}

مسرحية "عاديات" لخليل نصيرات: حياة بعد موت

ختام السيد 2 ديسمبر 2016
في حواراتنا المتقطعة، سألته: "يا خليل لماذا تذهب بعيداً في زاوية التَّشكيكْ؟"، أجاب: "لأنني أحمل وجهة نظر خاصة بي، تجعلني أقْفُ على مسافة الضد من جميع الأطراف المتصارعة". أعدت السؤال: "أنت مع مَنْ وضدّ مَنْ؟" أجابني بالكثير من الوضوح: "أنا مع الوقوف ضد العدو الوحيد للأمة، الذي يحتل فلسطين، ويقتل شعبها، على مرأى من العالم بأسره، ويحتل الوطن العربي ويهدد أمنه، فالبندقية يجب أن توجه نحو هذا العدو لا أن تغيّر فوهتها باتجاه صدورنا".

من هذا الأفق الضيق، ومن أمكنة أطّرها الخوف والموت والالتباس، ينطلق المخرج والمؤلف الأردني خليل نصيرات، وعملاً بمقولة أوغستو بول (Augusto boal) "إن كل مسرح هو سياسي بالضرورة"، إلى تقديم رؤيته الفنية مجترحاً الحياة لشخصياته التي استُنزفت من الحرب والجوع والاختلاف والتناقضات التي نشأت، جراء هذا الصراع المحموم، بغية تأثيث بصيص أمل لحياة محتملة.

الزمان: سورية التي تعد الدقائق بعدد قطرات دماء أبنائها.
المكان: إصطبل للخيول، كان الشاهد على قصص الألم والبوح الموجع والمخيف في آن، لنساء ضائعات وتائهات وهائمات، يمتطين صهوة الانتظار لزوج قتل، وأخ فقد، وحبيب رهن الاعتقال أو الموت غرقاً في بحار الله.
إنّهُ الصّهيل الموجع لعذابات النساء في إصطبل كانت يوماً تسكنه الخيول العربية الأصيلة، ثم احتلته الجرذان التي جاءت من مختلف البلدان، لتتجاور في الحيز المكاني مع امرأة عجوز فقدت عقلها وزوجها وأولادها. وظلت تنتظرهم على ضفاف "نهر العاصي" علّه يأتيها بهم جثثاً أو أحياء.

إلى هُنا لا تنتهي الحكاية، بل تبدأ؛ ضمن فضاء مسرحي أجاد نصيرات الاشتغال على تفاصيله، بأن جعل لكل شخصية وجهة نظرها، وكأنه في ذلك يطرح برؤية "ديالكتيكية" صرفة، وعبر استخدام الحوارات العميقة لشخصياته كمحاولة للوصول إلى الحقيقة.

يقع الإصطبل بين البساتين الممتدة حتى نهر العاصي في مدينة "حمص" السورية - أصبح بعد الحرب والقصف والدمار مكاناً مهجوراً تعيث فيه الجرذان التائهة، وتغطي ترابه بقايا هشة لياسمين كان مخضوضراً وطرياً.
هُنا، وتحديداً في مساحة الإصطبل، تدور الأحداث، تتحرك الممثلات "النّسوة" بكثير من الهيبة على خشبة المسرح، يحدقن في العيون التي هالها هذا التجسيد الدقيق والعميق لمأساة اعتادوا فصولها على شاشات التلفاز وصفحات الجرائد. لتغرق لاحقاً، في المعتاد اليومي.

في الإصطبل، أشياء كثيرة تحكي سيرة الحياة في تلك البقعة من الروح، وفي الإصطبل يعلو غبار الخراب الذي رسم ملامحه الكئيبة على الجدران والعيون والوجوه الضائعة. وفي الإصطبل تفوح من الزوايا رائحة روث خيول كانت عاديات جامحات. وفي الإصطبل أيضاً، يُسمعُ نشيجُ الأسى، وتعلو همهمة الأرواح التائهة لنسوة قُدر لهُنَّ أن يلتقين فيه. حيث المدينة "حمص" أصبحت مدمرة، وكل الأمكنة باتت منافي، وكل واحدة فيهنَّ تعبر من موت إلى موت في هذا المكان الضيق حدَّ القبر، والواسع حدّ الوطن، كما يصفهُ المؤلف.


بداية الحكاية مع "أمّ فارس" التي تنتظر زوجها وأولادها الغائبين عندما يشتد القصف فوق رأسها عند "نهر العاصي"، فتهرب من الخوف إلى الاحتماء في هذا المكان. تجلس في ركن معتم، تحاور فئران الإصطبل. تقول للجرذ الكبير: "أأحدّثك عنهم؟؟ لعلّ الحديث يسدّ جوعك، ويطفئ ظمأي، أو لعلّ ذكرهم يحميني من هذا الخوف. لو أنّ (أبا فارس) يستمع إليّ الآن لقال عنّي مجنونة، تغنّي للفئران، وتقصّ عليهم قصّتنا".
تستدرك حديثها بضحك ممزوج بحسرة الفقد والغيّاب: "لا لا يا (أبا فارس)، قصّتُنا لن يفهمها جرذ، جاء من آخر الدنيا، واختبأ في إصطبل الحاج علي".

