}

شوقي بزيع: أناشد المثقفين أن يكونوا بصف ثورة اللبنانيين

دارين حوماني دارين حوماني 22 يناير 2020
حوارات شوقي بزيع: أناشد المثقفين أن يكونوا بصف ثورة اللبنانيين
"الشعر بحدّ ذاته هو فعل حب باللغة وبالعالم وبالأشياء"
في المجلّد الأول من أعمال الشاعر شوقي بزيع (لبنان) كتبت الناقدة زهيدة درويش جبور: "لو أردنا أن نصف تجربة شوقي بزيع الإبداعية بكلمة واحدة لما وجدنا أفضل من النهر، فحركته متجدّدة دائمة وماؤه واحد لا يتغير". بزيع كان افتتح أولى قصائده المنشورة عام 1978 بالموت: "أفتتح الآن موتي وأدخل في موسم النار"، لكن هل كان يعرف صاحب افتتاحية الشعر بالموت أنه سيكون واحداً من أبرز رواد الحداثة الشعرية ومواسمها المتجدّدة بعدما ضبضب أوزانه الشعرية وانطلق كالنهر باحثاً بحريّة عن ذاته والمرأة والوطن وأخلص لهم منذ بداياته حتى الآن مضيفاً إليهم لعبة الزمن والوقت والموت وبعلاقة شديدة الحساسية مع الأمكنة.

بزيع الحائز على جائزة العويس الثقافية في عام 2017 وعلى جائزة شاعر عكاظ في عام 2010 استطاع بعد سبعة عشر ديواناً أن يقدّم للمكتبة العربية أشجاراً من الإبداع بلغة غنية بالرموز والصور التي اشتغل عليها بفعل احتكاكه بالوجوه المختلفة والعوالم المتعددة.
هنا حوار معه:

(*) إذا أردنا أن نرسم خطاً بيانياً لقصائدك منذ ولادتها، هل يمكن أن نتحدث عن تقسيم إلى محطات، وما هي مسوّغات ذلك؟
- إن أي تجربة شعرية لا بد أن تكون عرضة لتحوّلات مختلفة تفرضها طبيعة تطور الشاعر ونضجه وتغيّرات الواقع ورفد هذه التجربة بقراءات إضافية، فهذا يستتبع تلقائياً تحوّلات في التجربة وليس بالضرورة أن تتقدّم تحوّلات الشاعر بشكل طردي، قد يتراجع قليلاً ويتقدّم قليلاً، ولكن بدون شك أن المحاولات الأولى تكون عادة مرتبكة ولا يكون الشاعر قد بلور بعد عالمه وأسلوبه، وهناك شيء يضاف إلى هذه التجربة يوماً بيوم لأن الشعر لا يولد فقط من احتكاك اللغة ببعضها بل باحتكاك اللغة بالعالم والأشياء.

أنا حذفت معظم بواكيري الشعرية. بدأت بالكتابة عام 1971 عندما كنت طالباً في الجامعة اللبنانية، وكنت أكتب قصيدة الشطرين متتلمذاً على يد مجموعة من النقاد والشعراء الكبار أمثال أدونيس ويمنى العيد وخليل حاوي، لكن معظم الكتابات الأولى حذفتها من مجموعتي "عناوين أولى لوطن مقتول"، وظلّت تجربتي تتراوح بين حدّي الكتابة عن مسقط الرأس والمقاومة والوطن وبين الكتابة عن المرأة، وكانت القصيدة تتغذّى من مكان له علاقة بالقضايا الكبرى لكن شعرت فجأة أنني أمام مفترق طرق، وفعلاً صمتُّ لخمس سنوات كاملة بين العامين 1985 و1990 وعندما عدت إلى الكتابة كتبت قصيدة مفصلية بالنسبة لي هي "مرثية الغبار" صدرت فيما بعد مع قصائد أخرى في ديوان مستقل حصل لاحقاً على جائزة عكاظ للشعر العربي، لكن الأهم في الموضوع ليس الجائزة بل أنها شكّلت نقلة بالنسبة لي، لأن قصيدتي ذهبت في منحى له علاقة بطرح أسئلة على الذات وعلى الزمن، خاصة أنني كنت في الأربعين من العمر وهذا يستدعي في ذلك المفصل الزمني حواراً عميقاً وشعوراً ما ببداية فوات الأوان. أعتقد أن هذا هو المفصل الأساسي في بداية التسعينيات مع هذا الديوان، وفيما بعد شكّلت بعض المجموعات محطات أساسية في شعري مثل "قمصان يوسف" و"سراب المثنى".


