}

"نحبّك هادي" لمحمد بن عطية: سينما الدلالات والتعابير

حميد عقبي 21 يناير 2017

تدور أحداث "نحبك هادي"، الروائي الطويل الأول للتونسي محمد بن عطية (يُعرض حالياً في الصالات الفرنسية) بين القيروان والمهدية، ويروي قصّة الشاب هادي (مجد مستورة)، الذي يستعدّ للزواج من خطيبته خديجة (أمنية بن غالي)، في إطار زواج مدبَّر، إذ تُنظّم أمه حياته كلّها، وتبني له عشّ الزوجية في منزل العائلة، ليبقى قريباً منها. تختار له أثاث المنزل، و"شبكة" العروسة، وربطة العنق التي سيرتديها مع بذلة العرس. هادي مندوب مبيعات، يعمل في شركة "بيجو" للسيارات. يرفض مديره منحه عطلة شهر العسل، ويرسله إلى مدينة المهدية. يأتي شقيقه الأكبر أحمد لمساعدة أمه في ترتيب تفاصيل العرس. علاقة هادي بخطيبته عادية. دائماً، يكون الحديث عن العرس، لكنها ترسل له عشرات الرسائل العاطفية عبر الهاتف. على ساحل البحر في المهدية، يتعرّف هادي على ريم (ريم بن مسعود)، وتتطور علاقتهما، ويجمعهما الحب. يقرّر هادي، يوم عرسه، أن يتمرّد، ويعيش حبه، ويسافر مع الحبيبة. في نهاية الفيلم، يحضر إلى المطار، لكنه يقرّر عدم السفر إلى فرنسا، ويتخلّى عن حبيبته.

 

تفاصيل

في النصف الأول من الفيلم، نعيش مقدمة مطوّلة بعض الشيء. تبرز تفاصيل مهمّة عن هادي. بعد 10 دقائق من البداية، نفهم ونحسُّ بشخصيته: مستسلم، يترك لأمه قيادة حياته. ثم يأتي أخوه، ويختار له وظيفة أخرى. ستكون الزوجة بطبيعة الحال عنصراً جديداً، يزيد من القيود التي تربطه أكثر بالعائلة. لسنا مع أحداث درامية، توّرط مُشَاهدها في تعقيدات متشعبة، وتناقش قضايا الواقع المرتبك، التي يعانيها المجتمع التونسي منذ الثورة، وسقوط نظام بن علي. نحن مع مواجهة عميقة، ورحلة شاقة داخل الشاب، المحكوم بنظم مجتمعية خفية، تجعله حزيناً، وتقوده إلى حياة روتينية، حيث لا مكان فيها للحلم. هادي يعشق الرسم، لكن هذا الفن يظلّ مجرد هواية، وتطويره أو نشره حلم بعيد المنال.

ميزة الفيلم أن مخرجه محمد بن عطية يرتكز على ألم الفرد. لم يغرقنا بشخصياتٍ كثيرة. يسرف في مناقشة قضايا مجتمعية، وينطلق ليحفر في داخل البطل كنموذجٍ مجتمعي. لسنا مع شخصية مضطربة نفسياً، أو ضعيفة، بل مقهورة بحكم الواقع. لسنا بعيدين من العنصر السياسي والاجتماعي. لكن مناقشة هذه العوامل تتمّ بطرق ذكية وغير مباشرة، تختلف عن الأساليب التي نراها في السينما العربية، التي تعتمد على الحكاية، وتقدّس التعقيدات والحوارات المطوّلة، وتكثر فيها الـ "مونولوغات" المسرحية والبكائيات والصراخ، أو تنزلق إلى الكوميديا الهشّة والفارغة. كل هذا العبث الهزيل تفاداه الفيلم. حواراته قصيرة ومفهومة ومعبِّرة، وللأماكن دلالاتها القوية. مثلاً: سيارة هادي هي المكان الوحيد الذي يلتقي فيه خطيبته، إذْ يحضر ليلاً إليها. تأتي الخطيبة، وتجلس إلى جانبه. يركن السيارة في زاوية معتمة، قرب بيتها. هذا المكان الضيق جداً والمحدود، لا يتم فيه تبادل المشاعر. لا مداعبات بريئة، أو وقحة. يظل الحديث في دائرة ضيقة: العرس والعائلة. تتمنّى الخطيبة لحظة الزفاف. تتمنّى أن يكون لها بيت وزوج للتحرّر من عائلتها، التي تحكمها. فمعاناتها لا تختلف عن معاناة هادي. إنها تعيش المناخات نفسها.

 

تحوّلات

النقلة الديناميكية تأتي مع تعرّف هادي على ريم. هذا المنعطف تأخّر قليلاً، لكنه يقود إلى التمسّك بمشاهدة الفيلم، بعد أن كاد الملل يتسلّل إلينا. الفتاة تعمل منشّطة سياحية. هي متحرّرة. تسافر كثيراً. تعيش بعيدة عن أهلها. تستمتع بحياتها. إنها نقيض هادي وخطيبته، تماماً. يكون اللقاء الرومانسي الأول في البحر. في هذا المكان المفتوح واللامحدود، تكون المداعبات والقبلات الأولى. ثم في غرفة ريم، يُمارسان الحبّ. هذه الفتاة جريئة وساخنة. تعبّر عن مشاعرها من دون خجل. تشجّع هادي على مواصلة الرسم. تحرّضه على تحويل حلمه إلى مشروع عملي مستقبلي. هذا العشق، الذي يحدث في لحظة حرجة (قبل أيام قليلة من العرس)، يجعلنا نتوقع أننا مع عشق محرّم، جاء في غير زمانه ومكانه، وسيكون الفشل مصيره. ربما يقول البعض إنه حبّ مجنون، وإن البطل سيهدم ماضيه بسببه، ويسافر مع حبيبته.

