}

زكي ناصيف.. شيخ الفلكلور

خطيب بدلة خطيب بدلة 15 أكتوبر 2017

في احتفال غنائي عفوي جمعَ زكي ناصيف ووديع الصافي، وكلاهما كانا في سن الشيخوخة الجميل، قال وديع: هيدا زكي ناصيف جسر الفن، العظيم المتواضع، الطفل الكبير.. فرد عليه زكي ناصيف: حاجتك بقى.

وأدار وجهه خجلاً.

- ولد الموسيقار زكي ناصيف في بلدة مشغرة، بتاريخ 4/7/1916 (على الأرجح)، وتوفي في 10/3/2004. 

- بدأ يتعلم، مُذ كان فتى صغيراً، كتابةَ الشعر، وألوانَ الموسيقى الشعبية كـ الزجل والميجنا والعتابا والجَمْلُو وأبو الزلوف والمُعَنّى والشروقي والقصيد.. وهي فنون قروية كان يتقنُها هو ووديع الصافي وصباح «جانيت فغالي». وتأثر بوالدته التي كانت تملك صوتاً حنوناً وتردد على مسمعه الدلعونا والعتابا ونغمات الدبكة، ما ساعده على التعلق بالغناء والموسيقا.

- عام 1936 (وهو في العشرين) دخل معهد الموسيقا في الجامعة الأميركية، درس العزف على آلة البيانو، والفيولونسيل، كما تابع دراسته الموسيقية على يد الموسيقار «برتراند روبيير» الذي علّمه كتابة النوتة وفن التأليف والهارموني.

- انضم إلى فريق «إذاعة الشرق» في فترة الانتداب الفرنسي، واشترك مع عاصي الرحباني ومنصور الرحباني وتوفيق الباشا وتوفيق سكر في تشكيل «عصبة الخمسة»، وكان هدف أفراد العصبة هو الخروج على الغناء الشائع، وابتكار لون من الغناء المحلي الذي يستمد من الفولكلور جُمَلَهُ اللحنية، باعتبار أن الفولكلور مليء بالمواد الفنية الخام، القابلة للصقل والتطوير.

- غنى زكي ناصيف معظم أغانيه بصوته، ولحن لوديع الصافي وماجدة الرومي وغيرهما. انتسب إلى الحزب القومي السوري، (في سن الأربعين، وعن قناعة، كما يقول) وهو الذي لحن نشيد الحزب وأعجب به أنطون سعادة، كما لحن نشيد «موطني يا توأم التاريخ» للشاعر محمد يوسف حمود، ونشيد «الأشبال» للشاعر غسان مطر.

 

موسيقى الكبار في مصر

 

- يقول زكي ناصيف: في مرحلة الطفولة كان لدي ميل طبيعي إلى الموسيقا، فكانت تستهويني الألحان والأنغام والتراتيل. لم تكن أجواؤنا العامة حاضنة للموسيقا، أو حافظة لها، سوى بعض الأسطوانات التي كانت تأتي من مصر تحمل معها ما لذّ وطاب من أصوات الكبار كسلامة حجازي وسيد درويش، اللذين أغنيا الأجواء العربية بالأناشيد والمسرحيات الغنائية. هذه الأسطوانات كانت (شَغْلتي وعَمْلتي) فتأثرتُ بصوت سلامة حجازي وحفظت قصائده الغنائية وأغاني سن الطفولة، الأمر الذي رَسَّخَ تعلقي بالأنغام الشرقية. وفي منتصف العشرينيات ظهرت أصوات عظيمة كأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، وقد ظللتُ أسمع أغاني عبد الوهاب، فيما كانت تتفتح بدايات بذور الفن اللبناني مع نقولا المنى وسامي الصيداوي وسليم الحلو ووديع صبرا ويحيى اللبابيدي ومتري المرّ والأخوين فليفل واسكندر شلفون، فضلاً عن فيلمون وهبي الذي برز نَجْمُهُ في الأربعينيات وبدأ يلمع.

- كتبت جريدة الحزب القومي «النهضة»- 28/3/2011 مقالة طويلة عن زكي ناصيف تمجيداً لذكراه، جاء فيها: إن بعث التراث الفولكلوري الريفي والجبلي، واستلهامه في الغناء والموسيقا في الخمسينيات، كانا من العلامات على طليعية نهضة العقيدة السورية القومية وشيوعها بين الفنانين والمتعلمين.