الوطن هو اللغة
(*) جغرافيا الداخل، جغرافيا الوطن، جغرافيا الزمن.. هل يمكن اعتبار هذه الثلاثية بمثابة تشكيل البناء الداخلي المعماري لشوقي بزيع؟
- صحيح.. حتى في مسوّغات جائزة العويس هناك إشارة إلى هذا الموضوع، الحديث عن الذات وعن الوطن وعن الزمن. الوطن أقصد به المكان خارج الشعارات وليس تنصّلاً من الوطن، لكن يبدو أن الوطن يتجسّد في الأشياء البسيطة وليس في النشيد والعلم، الوطن هو البيت مسقط الرأس، الشجرة، الينبوع، والوطن هو اللغة، إنها وطن بديل، وأعتقد أن معظم الذين فقدوا أوطانهم الأصلية وجدوا في اللغة عزاءً شافياً، وساعدت الكثيرين على التخفيف من وطأة غربتهم، فهذه الموضوعات أساسية في شعري بدءاً من "مرثية الغبار" لأنها حوار بيني وبين الطفل الذي كنته في مكان مأهول بالموت والخراب وكل واحد يصرخ بالآخر أين أنت وما الذي فعلته بي وأين الأحلام التي وعدتني بتحقيقها؟ لذلك هي قصيدة تمزّق داخلي في الأربعين.

دائماً في كل دواويني مسألة الزمن ملحّة جداً استُدعيت بناءً على هذا التطوّر. المشكلة أقولها في قصيدة لي بعنوان "كأنني بحر وأمواجي ورائي" وهي مهداة إلى عاصي الرحباني "أنه كلما زاد اشتهائي ازداد نقصاني"، وفعلاً حين نتقدّم في السن يتعرّض الجسد لخيبات ونكسات، يحاول الشاعر أن يؤخّر الإستحقاقات نتيجة هذا الشغف بالحياة، أن يؤخّر الشيخوخة ومع ذلك فالمساحات التي تبلغها الروح أوسع بكثير من متناول الجسد، هذا التباين يحاول الفن أن يحلّ إشكاليته لكي يخفّف من وطأة الموت.

الانتفاضة سببت فرحا استثنائياً


(*)
تعيش بيروت وأخواتها في لبنان حالياً حراكاً شعبياً ضد الطبقة السياسية.. كيف ينظر شوقي بزيع إلى ذلك، وهل ترى أن هذا الجيل قد يتمكن من خلق حركة ثورية على غرار الحركات القومية واليسارية والقضايا الكبرى التي عاشها جيلكم وتشتّتت إلى حدّ ما حالياً؟
- أنا من الذين يعيشون هذا الفرح الإستثنائي الذي سبّبته انتفاضة اللبنانيين والتي قد تأخذ طريقها لتصبح ثورة متكاملة لأنها تحتاج إلى رؤية متكاملة ولأن تفرز قياداتها. هذه الثورة عجيبة لأنه ليس لها ملهمون بالمعنى الفردي وليست لها قيادات، وولدت من شرطين هما سفالة هذه الطبقة السياسية وفسادها المستشري وتعاملها مع الناس بوصفهم قطعاناً أو بلوكات عمياء ملحقة بهذا الزعيم الطائفي أو ذاك، ومن أمر آخر له علاقة بهذا العصر الذي لم تعد الأمور فيه تحتاج إلى المساحات الزمنية الواسعة التي كانت تحتاجها في أيامنا. أنت تعلمين بأن ما يحصل هو نتيجة ما يعانيه هذا الجيل من اليتم والفراغ والخوف على مصيره.

