}

عبد الرحمن السليمان من المكان إلى ذبذبات الذات

فريد الزاهي 17 يناير 2017
تجربته تمتد من السبعينيات لتعانق رحابة التحولات الهادئة أحيانًا والمنجرفة نحو مجاهيل التصوير تارة أخرى. فحين نطلع على الأعمال الأولى للفنان السعودي عبد الرحمن السليمان (من مواليد الأحساء)، ونتابع مسيره التشكيلي، نلفي تلك التحولات كأنها عصارة تجربة نقّادة لذاتها، مجاوزة لأهوائها وميولها، ومنفتحة باستمرار على ثنايا الذاكرة، مستبطنة للعالم في ما يشبه حلم اليقظة. هذه الثنائية ظلت ملازمة لرؤيته، وكأنه بها يداور دهشة المرئي كي يبحث فيه عن متعاليات تنبع من بواطنه وصحاريه الداخلية.

إنه مسير صاخب بالبحث المتأني. فحين كان أعماله ترتاد فضاءات الصبا و"تحولات المكان" كانت الأشكال المرسومة تستعيد بفرحة طفولية أشكال المآذن والبيوت، وتطبعها بتلاوين تكاد تجعل منها مدينة أسطورية، مبنية بحلم الذاكرة المتأججة. وحين ارتادت عينه فضاءات الصحراء بتلابيب صخرها ورمالها وألوانها المتدرجة، صارت أعماله استبطانًا للفضاء، وبحثًا فيه عن جوهر الفراغ، والامّحاء والشساعة القاتلة. هكذا، تتحول التقنية و"الأسلوب" تبعًا لتحولات الرؤية وانزياحاتها اللانهائية. وكأن الفنان وهو يخرج من تجربة لأخرى يتخلى على جزء من مكتسباته التشكيلية ويخلق مسافة جديدة معها يوسع بها أفقه الرحب، منطلقًا في مخاطرة نستكشف فيها جزءًا من مغامرته التجريبية. إنه فنان الاشتغال على الذات من دون تماهٍ ممكن مع ماضيه.

بين العين المفتوحة بشراهة على العيني والعياني، والبصيرة المفكّرة بالأحاسيس والتآليف الباطنة، يظل عبد الرحمن السليمان في تأرجح دائم. إنه يبني المشاهد ببصيرته الباصرة، ويُمَشهدها خياليًا ببصَره البصير. وفي هذه اللعبة ما يجعل أعماله عبارة عن انتقالات بصرية من المرئي إلى اللامرئي، ومن الذاكرة إلى الحساسية الباطنة. وربما هذا ما يجعل أعماله الأكثر تجريدية نابضة بالمعنى، منشغلة بالأسئلة الحميمة التي تكاد تنطق بتأويل العالم، وأعماله "التشخيصية" منفلتة من عقال المشهدي والمرئي، وكأنها تعيد له روحًا افتقدها في عقر الواقع المعيش. يؤلف الفنان الفضاء ويشحنه بآثار الذاكرة، يعيد تأويله وكأنه يخلقه من جديد، من خلال ألوانه وتقنياته واستعمالاته الخصوصية التي تقربه من موضوعه وتبعده عنه في الآن نفسه.

ظل عبد الرحمن السليمان يبني اللوحة من خلال اختيارات يبتغيها أو تفرض عليها نفسه، بتخطيطية وهندسية تتراوح بين العلامي والرمزي، يغذي بها حداثة طارئة بشكل مزدوج على الفن السعودي الذي احتضن ولادته. فلقد كانت أعماله في تركيزها على المرئي والمكانية تستشرف العيني وتقاربه، بوعي تشكيلي وبصري كثيرًا ما يمتح من تجربة الحداثة العربية التي خبرها الفنان، من خلال تكوينه وقراءاته ومن خلال لقاءاته بالفنانين العرب الرواد، هنا وهناك في أرجاء العالم العربي كما في الخارج. غير أن الأسلوبية التي كانت تنبع من هذه الأعمال، صارت تبدو له، بوعي أو لاوعي منه، تجربة للبرّانية، وإن أفصحت عن عمق النظرة وجدّة التناول، إلا أنها تظل مقاربة لبشرة المرئي أكثر من غوصها في جوانية الذات الهادرة بالمكامن والثنايا الغنية، المستعرة بانعكاس التجربة عليها أمام  التحولات المتسارعة والمتوترة التي يفصح عنها جسد العالم. وكأننا بالفنان ينطلق (فكريًا وفلسفيًا) من مقاربة ظاهرية إلى مقاربة فينومينولوجية، أكثر حساسية بما يعتمل في الذات من عوالم ورواسب، وأقرب إلى تموّج الخارج في مرايا الداخل.