- كتب الدكتور بديع الحاج (صحيفة تحولات 28/3/2014) يقول إن زكي ناصيف لم يَسْعَ إلى تطوير الفولكلور اللبناني بالمعنى التجريبي، بل حاول التفتيش عن إيقاع شعبي وطريقة للأداء، وما فعله هو أنه أضاف أشكالاً جديدة في الفن الفولكلوري تقترب من الحداثة. وإذا كان الرحابنة قد أبدعوا في استعمال مكنونات فولكلور أهل «الجبل» لقربهم من المجتمع الريفي في جبل لبنان، فإن زكي ناصيف كان قريباً من فولكلور أهل «السهل» وتجاربه، سيما وأنه مولود في بلدة مشغرة البقاعية. وفيما ركّز الأخوان الرحباني على تبني هذه الألحان الشائعة، اعتمد زكي ناصيف الأهازيج التي لا ألحانَ لها، فأخذ منها الإيقاع.

- يتابع د. بديع الحاج: هناك قسم كبير من الألحان الفولكلورية الموجودة في الذاكرة الجماعية في لبنان أصولُها سريانية. زكي ناصيف اتجه صوب السرياني أكثر مما اتجه صوب البيزنطي. فالألحان التراثيّة وبخاصّة الإيقاعية منها كالقرّادي والموشّح البلدي والمعنّى والدلعونا وغيرها «سريانيةٌ» بتركيبتها الشعرية والموسيقية.

- احترف زكي ناصيف الغناء والتلحين متأخراً، لأنه كان يعتبر الفن هواية أكثر منه احترافاً، وكان ذلك في إذاعة الشرق الأدنى عام 1953 (وعمره 38 سنة)، وبقي نشاطه مقتصراً على تلك الإذاعة، إلى أن توقفت عن البث عام 1956. فانتقل نشاطه إلى الإذاعة اللبنانية في عهد مديرها «حسن الحسن».

- يقول زكي ناصيف: جئت إلى الموسيقا من الترنيم الكنسي. كان ذلك شيئاً طبيعياً، فقد كانت شقيقتاي تتعلمان في مدرسة راهبات القديس يوسف. وكانت هذه الألحان تجعل العقل «يدوخ» فكيف إذا كان المستمع هو أنا، ذاك الطفل الحساس العاشق للموسيقا والمحب للنغم والترانيم والألحان؟

 

 

علاقتة بالأخوين الرحباني

 

- قال زكي ناصيف: الأخوان الرحباني كانا على علاقة جيدة بي. تعاونَّا معاً في أول مهرجان «بعلبك» ثم انفصلنا بناء لرغبة من عاصي الرحباني. وكانت بداية الانفصال تنفيذاً فنياً لتقديمهما مهرجان «مواسم العز» مع «صباح» التي كنا اقترحناها لمهرجان فرقة الأنوار. ثم عملنا على تقريب الأغاني الغربية الشائعة ولا سيما الراقصة منها إلى العربية وتوزيعها، بعدما طلب صبري الشريف من الأخوين الرحباني أن يقدما لي نحو عشر أغانٍ قصيرة على أنغام عربية راقصة.

- ويقول زكي ناصيف: عندما بدأنا في مهرجانات بعلبك، كان الأخوان الرحباني قد جمعا كل الفولكلور، وأعادا تقديمَه بشكل جميل، وكان من غير المستحب أن أسير في الخط نفسه، فبحثتُ عن شيء جديد ووجدتُه في أهازيج ملحنة، ونظمت أغنيات على وزنها. اعتمدتُ الأهازيج التي لا ألحان لها، فأخذت منها إيقاعَها.. على سبيل المثال: استوحيتُ «طلوا حبابنا طلوا» من أغنية شعبية فكاهية تقول: قام الدبّ تَا يرقص، قَتَّلْ سبع تمان أنفس!