يرى هذا الجيل أن وطنه يعوم على بحيرات من النفايات بعد أن كان يعوم على بحيرات من القامات الإبداعية وهو مزوّد بوسائل معرفية جديدة لا يحتاج إلى فلاسفة ومؤسّسين فكريين كما كانت الثورة الفرنسية ولذلك هو يختلف عنا كثيراً، ونشعر نحن الذين نذهب إلى الحراك كأننا نتعلم من أبنائنا، كأننا نحاول أن نستلحق أنفسنا كي نرى كيف يصنعون تاريخهم. فعلاً هم مفاجئون، ورغم ذلك فلست متفائلاً كثيراً بأن هناك حلاً على المستوى القريب لأن هذا النظام الذي نعيش في ظله لعلّه من أكثر الأنظمة استعصاءً على التغيير، فمنذ مئتي عام، منذ عامية إنطلياس الشهيرة عام 1840 مروراً بثورة طانيوس شاهين عام 1885 حتى الحرب الأهلية عام 1975، دائماً كل حراك طبقي أو مطلبي أو شعبي يتحوّل بتواطؤ وتآمر من الفئات الحاكمة إلى صراع طائفي، وما يمكن أن نحصل عليه الآن هو جراحة تجميلية لهذا الواقع القائم، ولكن أعتقد بأن ما يحدث الآن غير مسبوق ويُبنى عليه، والجميل أنه حراك بريء ولشدّة براءته لا يتقبّل أي أبوّة من أحد، وأتمنى أن تبقى هذه الثورة بنظافتها وبراءتها وغير دموية.

(*) هل توافق معي على عدم وجود حضور حقيقي للمثقفين في هذا الحراك كما ينبغي أن يكون؟ 
- أكيد، لأن ما يحصل هو كما حصل في الربيع العربي بصرف النظر عن إجهاضه فيما بعد، لأنها انتفاضات غير مكتملة العناصر كما قلت، وإضافة إلى مواقع التواصل والإنترنت تحتاج الثورات أيضاً إلى تغيير في العقلية لكي لا يبقى هذا الخبز من ذلك العجين، ويجب أن تتغيّر الأسس التي تُبنى عليها الثورات، والثورات في ظلّ تعطيل العقل تحت وطأة استحواذ الأصوليات المستشري وقوى التكفير ستنتج أنظمة موازية ومشابهة. أنا ضد الذين يقولون إنه يجب أن ننتظر حدوث نقلة في العقل العربي كي نثور، وأقول بأن الثورة مثل الشعر والفنون الأخرى، فحين نشرع في الكتابة نقبل على أرض مجهولة لكن فيما نكتب نتعلم ونكتشف أنفسنا، وهذا ما تقوله الكاتبة الفرنسية مارغريت دوراس، إضافة إلى أن قسماً من المثقفين خانوا الدور المنوط بهم، وأنا أؤمن مع غرامشي بأن للمثقف دوراً عضوياً في التغيير الإجتماعي وبأن عليه أن يكون ضمير شعبه. قسم من المثقفين أصبحوا في عهدة السلطة، أصبحوا مستكتبين عند السلاطين طمعاً في الحصول على مغانم، والقسم الآخر يعاني من مشاكل صحية واكتهل، والقسم الثالث موجود في قلب الحراك المدني، أنا مع أن يتوحّد المثقفون الديمقراطيون وأن ينخرطوا في قلب هذا الصراع من أجل التغيير، وأعتقد أني في صدد دعوة إلى شيء مماثل، وأستطيع أن أناشد من خلال هذا اللقاء الكتّاب والمثقفين العرب من أجل أن يكونوا أيضاً في صف ثورة اللبنانيين بوسائلهم المختلفة عن طريق البيانات وعن طريق النصوص وعن طريق التضامن الإعلامي على شبكات التواصل الاجتماعي وعن طريق وقفات واعتصامات معينة، هم يختارون الطريقة التي يؤيدون فيها هذا الحراك.

(*) هذا الحراك هو ابن الثورات التي تستولد دائماً قصائد ينشدها الثائرون، فهل لا يزال الأدب قادراً على التأثير وشحن العواطف للوصول إلى التغيير؟ 
- نعرف أن الأدب والشعر على وجه الخصوص هو جزء من منظومة البلاط في التاريخ العربي، ولكن الأمور تغيّرت مع الوقت، ولم يعد هناك إملاء على الشاعر، ولم تعد وظيفة الشعر التحريض المباشر والشعارات، لا يعني أبداً أن يعفي الشاعر نفسه من مهمة التغيير لكن هذا يتمّ بشروط ومستويات مختلفة، يتم عبر تغيير الذائقة، إنتاج لغة ومعرفة مختلفة بالواقع، عبر دفع البشر الذين يقرأون النصوص ويتفاعلون معها لأن يطرحوا على أنفسهم أسئلة مختلفة إلى أن يذهبوا إلى مناطق أكثر قلقاً، وهذا يتطلّب زمناً لا يتساوى مع الزمن السياسي الذي يمكن أن تحدث فيه انقلابات بين حين وآخر، لكن لا يمكن أن يحدث هذا الانقلاب على المستوى الجمالي أو المعرفي بين ليلة وضحاها، وهذا لا يلغي إمكانية أن ينتج الشاعر قصائد وشعارات للمظاهرات تستخدم بشكل مؤقت دون أن تكون في صلب تجربته الشعرية.

