}

"حراك" معرض للفنان مروان نصّار: ثورة على الذات

مليحة مسلماني 4 يناير 2017
تشكيل "حراك" معرض للفنان مروان نصّار: ثورة على الذات
من أعمال معرض "حراك" للفنان مروان نصار

يستند المعنى الإنساني للفن إلى الإنسان والإنسانية كمحور للعملية الإبداعية وكهدفٍ للعمل الفني، وهو يشير إلى تعبير العمل الفني عن أزمة الإنسان في التناقضات، بين كونه مخلوقًا ومبدعًا، وبين القوة والضعف، وبين الحركة والثبات؛ "أما بالنسبة للعمل الفني فالإنسانية هي أن يعبّر الفنان عن هذه الأزمة تعبيرًا إبداعيًا، أن ينطوي على الثبات والحركة معًا. وعن حدود هذه الأزمة: من كونها امتدادًا طوليًا من (الماضي والحاضر والمستقبل) إلى كونها استعراضًا (من الأنا إلى الهو). تلك هي الفكرة الإنسانية في الفن، وذلك هو مغزاها.."[1].

كولاج معرفيّ

يحضر المعنى الإنساني للفن بقوة في تجربة "حراك" للفنان مروان نصار من غزة، وهو معرضه الفردي الأول الذي عُرض مؤخرًا في عدة مدن فلسطينية، وجوهٌ مسكونة ملامحها بالأسئلة والإغراق في الألم، تقترب في أشكالها من الجماجم تعبيرًا عن الحضور الثقيل واليوميّ للموت، تضيق فتحات أعينها وكأنها تُبصر دواخلها أكثر مما تحدّق في المحيط كواقع مأساوي مركّب، مقاطع من صحف ومقولات وأرقام هي كولاج المعرفة والذاكرة وطبقات الدواخل الإنسانية؛ وبذلك هي تجربةٌ تقدّم ذاتها كمعالجة بصرية لانفعالات الذات الإنسانية، الفردية والجمعية، ضمن السياق المحليّ والعالميّ المعاصر.

التجربة التي عمل الفنان على إنجاز لوحاتها خلال عاميْ 2015 و2016 تشمل ثلاثين عملًا فنيًا بأحجام متنوعة، أنجزها الفنان بألوان الأكريليك وبتقنية الكولاج من صحف وأخشاب وكرتون ومواد مختلفة. وهي تجربة لا يمكن اعتبار أنها تنتمي إلى مدرسة فنية بعينها وإن اقتربت من التعبيرية الحديثة وإن جنحت أحيانًا وفي بعض الأعمال نحو التجريدية. يقول الدكتور شفيق رضوان في كلمة يقدم بها تجربة الفنان: "تعكس تجربة نصار الفنية الراهنة مدى تفهمه لمجمل الحركة الفنية العالمية، والتي لم يعد فيها أغلبية الفنانين أتباعًا لمدرسة فنية معينة. التيار الأساسي الذي يعمل فيه مروان الآن، لا يتكلف الفكرة الأدبية للعمل، ولا حرفية التسجيل، بل البناء التشكيلي المتحرر من التقاليد، في إطار البعدين والثلاثة أبعاد في آن، تحركه طاقة انفعالية تساهم في تأسيس مضمون في سياق العمل، يحيط به الفنان دون أن يعنيه بالضبط. الحالة النفسية سواء أكانت لأسباب داخلية أم لعوامل خارجية في أعمال مروان نصار تعيد تشكيل لوحاته، لهذا يبقى الإنسان، على الرغم من اندماجه الكامل مع العناصر الأخرى، له حضور دائم، ويشكل مفتاحًا لتحميل العمل مضمونًا أو همًّا قوميًا، أو إنسانيًا عامًا".

غزّة المُلهِمة

لا يمكن فصل تجربة "حراك" للفنان مروان نصار عن الظروف السياسية والاجتماعية التي تمر بها غزة المثقلة بثلاث حروب تعرضت لها خلال ما يقل عن عقدٍ من الزمن، والتي يكاد يخنقها الحصار إلا أنها لا تزال تحاول الحياة وتمارس فعلَ الجمال عبر الفن والإبداع وسلوكيات جمالية أخرى. تحضر غزة عبر الوجوه والجماجم المحدّقة في التضاد بين حضور الموت والرغبة الملحّة في الحياة، وفي التضاد بين قيود الحصار وأجنحة الحرية، وعبر قصاصات من ذاكرة الحرب. تبقى غزة على أهبّة حرب أو كارثة أو انفجار، والإنسان والمكان فيها مهدَّدان على الدوام، ويُرى في أعمال نصّار هذا التعقيد المحيط بغزّة إذ تعنون هذه الأعمال السؤالَ الكبير لدى إنسانها، عن المعنى والوجود والموت والحياة، وتتمركز حول توقه المُلِحّ إلى التحرر والخلاص.

غير أن تجربة مروان نصار تتحرر من المحلّي وتُعَوْلِم نفسها لتمسّ إنسان المجتمعات العربية والإنسان عامة، ففلسطين المتعطّشة للتحرر من احتلالٍ سبب على مرّ العقود جروحًا عميقة في هوية إنسانها وفي المكان، تتابع بألمٍ الأخبار اليومية عن المآسي الإنسانية المستمرة في البلدان العربية المجاورة، كسورية والعراق ومصر واليمن، وترقب محاولات اغتيال الإنسانية والحريّات، إذ هي عانت ولا تزال من مثل هذه الويلات، ولا يزال مصيرها معلّقًا بمصير هذه الشعوب التي تحاول الخلاص. ويمكن ملاحظة تداخل الواقع العربي المعاصر مع ذلك الفلسطيني في تجارب معاصرة قدمها العديد من الفنانين الفلسطينيين.