تنتبه أمّ فارس للدهشة التي بدت ظاهرة على الجُرذ الكبير، وتستشعر فضوله، فتعطف على تلك الدهشة بالقول: "الحاج علي أبو إبراهيم كان فارساً ولا كلّ الفرسان، أجود خيوله (عاصف)، هل ترى هذا الإصطبل الذي نسكن فيه أنا وأنتَ الآن؟ كان مليئاً بالخيول العربيّة الأصيلة. سبحان مغيّر الأحوال! بيت (عاصف) يسكنه جرذ وضيع وامرأة ضائعة، تغرف له قصصاً من رماد السنين".

في لحظة تجلٍّ بينما تتابع أمّ فارس سرد حكايتها على جرذان الإصطبل، تسمع خطوات متعثرة لأمرأة أخرى تدعى "ياسمين" كانت في طريقها هي وابنتها "سما" للجوء إلى "أنطاكيا" بعد أن هدمت البراميل المتفجرة بيتها في "حي الخالدية"، وبقيت وحيدة، إذ التحق ولداها بصفوف الحرب، فـ"خالد" التحق بقوات النظام و"رائد" التحق بصفوف المعارضة.

في الإصطبل لم تبق النسوة الثلاث وحدهنَّ طويلاً، فسرعان ما انضمت إليهن "أم عبدو" التي كانت تعمل داية قبل الحرب، وامتهنت في ما بعد مهنة الخطّابة؛ فتُحضر الفتيات من "حلب" وتأخذهن إلى "مخيم الزعتري" على الحدود السورية الأردنية. وهناك تسعى لتزويجهن بأثرياء عرب، تقدم خدمات مقابل خدمات، وتعيش على هامش أفراح الآخرين المزيفة.

عندما يشتد القصف أكثر وأكثر تلوذ "أم البراء" - وهي زوجة أحد القياديين الإرهابيين - بالإصطبل بعد أن كانت تنوي الذهاب إلى "حماة "عن طريق العاصي لتنفيذ عملية استشهادية، وبصحبتها "ماري"، الرّاهبة من دير الآباء اليسوعيين في حي بستان الديوان في مدينة "حمص"، التي كان في نيتها الذهاب إلى "العاصي" لغسل روحها وجسدها من الخطايا؛ إذ تعرضت إلى حالة اغتصاب بشعة من مجموعة من الكلاب البشرية الضالة.

في "العاديات"، صوت الصهيل الموجع يطغى على صوت القنابل والبراميل المتفجرة ورشقات الرصاص وانفجارات هنا وانهيارات هناك، ودوي طائرة تخرق جدار الصمت إلى قذيفة "كاتيوشا" لا يُعلم مصدرها، ومنْ مُطْلِقهَا، وعلى منْ؟ وما الجدوى من إِطلاقها على أحياء باتت "مبانيها" كالأطلال من بعد عين؟


في هذا المكان الضيق حدَّ القبر.. تفترق وتلتقي النّسوة المجتمعات. فهذه لها ولدان أحدهما يقاتل مع النظام، بينما الثاني اختار الانضمام إلى المعارضة. وتلك فقدتهم جميعاً، وثالثة تسرق فرح الطفولة البرئية لبنات بلدها القاصرات الجميلات، بتقديمهن ولائم جنسية "باذخة" لرجال موتورين، نهمين، بشعين. ورابعة لا تعرف من الدنيا سوى زوجها "أبو البراء" الذي أهداها حزاماً ناسفاً لتلتقي به في الجنة، وخامسة كانت في ما مضى تظن أنها ناسكة لا يَقْربها إنْسيّ، لتصبح هي الوليمة لعملية اغتصابٍ جماعية.

إنها الحكاية، ولا شيء غير الحكاية المؤلمة الصادمة التي يؤطرها نصيرات بقوله:
"ليس للماء رماد..
هُنَّ فقط، أَسرجنَ وجعهنَّ على ضفة النهر وغفونَ إلى حين
حين من السنوات ويستيقظ النهر ليطلق الوجعَ جياداً سوداء
يهربن بها من رماد الحرائق..
تبطئ الجياد أو تسرع، لا يهم؛
لأنها تعرف من أي قميص تفوح رائحة الياسمين".

إنَّ نصيرات في نصه المسرحي الإبداعي "العاديات" يرمي إلى خنقنا بدخان الموت المتفجر في سورية، وبصمتنا على المحنة الرّهيبة، وكأننا في انتظار أن يبني "الدوري" أعشاشه بين الرُّكام. أو كمن يظنُّ أن تمطر عليه الغيمات قصائد حُبٍّ وسلام.

هي محاكمة أخلاقية في نص امتلأ بالتفاصيل، لنساء كان قدرهنَّ أن يجتمعن في مكان واحد، وما لبثنَ إلا أن متنَ فيه، وكأنهن لم يأخذن حقهنَّ من الموت. حيث يختتم الموت أوج طُغيانه بانفجار وحريق وحزامٍ ناسف، تطير معه أحلام النّساء بالوصول إلى نهر "العاصي" للحصول على قطرة ماء.

أحلام باهظة التكاليف عاشتها تلك النّسوة، في زمن موحل، وواقع سقيم. القتلة يتغيرون، يتبادلون المقاعد على فوهة المدفعية، ويظل دم الضحية التي لن تُسأل يوماً عن قاتلها، أو لماذا قَتلها؟ سيظل دمها مسفوحاً على الطرقات حتى يزهر الياسمين، أو تكتب تلك الضحايا كلمتها للتاريخ بسخرية مضجرة حين تقول: "عندما يضجر الملك يتذكر أن رعيته مسلية ومليئة بالطاقات الترفيهية".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.