هذا ما فعله بابلو نيرودا في تشيلي، وما فعله أراغون وبول إيلوار وناظم حكمت، لم يكن أفضل نتاجهم لكن استخدموه كي يواجهوا عدواً خارجياً أو داخلياً. أذكر في ثورات الطلاب في السبعينيات كنت أكتب شعارات للمظاهرات ومنها شعار "يا حرية" وهو شعار شهير جداً كان يهتف في المظاهرات آنذاك، وأعتقد أن الرحابنة تلقّفوا ذلك الشعار عبر الأغنية الشهيرة لفيروز ومطلعها "يا حرية نحنا رجالك بدنا نمنع اغتيالك"، وكنا نجتمع في مظاهرات طيارة كل خمسة أشخاص يهتفون يا حرية ويهربون قبل أن تلتقطهم الشرطة، ونستطيع أن نفعل ذلك لكن ليس على الفن أن يذهب في هذه الوجهة بالمعنى العميق الإستراتيجي للكلمة، فهو يتحرّك في مكان آخر.

الشعر نوع من السيرة الذاتية
(*) الجنوب اللبناني المفتوح على الهم الإنساني ثابت في دواوينك، فهل يمكن أن نقول إن الشعر حكى حكاية لبنان والأمة العربية كما حكتها الرواية والسينما والفنون الأخرى؟
- الشعر هو نوع من السيرة الذاتية، لا أستطيع أن أرى نصاً شعرياً ليس فيه خيط سردي ما، لذلك ترين لدى كبار شعراء العالم هذا الخيط. ترينه مثلاً عند ريتسوس حيث تلاحظين أن معظم قصائده قصص قصيرة، وكذلك لدى ترانسترومر. في الشعر الجاهلي تستطيعين أن تقرئي حياة الجاهليين، نظام قيمهم وتفاصيل عيشهم، الأماكن التي عاشوا فيها، جغرافيا الصحراء العربية، إلى حد أنه حين كانوا يفتشون قبل سنوات عن المكان الذي أقيم فيه سوق عكاظ في الجاهلية لجأوا إلى قصائد للنابغة الذبياني وللخنساء وللأعشى لكي يحدّدوا المكان، وأنت تعرفين أن معلقة إمرئ القيس تحكي كثيراً عن أسماء أماكن، وهناك شعراء في أشعارهم كمّ من الأماكن بحيث كادت تصبح أطلساً لجغرافيات بلادهم.

(*) في مداخلة لك مؤخراً ضمن مهرجان أصيلة بالمغرب تقول "صحيح أنه زمن الرواية لكنه أيضاً زمن الشعر بامتياز"، وتنتقد في الوقت نفسه التأثير السلبي للوسائط الحديثة وما تُفرغه من كميات هائلة من الشعر واصفاً إياه بـ"الغثاء الهائل".. هل تعتقد أن تمزيق القميص اللغوي المحكوم بالقافية تسبّب في تكاثر نصوص غير جيدة تحت ما يسمى "شعر"، أم أنها حالة متلازمة للشعر وكل الفنون الأخرى التي يحكم عليها الزمن ويغربلها لاحقاً؟
- فيما يخص الرواية والشعر أنا من القائلين إنه إن كان زمن الرواية فهذا أمر مفهوم، لأن البشرية تعبت كثيراً من حروب طاحنة وربما تحتاج إلى استراحة توفّرها لها الرواية. فالرواية تسمح لقارئها بأن يستقيل من حياته ويضعها جانباً وأن يعيش في حيوات متخيّلة لكن ليس بالضرورة أن يكون ازدهار الرواية على حساب الشعر، فهذا الفن استطاع أن ينجو بنفسه عبر كل العصور وأن يكون فناً أبدياً، وهو موجود في تعبيراتنا المختلفة كما هو موجود في كل الفنون وإذا سحبت الشعر من كل الفنون تصبح بلا معنى.

