الأرشيف الجزائري: خزائن وطنية في الضفة الأخرى

الأرشيف الجزائري: خزائن وطنية في الضفة الأخرى

15 ابريل 2017
(مقام الشهيد في الجزائر، تصوير: دي أغوستيني)
+ الخط -

بعد خمسة وخمسين عاماً من الاستقلال، لا تزال مسألة الأرشيف الجزائري الموجود بحوزة الدولة الفرنسية تُراوح مكانها. يتّخذ المشهد صورةً ضبابية في ظلّ تضارب المعطيات والتصريحات الرسمية حول المساعي الجزائرية لاسترجاع الأرشيف الوطني، غير أن المؤكّد هو أن تلك المساعي لم تُسفر سوى عن حصيلةٍ متواضعة للغاية؛ فما جرى استرجاعه، بحسب الأرقام الرسمية، لم يتجاوز 2%، فيما يظلّ ما تبقّى بين أيدي الفرنسيين.

يقدّر المؤرّخون والمهتمّون بتاريخ الثورة التحريرية، ومن بينهم المؤرّخ البارز محمد القورصو، أن الأمر يتعلّق بقرابة طنّين من المواد الأرشيفية التي "سطت" عليها السلطات الاستعمارية في مدن الجزائر العاصمة ووهران وقسنطينة، وحوّلتها إلى فرنسا عام 1961، أي قبل سنة من الاستقلال. ولا تقتصر تلك المواد على الفترة الاستعمارية التي تمتدّ إلى 132 عاماً؛ إنما تشمل، أيضاً، فترة الحكم العثماني في الجزائر.

حينها، جرى تبرير عملية التحويل تلك بـ "حماية" الأرشيف من "منظّمة الجيش السرّي" (تنظيم إرهابي فرنسي تبنّى أطروحة "الجزائر الفرنسية". ظهر في 1961، واعتمد العمل المسلّح) التي نفّذت العديد من عمليات الاغتيال وتخريب المنشآت العمومية، بعد أن اتّضح أن الأمور آيلة إلى الاستقلال. أمّا اليوم، فيبدو أن ذريعة التمسّك به هي "حماية" الجزائريين أنفسهم. فبحسب، المدير العام لـ "الأرشيف الوطني"، عبد المجيد شيخي، فإن الطرف الفرنسي "يزعم بأن اطّلاع الجزائريين على أرشيف ثورتهم قد يتسبّب في حدوث قلاقل، وربما حرب أهلية".

يتّهم الطرف الجزائري نظيره الفرنسي بالمماطلة في حسم المسألة، وبغياب إرادة سياسية لإعادة الأرشيف. غير أن أصواتاً من الجانب الثاني اعتبرت، في أكثر من مناسبة، أن فرنسا لا تمانع إعادته، وأن باستطاعة جميع البلدان، بما فيها الجزائر، الوصول إلى المواد الأرشيفية المحفوظة على الأراضي الفرنسية.

وإذا أضفنا إلى ذلك تصريحاً لوزير المجاهدين (قدامى المحاربين) الجزائري، الطيّب زيتوني، أدلى به قبل أشهر فقط، وقال فيه إن "لجاناً مشتركة بين البلدَين بدأت في عملها حديثاً"، وإن "المفاوضات لاسترجاع الأرشيف لا تزال في بدايتها"، فإن الأمر يثير تساؤلات عن جديّة المسعى الجزائري، وشكوكاً حول وجود رغبةٍ في جعل الملف يراوح مكانه، لأسباب عدّة؛ أبسطها الاحتفاظ به كورقة للتوظيف السياسي الداخلي والاستهلاك الإعلامي.

ولا تقتصر الممتلكات الجزائرية التي صادرتها فرنسا على الأرشيف الوطني؛ بل تتعدّاه إلى الممتلكات الثقافية بشقّيها المادي والمعنوي. هنا، يبرز "مدفع بابا مرزوق" المعروف أيضاً باسم "المدفع القنصلي"، الذي استولت عليه السلطات الاستعمارية بُعيد احتلال الجزائر عام 1830.

حالُ هذه القطعة التاريخية، التي تقول الروايات إن سبّاكاً من البندقية صنعها عام 1542 بطلب من حاكم الجزائر آغا حسن (1487 - 1543) ونُصبت غربي العاصمة الجزائرية لمنع اقتراب الغزاة منها، لا تختلف كثيراً عن حال الأرشيف؛ إذ كثيراً ما تُقدَّم وعودٌ، من الجانبَين، عن قرب استرجاعها، من دون أن يتحقّق الأمر.

