتي بقيم مضافة، كالتفكير الحر والتعرف على تجارب عالمية مهمة. في هذه الغربة فُتحت آفاق لم تكن متاحة لي، في السابق، بسبب الحروب المتعددة وطبيعة المجتمع المتشددة. على صعيد الفضاء الفني، تعرّفت على العديد من التجارب والطروحات الفنية الجريئة، وزرت عشرات المتاحف، واطلعت على الكثير من المجلات الفنية، ومثل هذا الأمر لم يكن متوفرا لي في السابق.

من المؤكد أن المجال الفني الذي يحيط بالفنان لابد من أن يساهم في إغناء خبرته المعرفية والجمالية. وهو الشيء الذي لمسته في تجربتي الفنية، حيث بدأت بالتمرس على تقنيات مغايرة وجريئة، لم أكن أستعملها في السابق، مثل المواد الجاهزة بكونها استعارة من المحيط، كما لم أعد مكتفيا في لوحاتي بالسطوح اللونية، لذا وجدت أن عملي اليوم هو أكثر جرأة في التعاطي مع الأفكار ذات المساس بالوجع الإنساني، وتكريس الحس البيئي.

عمل للفنان غسان غائب



من جهة أخرى، أفترض أن ثمة إضافات تجريبية، بدأت تحضر ضمن معالجات داخل جغرافية العمل الفني، مثل النحت والتجسيم الذي لا يخلو من تصورات واقعية، وعبر استدعاء مفردات حياتية ستكون من صلب نسيج عملي الفني وصياغاته التشكيلية. علي القول أن تجربتي الفنية اليوم، هي امتداد لسابقتها، لكن مع اقتراح تقنيات جديدة لم أعمل عليها، لم يتم التعاطي معها من قبل،  مثل الفوتغراف والطباعة الرقمية والفيديو آرت.

غادرت بلدي وبلدي لم يغادرني، لذا أجدني دائم التفكير به، هو أرضي ونشأتي وتكويني. لكن استذكاري له لم يخل من مرارة، بسبب الظروف الصعبة التي ما زال يعيشها. أحيانا يكون بلدي بالنسبة لي ذاكرة مفعمة بتجارب جميلة وسعيدة، وأحيانا أخرى ممتلئة بما هو عصيب ومتعب.

أفترض أن تجربتي الفنية مازالت تنطوي على مفردات تشير الى ما هو متجذّر في المكان، أي بما له علاقة بمجتمعي الأصلي. كما أن طريقة اشتغالي على مستوى التقنية هي غربية سواء بما يتعلق بالأداء أو الصياغات الفنية.

لكن يبقى المناخ العام لتجربتي محملا بمرجعيات ودلالات إشارية  نابعة من ثقافة بلدي الأم.



تقاطعات وتحد

كريم السعدون/ السويد

المهجر خيار إجباري، لما فيه من آليات معيش تختلف وتتقاطع مع كل ما لدينا من إرث ثقافي. ذلك سيشكل تحديا لسبل الاندماج بالواقع الحياتي الجديد. لكن تبقى فرص التآلف معه بالنسبة للعامل في الحقل الثقافي، والفنان خاصة، تواجه تحديا من نوع آخر، يتمثل في مشكلة العلاقة مع المتلقي الجديد. فهناك صعوبة واضحة في لغة التوصيل، بسبب كوننا محملين بدلالات ثقافية مختلفة، وما نضعه في أعمالنا الفنية من مفردات.

إن مشكلة التلقي، في كثير من الأحيان، قد تصبح دافعا إلى الانزواء والعزلة وبالتالي الشعور بالإحباط، قياسا بالحلم المسبق بفضاء الحرية الجديد. لا شك أن ذلك يؤثر في نوعية النتاج الفني ويهيمن عليه. مثل هذا الأمر لا يجعل من بلد الاستقبال وطنا بديلا، وإنما مكان انتظار لهجرة جديدة معاكسة. أن مشكلة المتلقي الجديد بالنسبة لي حقيقية، والتي لا يمكن لها أن تحل إلا في التواصل المكثف لفهم قاموسه الفني، وهذا يضيف إلى إشكالات أخرى لتجربة الفنان في المهجر.

عمل للفنان كريم السعدون 



يأتي الفنان إلى المكان الجديد وهو محمل بعدد هائل من العلامات والكثير من المفاهيم المتكونة في الوطن الأم. ورغم اعتقادي بأن الفن لغة تتسع للجديد، فإن من المهم انتظار اللحظة التي تؤدي إلى إحداث صدمة تلقي أولى وإثارة للتساؤل. لذا كان علي أن أحدد اللغة التي أتواصل بها مع المتلقي. مثل الكثير من الفنانين المهاجرين كنت في الوطن الأم أعمل بحرية كافية في إنجاز عملي الفني، وأقصد هنا التجريب، إلا أنني كنت أخضع في داخلي لاشتراطات المؤسسة الفنية الفاعلة، لأنها كانت تسمي العمل الفني وتبتكر قواعد قبوله أو رفضه.

 بذلك أصبح من الصعب الركون للذائقة الأولى، في المهجر، التي قسرنا عليها ثقافيا. هذه الآلية الجديدة أعطتني زخما في الاندفاع الحر في التجريب إلى مديات واسعة، لم يكن بالإمكان المجازفة باستخدامها هناك لصعوبة قد تعترض تلقيها وقبولها. ومع هذا فإن إشكالات الحياة الجديدة في بلد الاستقبال، شكلت لي موضوعات يتعلق أكثبها في جدوى الوجود المتعلق بنا، وأسئلة العزلة التي يثيرها.

إن الرغبة في تجديد النتاج الفني وخطابه، والاستفادة مما هو موجود في الواقع الجديد، تطلبت مني انغماسا بمساحة الحرية المتوفرة وفهم عملية إنتاج الفن وتلقيه. إن الواقع الجديد ليس مثاليا ومتاحا بسهولة كما هو متوقع، ثمة قواعد مترسخّة، تلك التي تحكم علاقاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، وما لدي من سنوات متبقية لا تكفي لهضمها بشكل جيد. لذا تشعر، من خلال الاستمرار بالنظر إلى نفسك بكونك مختلفا، باغتراب جديد. وهو الشعور الذي يوقع كثيرين في دوامة الحنين، والركون الى الذاكرة متقدة ترغب في ماضٍ نعتقد أنه خلا. إحساس مزدوج هو مزيج من الرغبة في العيش الجديد من جهة، ومنح الوطن مساحة تكاد تكون كلية من التواصل معه، حتى في البعد، من جهة ثانية. وكفنان يصبح همّ الوطن المتزايد، المادة الرئيسية في النتاج الفني باعتباره مشكلة إنسانية عامة هذه المرة.

إن الشعور بأن إضافة جديدة لأعمالي قد تشكّلت باتت حقيقةَ بالنسبة لي بسبب الواقع الجديد، وفيها بعض القطيعة مع نتاجي السابق، ولكنها ليست كافية تماما، فالإنسان وتحديات الوجود يظلان هما الثيمة الثابتة.

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.