بطل هشّ لما بعد الحداثة

بطل هشّ لما بعد الحداثة

20 سبتمبر 2017
آنا إيفا برغمان، النرويج
+ الخط -

ينظر عدد من الملاحظين (علماء اجتماع، تربويّون، سياسيون، عسكريون وغيرهم) إلى فرنسا وأوروبا كمجتمعات "ما بعد بطولية" حيث يلاحظون أن ثمة استقالة من الرغبة في أن نكون أبطالاً كما كان الأمر منذ عقود، فالحرب التي كانت مصدراً للنخوة الوطنية باتت "هزيمة للسياسة"، وتبعاً لذلك فإن فقدان جنود لم يعد يوضع تحت عبارة "في سبيل الوطن" بل أصبح أمراً غير محتمل ومصدراً للألم بل مؤشراً لضياع العدالة وفقدان المعنى.

في المقابل، أصبحت النزعة الأمنية فضيلة، وظهرت معها نزعة أن نكون ضحية، إلى حدّ أن الجلادين حين يقدّمون إلى المحاكمة سرعان ما يضعون أنفسهم بين الضحايا: ضحايا المنظومة التي يمثلون أرواحها الملعونة.

كيف حدثت هذه التحوّلات؟ في الغالب، توضع الفردانية كمسؤول أوّل عن هذا التغيّرات المتدرّجة في القيم، بل توضع أيضاً كمسؤول عن نزع الأخلاق من الحياة الاجتماعية. لكن الفردانية ليست مكوّنة من قطعة واحدة، وهي لا تعدو أن تكون عاملاً محرّكاً للذات فيما تتعدّد التوجّهات الممكنة.

منذ ولادته، يجري القذف بالطفل في المنافسة، فوالداه يريدان منه أن يكون ذكياً، مكتمل الجسم، وحين يبلغ سن دخول المدرسة عليه أن يدخل سباق العلامات الكبيرة في المواد التي يتلقاها. كل ذلك لأن أبويه يمرّران له أن الفشل الدراسي يعني إهدار وجوده، وأن ذلك سيقوده إلى الخروج من المدرسة ليقف أمام معضلات البطالة وسوء التصنيف الاجتماعي، وأنه سيفشل حتى في حياته العاطفية.

هكذا أصبح الفرد مخلوقاً مكرهاً على دخول جميع المسابقات التي تقود إلى النجاح. غير أن هذا الفرد، ومن سوء حظه وسوء حظ جميع المراهنين عليه، زاد هشاشة بفعل محيطه الذي صنعته السياقات التاريخية للعصر الحديث؛ فهو يخوض هذه المسابقات بينما تتلاحق الأزمات الاقتصادية، وتتلاحق معها التحوّلات التكنولوجية، وفي الأثناء تتعدّد الأمراض التي تهدّده جسدياً ونفسياً.

إنه يقف أمام كل ذلك وكأنه يستحضر عبارة وردت في "أزهار الشر" لـ شارل بودلير حين يقول "مِثل رياضي معتلّ الصحة في لعبة الحياة"، مجبراً على أن يكون بطلاً في التنافس الذي لا ينتهي، وفي مسابقات تتوالى وتتعدّد. بطل هش للأزمنة ما بعد الحداثية. المطلوب أن تكون مصارعاً في عالم لم يعد فيه أبطال، بعبارة أكثر بساطة: عليك أن تكون أكثر مما أنت.


* من مقال نُشر في مجلة "دراسات.. دورية الثقافة المعاصرة" الفرنسية، عام 2013.
** ترجمة عن الفرنسية: شوقي بن حسن

دلالات

المساهمون