وإذا كنتُ أضع اليد على هذا المفصل "الواصل والفاصل" في تجربة الفنان، فلكي أوضح أن الانتقال من البنائية "الهندسية" والتخطيطية التي تمسك بالعالم من خلال تمظهره أمام العين والحواس، إلى التعبيرية التي تسعى إلى استجذاب هذا العالم إلى مواطن اللوحة وبواطنها، هو انزياح أكثر منه انتقالاً، لكون الفنان ظلّ يبلور في كل مرة بشكل حلزوني تجربته، حتى وهي تبدو قطائع. ولعَمري إن هذا التراكم الكيفي هو الذي يمنح للأعمال الأخيرة طابعًا روحانيًا صوفيًا يستشرف الذات أكثر مما يستظهرها، ويشتغل على فراغ الصحراء وامتدادات النور في العتمة أكثر من الاشتغال على تضاريس المرئي وجغرافية الأمكنة.

إن للذاكرة هنا دورًا مهمًا يتمثل في كون هذه الأخيرة تمثل استهلاكًا للعيني واستعادة لأشلائه وأطلاله. ويمكن اعتبار اشتغال الذاكرة البصرية اعتمالاً مزدوجًا يحول المرئي في الزمن إلى علامات وآثار، ومساحات تتداخل فيها المكونات والعناصر، بحيث تغدو المساحة اللونية بماديتها الخشنة متحررة من كل العناصر التي كانت تملؤها حد التخمة. هكذا تتنصَّل اللوحة من العناصر لتصير منسابة ومسترخية لفراغها الذي لا تملؤه المكونات. كما لو أن اللوحة تمتص تضاريس الواقع، ومعه ذلك الخطاب الهادر الذي كان يبتغي الفنان تبليغه للمتلقي، كي تنطوي على ذاتها وتكشِط قشرة الواقع بتؤدة. أم هو صخب السنين، واستشراف رؤية جديدة لا تحاكي بقدر ما تحْكي، ولا تنتقد بقدر ما تحلل؟ أم هي مرة أخرى تلك النبرة المفارقة التي تنظر لتحولات العالم كما لو كانت تهرب من الذات بإيقاع يجاوز القدرة الذاتية على  التملك والتبصّر والعقلنة؟

تلك بعض من أسئلة تراودنا لتقودنا توًّا إلى صلب هذا الانفتاح الحكيم على الذات الذي يطبع الأعمال الأخيرة للفنان، والتي تُبين عن "نضج" التجربة على غير مستوى. فالألوان لم تعد متنافرة لأنها لا ترغب في الإمساك بتعدد المرئي، بل صارت التدرّجات اللونية تكتسح مساحات شاسعة من اللوحة كما لو أنها مداها. والتدخّلات الشكلية لم تعد سوى علامات وآثار ترغب في منح المساحات طابع المعنى المبني على الندرة والفراغ والرمز. هكذا تتحول المكونات الدالة على الأشخاص أشباحًا والنباتات علامات والعشب خطوطًا مائلة، والرموز ألغازًا، معبرة عن رغبة أكيدة في التواري في المساحات الغامقة. اللوحة بذلك تغدو أشبه بالمغارة التي يدعونا الفنان إلى استكشاف أغوارها بمصابيح البصيرة الجمالية لا بعيننا الناظرة، كي نتقاسم معه حالات تأملية هادئة مظهرًا، وصاخبة عمقًا. 

من البناء إلى الاستكشاف، ومن التجريد الهندسي إلى التعبيرية الهادئة، يقودنا عبد الرحمن السليمان في منعرجات تجربته الفنية الممتدة لأكثر من ثلاثة عقود، بأناة ومجاهدة بصرية لا تتنكّف عن التنصُّل من المكتسبات التعبيرية الفنية، كي ترتاد آفاقاً جديدة لم تكفَّ عن قيادته نحو مفاوز الذات وبواطن التأمل البصيري، وباتجاه استحضار صحاريه الداخلية، تلك التي ظلت تنتظر لسنين طويلة إطلالته الإبداعية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.