وعن مواقع التواصل هي وكل شيء حمالة أوجه مثل أي حقيقة وأنت تستطيعين أن تأخذي منها الجانب الذي تريدينه. قرأت ما قيل في أوروبا من أن هذه الوسائل هي شرّ مستطير لأنها تساوي بين صعاليك الحانات الصغيرين وبين الحائزين على جائزة نوبل وأنها تعطيهم فرصاً متساوية، ولكن هناك جانب آخر أنه في داخل كل إنسان يوجد شاعر ما مختبىء، وكنا نقول إن الشعر يشبه المياه الجوفية موجودة على عمق ما من باطن الروح، هناك شعراء محترفون مواهبهم عالية، فهي موجودة على سطح الأرض، وهناك شعراء يحتاجون إلى حفر مئات الأمتار لكي يحصلوا على شاعرياتهم، وجاء الفيسبوك وتويتر والمواقع الأخرى لكي ينقل هذه الفرضيّات إلى حقيقة ملموسة، وليس من قبيل الصدفة أن نجد أناساً لا تعرف فيهم أي بذرة من بذور الموهبة ثم فجأة نكتشف أن لديهم الكثير لكي يقولوه، وطبعاً ككل شيء يحمل وجهه السلبي هؤلاء لم يكتفوا بأن يعبرّوا عن أنفسهم لكنهم فجأة كرّسوا نفسهم شعراء ووجدوا من يصفّق لهم وأصدروا هذه النصوص في كتب مستقلة وفعلاً اختلط الحابل بالنابل. ولا شك أن قصيدة النثر أوهمت بسهولة كتابتها أنه لم يعد هناك حائط على الشاعر أن يتسلّقه حتى يدخل إلى الحديقة الحقيقية للكتابة ولكن ثمة من قال بأن عدم وجود حائط هو أصعب من وجوده لأن هناك حائطاً وهمياً يجب أن يرتفع أكثر مما ينبغي لكي لا يتسلّقه أيّ كان، وسبق لإليوت أن قال إن قصيدة النثر أصعب من قصيدة الوزن لأنه في  قصيدة الوزن يتلطّى الشاعر بالموهبة الضحلة وراء القوافي والأوزان والتناظرات التعبيرية، ولكنه يتقدّم إلى قصيدة النثر أعزل من كل شيء إلا من مخيّلة وحشية بالمعنى الإيجابي، وأن يكون ممتلكاً لموهبة عالية كي يستطيع أن يعوّض ما يخسره في الجانب الشكلي، ولكن في أي حال لكي نحصل على شاعر كبير واحد سنرى حوله آلاف النظامين الذين يذهبون مع النسيان في قصيدة الوزن وكذلك الأمر في قصيدة النثر.

البعد السردي وحضور الحب
(*) البعد السردي حاضر في أكثر من مكان في شعرك ما يحيلنا إلى التفكير بشوقي بزيع روائياً إن أراد.. هل فكرت في الولوج إلى عالم الرواية وكيف ترى نزوح الشعراء الذي نلحظه باستمرار نحو الرواية؟
- أسمع آراء عديدة منهم أدونيس الذي يقول لي دائماً لماذا لا تكتب رواية، وأنسي الحاج كان رأيه الشيء نفسه. أنا قارىء رواية بامتياز وبالواقع هي تغني تجربتي كثيراً، أنت تعلمين كشاعرة أن الشاعر لا يكتفي بقراءة الشعر لوحده وعليه أن يقرأ كل أصناف الفنون لأنها تساعد في توسيع مخيلته لكن أرى أن الحياة أضيق من أن تُقسم بين فنّين بخطورة الرواية والشعر.