- كانت انطلاقةُ زكي ناصيف الفنية الكبيرة مع مهرجانات بعلبك سنة 1957 وكذلك مع فرقة «الأنوار» التي أطلقها المرحوم سعيد فريحة سنة 1960، والتي طارت بالفولكلور اللبناني إلى البلاد العربية ودول الاغتراب، وظلّت تقدمه في عروض كثيرة لاحقة على خشبات مسارح قبرص وباريس وفيينا وفرانكفورت. القصة وما فيها أن سعيد فريحة أبدى في سنة  1959 رغبة في إحياء حفلة في كازينو لبنان على غرار الحفلات اللبنانية لإطلاق جريدة «الأنوار»، فقال له الأستاذ نزار ميقاتي: سبق لنا أن قدمنا عملاً فولكلورياً للمجموعة في بعلبك، فلماذا لا تتبناه وتغطي تكاليفه؟ إنه يعطي نتائج معنوية جداً. أعجب «فريحة» بهذا الأمر وتبناه، وفعلاً في خلال شهرين أنجز العمل وقدم في كازينو لبنان تحت عنوان مهرجان الأنوار. وهكذا، في عام 1960 وبمبادرة من الراحل الكبير سعيد فريحة، نشأت فرقة الأنوار التي ضمت عدداً كبيراً من أهل الفن، وكان من بينهم زكي ناصيف، فقدمت مهرجانها الأول في كازينو لبنان صيف 1960 وكان موضوع العرض الفولكلوري الراقص وقصته مستمَدّيْن من «عرس القرية»، وهي الفكرة التي تتسع لكل ما يخطر في البال من أغانٍ ولوحات.

 

دخلك شفت هالعنزة؟

 

- ويقول زكي ناصيف: كنا عم نحضر لـ بعلبك، وكانت القصة لريمون جبارة، والإخراج لصبري الشريف، ، قال لي صبري: فيه شخصية بهالقصة اسمه «أبو بشارة»، راح يمثلها وديع الصافي، وهو إنسان طيب القلب وخفيف الظل، إذا سألوه: كيف حالك؟ بيرد: دخلك شفت لي هالعنزة؟ يعني هو رجل مضيع عنزته، بكل مناسبة يسأل عنها. وسألني: فيك تعمل لي اسكتش يضع وديع الصافي بهالجو؟

طلع معي شي من ذكريات البلد، بكل ضيعة في كروم، وكان يلتقى بآخر الصيف بَدْو رُحَّلْ يقعدوا جنب الكروم، حد المعاصر، مطرح ما بيعملوا دبس، وعلى وجه الدبس بتطلع رغوة تصلح للكَبّ، هاي بتكون من نصيب البدو الرحل. أنا اعتبرت أن جنب الضيعة في بَدو، وبينسمع صوتهم بالليل عم يغنوا:

يا خيام الهَنَا ما تنضامي، وربوعك تْهْنَى بالسلامي، عين الله من العالي ترعاكي، وتهديكي من الخيل والإنعامي، وتهديكي من الخيل والإنعامي.

بهاي الأثناء بيكون وديع الصافي جاي من طرف المسرح ماشي على الدقة ذاتها، ويغني لهم:

ع خيام الـ لكن جيت دروبي، عَبْ دور عَ عنيزتي المحبوبي، شَقْرَا والـ ديلها خروبي، مني للـ يهديني الإكرامي. مني للـ يهديني الإكرامي.

يغنون له:

يا جار الرضا مرحبا بَكْ، يا هلا بَكْ جيت بيد حبابَك، مرهوني مواشينا عَ حسابك، الخيول والمعيز والغنامي. الخيول والمعيز والغنامي.

يقول هو (موال):

كاصد حماكم أنا بالخير يا جيران، ع صوت حادي حَدا حبيت نغماتو، تاري الحِدا ناحكم وبحيكم عمران، والليل باهي القمر حلوين نجماتو، تمنيت طول العمر إسمع حِدا العربان، محسوبكم لو حكي من القلب كلماتو.

وقتها يمسكون على الدبكة ويغنون:

يا جار الرضا، حلال اللوم، ع الحين الـ مضى، بالغفا والنوم، حرام حرام، يا بلبل تنام، والـ متلك يغني طول اليوم.   

سَمّعنا يا بلبل سمعنا، وما زال الهوى طيب معنا، وهالعمر بلاك مالو معنى، يابا عمرك هالحلو ما ينقص يوم، ويلا ويلا لوم، ويلا ويلا لوم. ولاه ولاه ويلا لوم.

وغني يا حلو هات اطربنا، وللسما بصوتك قربنا، نحني اللي بهوانا تجربنا، ونطرنا الصلاة ونطرنا الصوم. ويلا ويلا لوم، ويلا ويلا لوم. ولاه ولاه ويلا لوم.

نيالك بصوتك نيالك، سمعنا الغنا اللي بيحلالك، وازرع السلام بموالك، يابا إنته والدلال خلقتوا توم. ويلا ويلا لوم، ويلا ويلا لوم. ولاه ولاه ويلا لوم.

