}

الموسيقى أيضاً من أشلاء حلب

نبيل سليمان نبيل سليمان 18 ديسمبر 2016
موسيقى الموسيقى أيضاً من أشلاء حلب
رقصة المولوية
 التراث الموسيقي العربي ذخائر لا تنفد، لا تبدأ بزرياب مثلاً، ولا تنتهي بالشيخ الحلبي محمد الوراق، مثلاً.

ملء هذه الذخائر، أي ملء القرون، تصدح الموسيقى العربية بالدفّ والعود والمصافق والقانون والغورة والشبابة والمزهر والروطة والشقرة والطبل والساق والناي والشيزان والطنبور والموف والكرمج والقيثارة والشاهين والرباب والصنوج والكران والكوس والمزمار والكوبة والزلامي...

في صميم كل آلة من هاته الآلات، بالأحرى في صميم كل صوت ولحن، تقوم سردية لشاعر (ة) ومطرب (ة) وراقص (ة) وعازف (ة) ووشّاح (ة) وباختصار: سيرة مبدع وإبداع. وفي ذلك ما ينادي الكتابة إلى السرد الذي يشتبك فيه التاريخ بالفن بالتوثيق بالبحث بالقصّ. ومن القليل الذي لبّت الكتابة به هذا النداء، وتميّزت في التلبية، هي كتابة الباحث محمد قجة، المرابط في مدينته حلب مكابداً رعب الحرب حتى الآن، وهو الذي عرف بأبحاثه في التراث بعامة، ومنها بخاصة أوراقه التي تبحث في التراث الموسيقي، وتنتظر نهاية لزلزال حلب، أي لزلزال سورية.

الحلبي يؤرخ للموسيقى الأندلسية:

في هذه الأوراق، افتتح الكاتب سردية العَلَم الموسيقي الأكبر زرياب بأخبار مشوقة ورامزة عن المأمون وعلّوَيْه في غوطة دمشق. ثم جاء التعريف بزرياب على النهج التقليدي للتراجم. وما إن تلا انتقال زرياب إلى القيروان فقرطبة، حتى شرعت التأرخة بالإلحاح على السردية التي أخذت تتألق حين تتحدث عن أسرة زرياب الموسيقية وعن إنجازاته العلمية والفنية والتعليمية والاجتماعية. وهكذا يجد القارئ نفسه مأخوذاً بأصوات ابنتي زرياب حمدونة وعلية، وجاريته متعة، وتلميذته مصابيح، فضلاً عن أصوات زرقون وعلّون ومنصور، كما يجد القارئ نفسه مزهواً بابتداع زرياب للوتر الخامس في العود، وللريشة من قوادم النسر، وبتأسيسه للمعهد الموسيقي ولمعهد التجميل ولدار المدنيات التي زهت بمن استقدم زرياب من مغنيات المدينة المنورة.

وكما كان مع زرياب، جاءت سردية ابن قزمان الأندلسي: ولادته ونشأته ومواطنه وأسرته وتعليمه والمفاصل الكبرى لحياته ولعصره. غير أن ما هو أهم قد يكون في النسيج الاجتماعي الفسيفسائي لمدينة قرطبة حيث العرب والبربر والقيسية واليمانية والإسبان المولّدون والإسبان المسيحيون والغلمان الصقالبة. وهنا تبدأ ترجمة ابن قزمان تتميز عن العهد بالترجمة. ويتعزز ذلك بالالتفات إلى ما بين الفصحى السائدة في قرطبة، واللهجة الدارجة وما فيها من مفردات ذات أصل إسباني، وما عرفت من التسكين ومن قلب المخارج. ويرى محمد قجة فيما كان من الفصحى والدارجة في قرطبة، أمراً طبيعياً في تطور اللغات وتفاعلها وتداخلها.

هكذا يظهر صاحب الموشحات (كما وصف المقري ابن قزمان) وإمام الزجالين بالأندلس (كما وصفه ابن سعيد) في هذا الأفق الثقافي والتشكل اللغوي المتميز.

يحلل محمد قجة نماذج من أزجال ابن قزمان من حيث الشكل، ويترجم بعضها من العامية إلى الفصحى، معقباً بالقول: "ويوغل ابن قزمان في الدارجة العامية أكثر في أزجاله الغزلية، وهو في هذه الأزجال ينبو أحياناً بمفرداته، ويستخدم منها ما ينافي الذوق العام". غير أن هذا الذي يأخذه الكاتب على ابن قزمان ـ وعلى سواه من الزجالين الذين يرى أنهم بالغوا في استعمال الدارجة ـ لم يمنعه من أن يقدر لابن قزمان محاولته التعويض عن عسر وصول الموشحة الفصحى إلى دوائر أوسع من الناس.