نحن نشعر بمرارة أن هذه الحياة ذات مساحة محدودة لا تتّسع لأمرين لكي نعيشها ولكي نكتب عنها فكيف إذا كنا سنقسّمها بين الشعر وبين الرواية أو بين أي فنين مختلفين. أفضّل أن يخلص الشاعر لموهبته الأساس على أن يوزّع نفسه على أكثر من فن لأنه لن يُتاح له أن يذهب إلى الأعماق في الفنّين وسيبقى على سطح الاثنين. طبعاً تراودني الفكرة وأعرف أنها تعطيني فرصاً أكثر، ربما بترجمة وربما بجوائز وربما أن تكون مقروءاً في أماكن أخرى، لكن بالواقع ما يجعلني ألتزم بحدود الشعر هو أني لن أستطيع أن أكون روائياً من الصف الأول. أما شغفي بالنثر الأدبي فلا يبرّر كتابة الرواية لأن النثر فن قائم مستقل بذاته، لديّ الآن كتاب إسمه "مسارات الحداثة" وهو كتاب نقدي فيه إعادة قراءة لشعراء الحداثة منذ نزار قباني وسعيد عقل. لو حصل وأردت أن أكتب فسأكتب سيرة لأن الشاعر لشدّة ما هو ملتصق بذاته إذا كان يستطيع أن يجيد كتابة رواية ما فهي حياته. أما الشعراء الذين نزحوا نحو الرواية فلم أعثر حتى الآن على شاعر يكتب الشعر والرواية بنفس المستوى، فهو إمّا يتفوق روائياً ويترك الشعر، وإمّا يتفوّق شعرياً ويظل على نفس المستوى على الصعيد الروائي.

(*) يصدر لك قريباً كتاب يتضمن الدراسات النقدية التي اشتغلت عليها، فهل ممارستك للنقد لعبت دوراً إيجابياً في شعرك؟
- من الصعب أن نحصل على شاعر حقيقي دون أن يكون ناقداً عميقاً لنفسه أولاً ولغيره ثانياً، لأن هذا الناقد الذي فيه يدفعه باستمرار لتطوير ذاته، لكن حضور الوعي يمكن أن يُبطل عملية الكتابة التي تحتاج إلى استسلام كامل لنشوة اللغة، أنت تعرفين أننا نكتب في حالة ملتبسة بين الوعي واللاوعي في حالة انخطاف وأن رقابة العقل تسيء إلى الكتابة، لذلك أنا أتكلم عن المنطقة اللاحقة، يعني الناقد الذي في داخلي يأتي لاحقاً من خلال معرفة لآليات الكتابة وتطبيق هذه المعرفة على النص الذي نكتبه، نكتشف أننا ارتكبنا حماقات فيما كنا نكتب لا نراها ونحن داخل المشهد لأننا لا نستطيع أن نكون الوجه والمرآة في وقت واحد، لكن عندما ننسحب من نصوصنا سنتمكّن من قراءتها قراءة جيدة، وأنا لست راضياً عن كل ما أنجزته ولو قُدّر لي أن أعود إلى الوراء يمكن أن أحذف ربع أو ثلث نتاجي الشعري وأنا مرتاح ضميرياً وهذا بفعل وعيي النقدي لتجربتي.

(*) هل حضور الحب الثابت في قصائدك هو انعكاس لعاطفة متجددة تملأ شوقي بزيع، وهل يمكن اعتبار كتاباتك مجموعة تجارب شخصية تقترب من السيرة الذاتية أم تتبنّى ما قد يسمى الإعارة الشعرية، وهو ما يمرّ به كثير من الشعراء؟ 
- الحب يحتلّ جزءاً غير قليل ممّا كتبت في مسيرتي الطويلة، ومعظم مجموعاتي لسنوات خلت كانت تضمّ عدداً من قصائد الحب، وهو حب معيش وحقيقي ولست هنا لكي أتنصّل ممّا عشته لأنني لا أستطيع أن أتخيّل قصيدة حب بلا حب.وأنا ضد تسمية شعر الغزل لأنه يشيّئ المرأة ويحوّلها إلى كائن معطّل ونحن نصفه ونتغزّل به.

أنا مدين كثيراً للمرأة حتى لو لم يكن الحب موضوعاً لقصيدتي، والشعر بحدّ ذاته هو فعل حب باللغة وبالعالم وبالأشياء، ولكن بالنسبة لي الأنوثة عنصر أساسي من عناصر الكتابة لديّ، وهذا استمر حتى فترة الزواج طبعاً، فبعد الزواج هناك نوع من الاستدعاء لماض ما، لكن هذا لم يكن أبداً بسبب الخوف من انعكاس قصائد الحب على حياتي الزوجية، في الواقع لأني لم أعش حباً يدفعني إلى الكتابة، والزواج لا يدفع إلى كتابة الشعر لأن معظم شعراء العرب منذ إمرؤ القيس حتى آخر شاعر لم يكتبوا لزوجاتهم ربما لأن تحقّق الحب وتحوّله إلى مؤسسة يُبطل عنه صفة الشعر كون الشعر يحتاج إلى مسافة وإلى شغف وإلى الغياب والفقدان فيما الزواج يلغي هذه المسافة.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.