}

فن الضجيج : جماليات الموسيقى المستقبلية

علاء رشيدي 10 ديسمبر 2016

كما بيانات الدادائية والسريالية، يتفرد "فن الضجيج" بكونه البيان المستقبلي الذي يتخصص في موضوعة الذائقة السماعية، وجماليات التأليف الموسيقي، في العام 1913، كتبه لويجي روسولو  (1885 – 1947) ، في صيغة رسالة موجهة إلى صديقه المؤلف الموسيقي فرانشيسكو براتيلا، ثم أصبح واحداً من النصوص الطليعية التي ما تزال مؤثرة في تاريخ الموسيقى.

 

حضارات الماضي السكونية :

بدايةً، يبين لويجي روسولو التغيّر في الذائقة الإنسانية التي تعايش إيقاع المدنية الصناعية وحيويتها، فيكتب: "ولد الضجيج في القرن التاسع عشر مع ابتكار الآلات، وتسيد على الحساسية البشرية. قبل ذلك، كانت الحياة تجري بصمت، وبالأدق بسكون، إذا ما استثنينا صوت العواصف، هطول الأمطار، والزلازل، فإن حضارة الماضي كانت صامتة".

يسترجع المؤلف التجارب الإنسانية البدائية في علاقتها بالصوت، كيف تم إنتاجه بآلات بدائية؟ ثم جرى تحويل الموسيقى إلى المجال القدسي : "تم صبغ الموسيقى بهالة دينية، وطوعت كي تضفي على الطقوس الدينية الغموض. هذا ما جعل الصوت الموسيقي منعزلاً، مستقلاً عن الحياة، مما أعاق تطور الموسيقى، وعزلها في عالم علوي، منفصل عن حيوية الحياة".

الذائقة السماعية الصناعية :

يشيد لويجي روسولو بالغنى والتنوع التي اكتسبته الذائقة البشرية، ويبين أن الفضل الأساس فيه لإبتكار الآلات التي خلقت كل منها ضجيجها الخاص. ثم أتت المعدات الإلكترونية التي مكنت المبدع من إنتاج الصوت، والتعديل عليه، مما حرره من الأفق المحدود للموسيقى الأوركسترالية، التي أصبحت صوتياتها رتيبة، مكرورة، وغير مثيرة للفضول.

في أكثر من موضع من النص، يكرر روسولو إن البقاء ضمن جماليات الصوت الأوركسترالي، مهما كانت المؤلفات الموسيقية معاصرة، سيغدو مستحيلاً : ( لم تعد الموسيقى الأوركسترالية بقادرة على إثارة الدهشة السماعية، أصبحت توحي دوماً بزمن ماضِ، وفقدت ما يثير رغبة الإنصات والفضول)، وهكذا يدعو الموسيقيين المستقبليين للبحث عن تآلفات، وتراكيب صوتية جديدة تتفاعل مع الحساسية والذائقة المعاصرة، وبشكل أدق، يدعو (روسولو) للإستلهام من العالم الصوتي للمدن.

 

" الضجيج = الحياة " :

امتلأت الإنسانية بحيوية الضجيج، وشكلت المعدات الإلكترونية قطيعة مع عالم الماضي الصامت، هذا ما يحاول توضيحه 9روسولو) حين يروي تجربة العبور في المدينة الصناعية المكتظة، حيث كثافة السماع متعة، وتنوع الأصوات يعادل تنوع البصريات : "كل مظاهر الحياة من حولنا مصحوبة بالضجيج، أصبح الضجيج مألوفاً، قادراً أن يمثل حضور الحياة. بينما الصوت الموسيقي، بقي طارئاً على الحياة، عرضياً إذا ما قورن بالضجيج، الصوت الموسيقي مثل وجه أليف للغاية يمر أمام أعيننا. أما الضجيج بسيلانه المستمر الكثيف، سيبقى مصدراً للمفاجآت".

 

وينبه روسولو على ألا تنحصر غاية الأعمال الموسيقية المستقبلية بإعادة إنتاج الضجيج، بل عليها البحث عن الجماليات الصوتية التي تصبح مؤثرة ومستفزة للمشاعر والإنفعالات الإنسانية.

تصنيفات الضجيج الأساسية :

يصنف (روسولو) التجليات الأساسية للضجيج، الأصناف الستة التي يعتبرها الأساس في كل ضجيج، ويقترحها كموضوعات للتجريب الموسيقي والأوركسترالي المستقبلي:

  1. الهدير، الرقيع، صوت الماء المتساقط، صوت الغطس، الخوار.
  2. الصفير، الشخير، النخير.
  3. الوشوشة، الغمغمة، الهمهمة، الغرغرة، الزمجرة.
  4. الطأطأة، الرنين، القعقعة، الدوَس.
  5. صوت آلات البركيشن ( وينتج عبر النقر على شتى أنواع الأدوات سواء المصنوعة من المعدن، الخشب، الجلود، والحجر).
  6. أصوات بشرية وحيوانية (الصياح، النحيب، القهقهة، التنهدات) 

 

توصيات لذائقة بصرية وسمعية مستقبلية:

وأخيراً، يورد "بيان فن الضجيج"، توصيات مرقمة وبسيطة تبين دور المبدع الموسيقي في إبتكار وخلق الجماليات الصوتية الجديدة، وعدم الاستكانة إلى الحدود الضيقة للموسيقى الأوركسترالية، بل المحاولة والتجريب لخلق تنوع صوتي أكثر كثافة بمساعدة المعدات الإلكترونية.

يختم روسولو بالتأكيد على أن غنى الضجيج، ليس إلا تنوع المبتكرات الإنسانية عبر مشوارها، فمع كل آلة ابتكرتها الإنسانية ولد ضجيج مغاير، هذا الإرث المتجدد يمنح الموسيقي فرصة التجدد اللانهائي. الأوركسترا المستقبلية لا يتوجب عليها أن تعيد محاكاة ضجيج الحياة، بل على العكس، يمكن لها إثارة الانفعالات عبر البحث عن تآلفات جديدة في رنين وإيقاعات الضجيج، حينها سيمتلك الموسيقي ليس فقط موسيقية مستقبلية، بل أيضاً، ذائقة بصرية مستقبلية.

 

ولادة الموسيقى الملموسة :

سيكون بيير شافر (1910-1995) من أبرز شخصيات تاريخ الموسيقى، متأثراً ببيان فن الضجيج، كرس أبحاثه الموسيقية للإجابة عن سؤاله المتكرر: هل يمكن معالجة الغنى الصوتي للضجيج، للوصول إلى بنية موسيقية؟ الذي سيودي به لابتكار (الموسيقى الملموسة)، موسيقى معطاة من آلالات (ميكروفون، مسجل صوتي، مكبرات الصوت)، ثم يتم التعامل معها كما الشريط السينمائي في عمليات المونتاج وصولاً إلى العمل الموسيقي.

 

يشرح (فابيان سايلار)، مدرس مادة التأليف الموسيقي:"في الموسيقى المجردة، أي الموسيقى التقليدية الآلاتية، يبدأ العمل الفني من فكرة المؤلف، ثم يكتبها على نوتات، ثم نأتي بالعازفين لأدائها، وهكذا ينتج لدينا الصوت الموسيقي. في الموسيقى الملموسة، الصوت يأتي أولاً، وذلك عبر تسجيل، وهو يوحي لنا بفكرة، بميل لنعمل على الصوت الذي اخترناه، الذي لم يكن سابقاً إلا ضجيجا، ومنذ اخترناه نحاول تحويله إلى صوت موسيقي".

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.