التصوف والموسيقى:

على نحو مقارب تأتي سردية موشحات ابن عربي، سوى أن السردية هذه المرة تسهب في الترجمة، فيما يبدو أثراً لخبرة محمد قجّة العميقة بموضوعه ـ وهذا ما يسم كتاباته في التراث بعامة ـ واستجابةً لغنى حياة المترجَم له. هكذا لن يكون بوسع القراءة أن تلتقط أنفاسها وهي تقفز من مرسية إلى إشبيلية إلى شتّى مدن الأندلس والمغرب إلى مكة والموصل والقاهرة، وقونيه وبغداد وحلب فدمشق. ففي هذا الفضاء المترامي الذي اصطخبت فيه الصراعات السياسية والفكرية والدينية عاش ابن عربي، وتصوف، وترك أحمالاً من الرسائل والكتب. وقد أعقب هذه الترجمة موجز عن (ابن عربي أديباً وشاعراً) ليفصّل من بعد في (ابن عربي وشّاحاً). وهنا جاءت الإلماعة إلى التوشيح في عصر ابن عربي فيما كتب الوشّاح المتصوف أبو الحسن الششتري والوشاحون الآخرون: ابن قزمان وابن جبير وابن زهر الحفيد (صاحب موشح: أيها الساقي). وقد أحصى محمد قجة لابن عربي في الديوان الكبير 28 موشحاً، وبيّن تمرسه بألوان الإيقاعات فيما نظم على أوزان الخليل، وعلى الأوزان التي ابتدعها الوشاحون الأندلسيون، كما دقق في لغة الشيخ الأكبر الصوفية واستخدامه المفردات المتعلقة بمذهبه في وحدة الوجود والحيرة والشك، عدا عن المعاني الصوفية التي تداولتها موشحاته، وما عانقت من الأفق الإنساني الواسع للشيخ الأكبر.

ربما كانت كتابة محمد قجّة عن (التصوف والموسيقى). من أهم ما كتب عن التراث الموسيقي. وقد دأبتُ منذ قرأت له هذا البحث على تحريضه على أن يتابع في هذه السبيل. ويبدأ هذا البحث بإلماعة عن نشأة الموسيقى وصلتها بخاصة بالطقوس الدينية والسحر. وتلي ذلك إلماعة للأسّ الموسيقي في التراث والدين، من أورنينا الشامية إلى تنتنوت المصرية إلى جرادتي عاد وجرادتي أمية بن أبي الصلت، إلى فتيات بني النجار ومغنيات ومغنّي المدينة، إلى منتدى سكينة ومن عني من الخلفاء وذويهم بالموسيقى، إلى الموسيقى الأندلسية والتأليف الموسيقي العربي. وأعقبت هذا التمهيد تعريفات شتى للتصوف، لينشب السؤال الكبير عن العلاقة بين التصوف والموسيقى. وقد بدأ الجواب بإشارة بروكلمان إلى محاولة المتصوفة أن يحركوا في نفوس الناس الشعور الصوفي، ويصقلوه عن طريق السماع والموسيقى. ومع تعداد قجّة قبل ذلك للآلات الموسيقية العربية، وبعد ذلك لأشهر الفرق الصوفية، يصنف موقف المتصوفة من الموسيقى بين مؤيد ورافض ووسطي. وإذ يعدد أشهر ممثلي كل موقف، يحظى الموقف المؤيد بعناية الكاتب، مما يجلو موقفه هو. فإذا كان القراء المتزهدون قد بالغوا في إنكار ما بين السماع والموسيقى والتصوف، فقد كان الجنيد يسمع، ومثله سري السقطي وذو النون. أما راية الموقف المؤيد فقد انعقدت للفرقة المولوية وزعيمها جلال الدين الرومي الذي أيد السماع والرقص في الأذكار "لأن السماع فيه تيسير للإيقاعات المحببة إلى النفوس، وحركات الرقص في الأذكار فيها تصعيد للرغبات وترويض للنفس ورمز عن الحركات الدورية للأفلاك وعن الروح الثملة بالعشق".

يمثل محمد قجة للتفاعل الصوفي مع الموسيقى بما نُقل من "أن بعضهم كان يتقلب على النار عند السماع، ولا يحسّ بها. وَنُقِلَ أن بعض الصوفية ظهر منه وجدٌ عند السماع فأخذ شمعة فجعلها في عينه. قال الناقل: قربت من عينه، أنظر، فرأيت ناراً أو نوراً يخرج من عينيه يرد نار الشمعة. وحُكي عن بعضهم أنه كان إذا وُجِدَ عند السماع ارتفع من الأرض في الهواء أذرعاً يمر ويجيء فيه". وقد تابع الكاتب بخاصة ما قاله في السماع الشيخ أبو طالب المكي والشيخ أبو بكر الكتاني. ثم عدّدَ الفرق الصوفية التي تستخدم السماع، وفصّل فيما له منها علاقة بحلب الشهباء، وهي:

 

 

الفرق الموسيقية الصوفية الحلبية:

* المولوية: وكانت لها في حلب في باب الفرج التكية المولوية، وهي تستخدم المزامير والطبول وآلات التخت الشرقي من ناي ودف وصنوج ومزهر، ولا تنسى الموشحات والقدود مثل (يا شادي الألحان ـ يا من لعبت به الشمول)...