يقول الفنان عن تجربته في "حراك"؛ "هو حالة من النشاط والتمرد ضد السكون.. أضيف وأبحث في ذاكرة الإنسان المعاصر، وأستشرف حلمه.. على الرغم من أن ذواتنا لا تنفصل عن الواقع الخارجي، أكشف ما تحتويه الذات الإنسانية من مكابدات باطنية، وأفلح في رصد ما لا تبوح به الوجوه. إنها إنسانية جائعة للخلاص، متعطشة للحلم، تحاول أن تلد نفسها من ركام الذاكرة، لتصبح جديرة بصناعة الغد المشرق، وهي، في سبيل ذلك، تصارع أزمنة صاخبة ورؤىً متموجةً وجغرافيا نازفة، إنه الصراع المشتد بين الحب والعنف، الطموح والخوف، الطبيعة الأزلية والحالة الهيستيرية للحياة المعاصرة، كل ذلك أصبه في لوحاتي فتنبثق أجنّة متفائلة من رؤوس مثقلة بالهموم، وتصبو عيون ممتلئة بالعتاب إلى أشعة قادمة من عيون متسائلة عن الوجود". 

الحراك ــ السكون

يزدحم التكوين البصريّ العام للوحة في تجربة "حراك" بمقاطع ورموز وأشكال تفتح الباب على تعدد التأويلات، الوجوه هي محور الكثير من هذه الأعمال، تحضر في بعض الأعمال في مركز اللوحة كسؤال معرفيّ يشير إلى قلق وجودي مُغرِق في السؤال حول التناقضات. الموت سؤال كبير، حضوره في الواقع المُعاش يعزز التساؤل عنه في دواخل الذات، لذا تقترب وجوه مروان نصار من أن تكون أشبه بجماجم أعينها أنفاقٌ موغلة في العمق والظلام، يبدو هنا أن الحضور القوي للموت يعادل تمامًا قلقًا عميقًا يعاند الثبات، إذ يعاكس القلق بحركته سكونَ الموت ويرادف الفعلَ المتوتر للحياة.

تتشابك مع الوجوه في اللوحة قصاصات من صحف، وأرقام، وتشكيلات من الكرتون والخشب؛ الصحف والأرقام إشارات بصرية واضحة إلى الذاكرة المزدحمة بالأحداث، ليس واقعًا بسيطًا ذلك الذي يعيشه إنسان العصر في ظل التحولات الكبرى في السياسة والاقتصاد والمجتمعات، فالأخبار حول المجازر والثورات والانتفاضات وانهيار أنظمةٍ ودولٍ تصبح شبه يومية في الحياة المعاصرة. يعزز وجود تشكيلات من الكرتون والخشب من ثقل العمل الفني ليرادف هذا الحضور البصري الثقلَ في دواخل الذات الإنسانية في الواقع المعاصر، كما تحتمل هذه التشكيلات دلالات تشير إلى الحَبْس والحصار واللجوء والهشاشة أيضًا، وتلعب كذلك في العمل دور المعادل البصريّ لحالة اللاتوازن والتناقض التي تميز الحياة المعاصرة.

التحرّر البصريّ ــ المعرفيّ

يشير الميل نحو التجريد في بعض أعمال تجربة "حراك" إلى محاولات واضحة للتحرر البصري والإدراكيّ على السواء، ما يشير إلى تسلسلٍ وتدرّجٍ في الفكرة موضوع البحث التشكيلي، فمن أعمال تحضر فيها الوجوه متداخلةً مع تكوينات بصرية من الواقع والذاكرة، تنتقل بنا التجربة إلى أعمال أخرى تختفي الوجوه من على أسطحها ويقل فيها ازدحام التكوينات، بينما تحتل تشكيلات لونية مساحات واسعة من هذه الأعمال. يحيل التجريد إلى مرحلة ما بعد ذروةِ القلقِ والسؤال، ويعني الاقتراب من التحرر والخلاص، بل هو عين التحرر والخلاص وهو ثورة الذات، وهو، أي التجريد في بعض أعمال مروان نصار، لا يعني انفكاكًا مطلقًا من الهويات ومن تعددها وأسئلتها وأزماتها، بل هو عينُ اللجوء نحو مطلق المعنى الإنساني: أي الإنسان.   

 يبشّر معرض "حراك" للفنان مروان نصار بتجربة إنسانية ـ بصرية موغلة في البحث التشكيلي ــ البصري وفي العمق الإنساني على السواء، وهي تجربة لا يبدو أنها تسعى إلى استقاء جماليات بصرية مجرّدة من الفن أو من الواقع ـ العام ومن الجمعيّ، بل هي عبر رحلة بحثها تمزج بين العام والخاص، وبين سؤال الفن ومفردات البصريّ، وطبقات الواقع والذاكرة وانفعالات الذات، وهي أيضًا تجربة، وإن استمدّت أو استلهمت معرفتها من المحلّي، إلا أنها ترفض الانغلاق على الإنسان ــ المكان، الغزّيّ أو الفلسطينيّ، وتسعى بوضوح إلى الكونيّة والتماسّ مع الإنسان، كإنسان.

 

* كاتبة فلسطينية

[1]  شاكر حسن آل سعيد، الحرية في الفن ودراسات أخرى، ط 2 (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1994)، ص 89 - 90.  

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.