 

تسع أغان لفيروز

 

- قدم زكي ناصيف لفيروز تسع أغانٍ هي «ع دروب الهوى» و«من يومْ تْغَرَّبْنا» و«أمي الحبيبة» و«أهواك» و«بْناديلك يا حبيبي» و«فوقَ هاتيك الربى» و«ع بالي يا قمر» و«يا بَني أمي» و«سَحَرتْنا البسماتْ»، والقصائد كلها من تأليفه، عدا قصيدة يا بَني أمي التي أخدها من جبران خليل جبران.

ومن أغانيه الأخرى: طلوا حبابنا، أهلا بهالطلة، فراشة وزهرة، راجع يتعمر لبنان، مهما يتجرح بلدنا، اشتقنا عَ لبنان، رمشة عينك، حلوة ويا نيالها، تسألني الحسناء، دقة ودقة مشينا، ندي النسايم، هلي يا سنابل، ليلتنا، اشتقنا كتير يا حبايب، حبايبنا حوالينا، بلدي حبيبي.

- توفي زكي ناصيف يوم الخميس 11 آذار/ مارس 2004 وقد شيع إلى مثواه الأخير في مشغره وسط حشد من الرفقاء والمواطنين وأهالي المنطقة والمعجبين به، كما حاز على وسام الأرز من رتبة كومندور. غير أنه من المضحك المبكي أن نعرف أن زكي ناصيف، وبالرغم من عطاءاته وإبداعاته، لم يكن يملك في أواخر أيامه بيتاً يؤويه، بل إن الـLBC  استأجرت له بيتاً، كما صرفت عليه حتى مماته.

ملاحظات:

ملاحظة أولى: سار زكي ناصيف في إبداع لحن قصيدة «سحرتنا البسمات» على منوال فيلمون وهبي في «جايبلي سلام» التي تبدأ بموال، تليه الأغنية،  والأمر الغريب والمُحَيِّر الذي يدل على عبقرية زكي ناصيف في كتابة الشعر، وهو أن القافية التي نَظَمَ عليها الأبيات هي الفاء، وهي من أصعب القوافي في الشعر العربي، وعلى الرغم من صعوبتها سنلاحظ أن العذوبة، والسلاسة في اللفظ، هما السمتان الغالبتان على الأبيات، وأما اللحن فهو جميل جداً، وقريب من روح الأخوين الرحباني وفيروز العظيمة.

نص الموال: حبيبٌ تمادى في الصدود كأنه، غريبٌ يبادلُني السلامَ تَكَلُّفَا، أسائله لطفاً فيزداد منعةً، ويهربُ من وجهي نَفُوراً مُعَنِّفا، لكنه حالاً يعود ببسمة، فأنسى بها كلَّ الذي مَرَّ آنفا.

ملاحظة 2: فيما بعد قدم زكي ناصيف أغنية «يا ديار الـ لنا» بصوته، بعدما أضاف لها كلمات جديدة

يــــا ديار الـ لنا ما تنضامي، وربوعك تهنا بالسـلامة، عين الله من العالي ترعاكِ، وتزيدك خيرات وأنعامي. وتزيدك خيرات وأنعامي.

عين الله ترعاك من العالي، وتجيرك من سود الليالي، وما تسخا بترابك هالغالي،  يا ديار الهدى والإلهامي. يا ديار الهدى والإلهامي. 

يـــا دار الـ ما دانت لقاصد، إلا للشــــريف المَقَاصد، قاطنها بالخير منها حاصد،  الوفا وجزيل الإكرامي. الوفا وجزيل الإكرامي.

ملاحظة 2: في برنامج «دار- نجوى كرم»، تعلن المذيعة عن قدوم الفنان العملاق وديع الصافي، فتصدح الموسيقا بمقدمة «طلوا حبابنا طلوا» ونرى سجاداً أحمر ممدوداً في العمق، ويدخل وديع ويلاقيه الحاضرون وقوفاً مصفقين، وهذا، لعمري، استقبال يليق به وبأمثاله من المبدعين. وهنا لا بد أن ينسى المرءُ الأصلَ الفكاهي للأغنية (عِدّيّة: قام الدب تـ يرقصْ).. وبالقياس على هذا الموقف نتذكر أغنية: لولولو، لولالي، الله محيي شوارعكي يا بلادنا المعمورة، التي غناها دريد لحام في «صح النوم»، وهي في الأصل، كما أكد الفنان عمر حجو، والفنان رضوان عقيلي، أغنية لرجل سكير في حلب أيام الفرنسيين كان يغني أثناء عودته إلى البيت:

لولولو، لولالي، الله محيي شواربْكي يا جمجمة خاروفا!

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.