ينشط التفاعل في النصف الثاني من الفيلم. يكثّف المخرج لغته السينمائية. يختار أمكنة ذات دلالات متعددة. نرى هادي يضحك ويمرح ويتحدث عن نفسه ومشاعره، ولا يخاف من مديره في العمل، ولا يأبه بالنتائج الكارثية لغيابه عن العرس. نرى هادي يتمرّد، ويخرج من جلباب أمه، ويعلن عن حبه الأول بشجاعة.

القول بغياب السينما في النصف الأول من الفيلم وبحضورها في نصفه الثاني ليس ذمّاً به، أو التقليل منه. نشاهد عشرات الأفلام المليئة بالنجوم، وبمشاهد ساخنة، وبميزانيات كبيرة، ودعايات. أحياناً، تغيب السينما تماماً عنها، وقد يفوز بعضها بجوائز، لوجود مشاهد سينمائية، أو مشهد واحد ربما يكون سبباً لنجاحه.

توجد قراءة مهمّة لمتغيرات مجتمعية جديدة للمجتمع التونسي بخصوص حرية الفرد، والحرية الجنسية، مرّرها محمد بن عطية بذكاء. المداعبات الأولى بين ريم وهادي كانت ليلاً في عمق البحر الذي كان ساتراً وملجأً لهما، ومحرّكاً مثيراً يُفجِّر الرغبات. يندفع البطل، ويسبح باتجاه ريم. تتكرر المداعبات الحسية الجريئة على هذا الشاطئ شبه المهجور في العتمة. الممارسة الجنسية ستكون في غرفة ريم، وستكون الإضاءة خافتة، أو شبه معتمة. عليهما ألا يثيرا الانتباه لبلوغ الغرفة، فيتسلّقان ماسورة شبكة المجاري، حتى الشرفة، ثم الدخول إلى الغرفة. هذا يشير إلى عنصر الرقابة، وتوسع دائرة الممنوعات الناتجة من تأثيرات ومرجعيات، لم يكشف الفيلم عنها، بل أوحى إليها.

 

صُوَر المرأة

يُقدِّم "نحبك هادي" أكثر من صورة عن المرأة التونسية. ما تفعله الأم يأتي بدافع الخوف على ولدها، وكذلك لحبها له. لكن هذه التصرفات زرعت البؤس والقهر في نفسه. خديجة نموذج خلقه الواقع وتعقيداته، فتحوّل الزواج إلى منفذ للتحرّر من القهر العائلي. يعاني سلوك خديجة تناقضات: جامدةٌ مع خطيبها عندما تكون معه، وبعد ذهابه ترسل له رسائل عاطفية، وعندما يصارحها ويسألها عن حلمها، تعجز عن الإجابة، وتتحجّج بأنها متوترة. أكثر النماذج دهشة هي ريم المتحرّرة. عندما نضجت الرغبة، لم تتردّد عن ممارسة اللذة. هي مُحرِّرة البطل. عدم سفره معها يعني نضج الشخصية. يُشير المخرج إلى هذه النقطة في حوار معه منشور على موقع "فرانس 24": "خياره البقاء لا الرحيل معها يُعدّ تطوّراً في شخصيته. هذه نقطة إيجابية. لن يعود هادي كما كان بعد هذا القرار. لن يترك الآخرين يقرّرون بدلاً عنه. لن يعيش كاتماً أحلامه. أول إنجازاته هو هذا القرار الذي اتّخذه بكل حرية. هو نقطة الانطلاق الفعلية في حياته. هادي بحاجة إلى الاستقرار، لكن ليس ذلك المفروض عليه، وليس على شاكلة ما يريده الآخرون له. سيبقى في تونس، لكنه سيغيّر المدينة، وسيختار العمل الذي يريد في مجال الرسوم، وسينتشل نفسه من سلطة الأم، وسيحقّق ذاته".

يزخر الفيلم بدلالات مدهشة. اللقطة الأولى مثلاً: هادي يصلح ربطة العنق، ويمضي وقتاً ليتمكن من ربطها. في مشهد آخر، نرى ربطة العنق بيد الأم تعطيها لهادي ليلبسها مع بذلة العرس. عند قراره التحرّر والبقاء مع ريم، نراه يضع الجاكيت وربطة العنق في المقعد الخلفي من السيارة. كذلك السيارة لم تكن مجرّد وسيلة نقل مادية. كانت بمثابة الانتقال من مرحلة نفسية وروحية إلى مرحلة أخرى، رسم المخرج بواسطتها لوحات تشكيلية، ووضع الكاميرا بداخلها لتصوّر وجهة نظر الشخصية المهزوزة في مرحلة التفكير، وتسليط ضوئها على مساحة صغيرة فيها عشب جاف. دلالات أخرى موظّفة للتعبير عما يحدث في نفسية البطل، وبعضها بديلٌ جيد عن شروحات وحوارات مطوّلة ومملة. كل هذه العناصر نفتقدها في أفلام عربية كثيرة.

في النهاية، تجدر الإشارة إلى الأداء التمثيلي الرائع، خصوصاً لمجد مستورة (جائزة أفضل ممثل لمجد مستورة في مهرجان برلين 2016) وريم بن مسعود.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.