آخر مرّة تكرّر فيها ذلك كانت في أواخر 2015، حين صرّحت وزيرة الثقافة والاتصال الفرنسية، آنذاك، فلور بيلران، بأن "المدفع سيعود إلى الجزائر قريباً". اجتمعت الوزيرة الفرنسية، حينها، برئيس الحكومة الجزائرية في لقاء جرى فيه إعداد "ورقة طريق" تقضي بإرجاع الممتلكات الجزائرية الموجودة في فرنسا، والاتفاق على تشكيل مجموعة عمل مشتركة للمضي قدماً في العملية.

غير أن أبرز مظاهر هذه الحالة، نلمسها في مجال الملكية الفكرية؛ إذ لا يزال عددٌ من دور النشر الفرنسية يحتكر حقوق الملكية الخاصّة بكثير من الكتّاب الجزائريين البارزين الذين نشروا أعمالهم في فرنسا، سواءً قبل الاستقلال أو بعده؛ مثل كاتب ياسين ومحمد ديب ومولود معمري ومولود فرعون.

على سبيل المثال، فإن رواية ياسين البارزة "نجمة" (1956) يجري استيرادها إلى اليوم، إذ لا يُمكن لأيّ دار نشر جزائرية أن تُعيد إصدارها، بسبب رفض نظيراتها في الضفّة الأخرى بيع حقوق نشرها، أو مطالبتها بأسعار "خيالية" مقابل ذلك.

ويصف سامي بن شيخ، مدير "الديوان الوطني لحقوق المؤلّف والحقوق المجاورة"، وهي الهيئة الرسمية التي تُعنى بمجال حقوق الملكية الفكرية في البلاد، التبادُل في مجال حقوق النشر بأنه "الحلقة المفقودة في العلاقات الثقافية بين البلدين".

وإن كان استمرار احتكار حقوق الملكية الفكرية للكتّاب الجزائريين من طرف ناشرين فرنسيين يبدو غريباً، فإن الأكثر غرابةً سيكتشفه الجزائريون في 2016، حين يعترف "الديوان" بأن حقوق ملكية النشيد الوطني موجودة، هي الأخرى، في فرنسا، موضّحةً أن هذا المصنّف الموسيقي المعنون "النشيد القومي الجزائري" مصرَّح به أمام مؤسّسة فرنسية من قِبل ملحّنه الفنّان المصري محمد فوزي.

وتعليقاً على ذلك، كتب الصحافي سعد بوعقبة ساخراً: "النشيد الجزائري "قسماً" هو النشيد الوحيد في العالم الذي يضمّن تهديداً لدولة بعينها هي فرنسا. والجزائر، ربما، هي أيضاً الدولة الوحيدة في العالم التي تدفع حقوق البث والاستماع إلى النشيد الوطني لدولة أخرى هي فرنسا التي تهدّدها بالنشيد!".

وفي مجال الفن السابع، يقبع رصيد سينمائي ضخم يُقدّر بمئات الأفلام الجزائرية في بلدان عربية وأجنبية؛ حيث كشف مراد شويحي، مدير "المركز الوطني للسينما والسمعي البصري"، في تصريح صحافي قبل أيام، أن قرابة 360 نسخةً أصلية لأفلام أُنتجت في الستينيات والسبعينيات موجودة في مخابر في فرنسا وإيطاليا وتشيكيا وسلوفاكيا وتونس.

وأضاف أن استرجاع هذا الأرشيف غير ممكن حالياً، في ظلّ "غياب مجمع مخبري مهيّأ لحفظه في الجزائر"، وهو ما يناقض تصريحاً لوزير الثقافة، عز الدين ميهوبي، أدلى به في حزيران/ يونيو الماضي، قال فيه إن قطاعه يعمل على استرجاع أرشيف السينما الجزائرية الموجود في الخارج.

ومعروفٌ أن السينمائيين الجزائريين يستكملون عمليات ما بعد التصوير (تحميض الأفلام خصوصاً) في مخابر أجنبية، بسبب انعدام مخابر في الجزائر إلى غاية العام الماضي الذي جرى فيه افتتاح ما وُصف بـ "أول مخبر سينمائي متكامل" في البلاد.

المساهمون