* الطريقة الشاذلية اليشرطية: ومؤسسها تونسي الأصل، وهي لا تستخدم الآلات الموسيقية، وتكتفي بالإيقاعات الشفوية.

* الطريقة الرفاعية: ومن حلقاتها في حلب الزاوية الكيالية، وهي تستخدم بعض الآلات الموسيقية والإيقاعية.

 * الطريقة القادرية: نسبة إلى عبد القادر الجيلاني. ومنها في حلب الزاوية الهلالية القائمة منذ 500 سنة. وهي لا تستخدم الآلات الموسيقية، بل تعتمد الإيقاعات والأوزان والنغمات والسماع. ويروي محمد قجة حضوره لحلقة ذكر هلالية، واستعانته بما كتب عنها بشيخها جمال الدين الهلالي وبكبير المنشدين محمد مسعود خياطة. كما يعدد أبرز شيوخ الإنشاد فيها، والفصول السبعة الأساسية وفصولها الاستثنائية.

حلب: سيدة الموشحات والقدود والطرب:

 لقد خصّ قجة بالقول مدينته حلب، حين أرّخ لشطرٍ آخر من التراث الموسيقي، هو الشطر النهضوي الحلبي الذي تتلامع فيه أسماء فرنسيس المراش وعبد الرحمن الكواكبي وميخائيل الصقال و... ففي هذا السياق جاء البحث المقارن بين الموشح الأندلسي والموشح الحلبي. وقد عبّر هذا البحث عن تولّه الكاتب بمدينته "سيدة الموشحات في المشرق بعد سقوط غرناطة" كما قال. ومن تطوير حلب للموشح الأندلسي عدّدَ ما جاءت به من نصوص جديدة في إيقاعات جديدة، وما طورت من القدّ في ضوء الموشح (يا غصن نقاً مكلّلاً بالذهب)، وتلحينها لنصوص أندلسية (أيها الساقي إليك المشتكى) وتطويرها للنوبة الأندلسية، وتطويرها لأداء نصوص ملحنة في الأندلس، وأخيراً: إدخال رقص السماح في أداء الموشح. أما صاحب هذا الإنجاز الأخير فهو عمر البطش الذي خصّه محمد قجة بشطر وجيز من سرديته للتراث الموسيقي، وجعله فيها يقدم نفسه بضمير المتكلم، حتى ليذكر تاريخ وفاته ومكانها. وهذا ما سيتكرر مع الشيخ على الدرويش وماريانا مراش ومصطفى البَشَنْك وأبو الوفا الرفاعي والشيخ محمد الوراق. ولعل الكاتب قد شاء في هذه السردية التي غلب فيها القصّ على التأرخة، أن ييسّر تقديم أعلام التراث الموسيقي الحلبي لمختلف الأجيال والمستويات، ومن ذلك مما يتصل بالتصوف والموسيقى ما يلي على لسان أبو الوفا الرفاعي (1761 ـ 1845): "أخذت الفن والإنشاد في حلقات الذكر في تكيتنا الرفاعية والزوايا المتعددة في حلب، وكان صديقي الشيخ  مصطفى البَشَنْك إمام الفن والطرب والإنشاد وكان زميلي كذلك في حلقات الذكر ورقص السماح في الزاوية الهلالية". وكذلك هو قول الشيخ محمد الوراق (1828 ـ 1910) أنه خمّس قصيدة "لشيخنا المرسي أبو العباس دفين الإسكندرية" وأنه كان يحيي ليالي الطرب، ويتنقل بين الألحان والأنغام والمقامات والأصوات. ويعدد الشيخ محمد الوراق في سرديته من الموشحات التي يعتز بها موشح (العواذل ليه تلومني) كما يذكر أنه كان يسحر بهذا القد: (قم يا أمير الغزلان).

في خريف 2008 شاركت وجمال الغيطاني ومحمد قجة في ندوة نظمتها جامعة حلب. وذات ليلة بكّر إليها البرد، جمعنا محمد قجة في منزله: جمال وأنا مع حسان تنّازي وظافر الجسري: الأول من أشهر عازفي القانون، والثاني هو من أحيا بصوته صوت محمد عبد الوهاب، كما أحياه صفوان بهلوان. وهذا الثنائي الذي يبذّ المحترفين – مثل كثيرين وكثيرات في حلب – يحيي ليالي الطرب الحلبية في بيوت الأصدقاء لوجه الصداقة والفن. وقد جعلني وجمال فنهما نقتعد الأرض أمامهما في لحظة ساحرة، وإنه لسحر حلب وإبداعها كما هتف جمال، وهو الخبير في التراث الموسيقي. إنها حلب التي تتوسط العقد النظيم للتراث الموسيقي العربي، عبر التاريخ الذي ينادي لها المستقبل أيضاً، مهما يكن من أمر هذا النزيف الذي جعل سورية كلها، وبخاصة حلب كأنما هي أشلاء. لكنها ليست المرة الأولى، ولن تكون الأخيرة، التي تنفخ فيها حلب الروح في الأشلاء، فإذا بقيامتها تقوم.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.