غسان سلهب.. أغمض عينيه وانحدر إلى "الوادي"

غسان سلهب.. أغمض عينيه وانحدر إلى "الوادي"

19 فبراير 2015
لقطة من الفيلم
+ الخط -

ينطلق فيلم المخرج اللبناني غسان سلهب "الوادي" بلقطة ثابتة لوردة، ثم ينتقل إلى السواد، ومن ثم نسمع هذه الافتتاحية: "على الجبل العالي أغمض عينيه.. لا يريد ضوءاً قديماً مشى آلاف السنين كي يصل إليه.. أغمض عينيه وانحدر إلى الوادي"، ليبقى السواد محتلاً الشاشة بينما يُسمع صوت تحطّم سيارة، ولتفتح الكاميرا على أفعى انقسمت إلى نصفين على إسفلت الطريق.

سيخرج علينا رجل طويل حليق الرأس (كارلوس شاهين) يرتدي قميصاً أبيض وقد تلطخ بالدم، يعلو فوقه صوت طائر جارح، ثم يمضي في طريق مهجورة حيث يقع على رجلين وامرأتين وقد تعطلت بهم سيارتهم، فيأخذوه معهم بعد أن يصلح لهم السيارة ويغمى عليه.

هكذا يبدأ فيلم "الوادي"، ولعل هذا الإصرار على تتبع ما سيشاهده المشاهد في الدقائق الثلاث الأولى من الفيلم آت من سينما سلهب نفسها، إذ إن بنية أفلامه، تستدعي تتبعاً من هذا النوع، حيث العناصر الفيلمية تتأسس على مهل، وتهبنا الفرصة الكاملة لالتقاطها في إيقاع بطيء لا يستجعل شيئاً، ضمن بنية تحكم قبضتها على كامل العمل، وعلى شيء يجعل من أطياف إنغمار برغمان تحوم في أرجائه.

أسلوب سلهب خاص ومتفرد، يأتي في "الوادي" جراء تحالف جمالي بين المكان والشخصيات كرهان رئيس، والاعتماد على بنية فضول ـ لا تقترب من التشويق ـ تأتي من الرجل "المنحدر إلى الوادي"، الذي فقد ذاكرته تماماً، وتفشل في البداية كل المحاولات لمعرفة أي شيء عنه، عدا ترديده بصعوبة مقطعاً من أغنية عزيزة جلال، "مستنياك يا روحي بشوق كل العشاق.."، قبل أن نكتشف في النهاية من يكون أمام الرؤية المستقبلية التي يخلص إليها الفيلم، بحيث يتفوق العام على الذاتي.

بنية الفضول هذه تتأتى أيضاً من المكان الذي سيؤخذ إليه الرجل الغامض، حيث مزرعة مترامية شديدة الحراسة، وخمس شخصيات تعيش في عزلة، ليتضح أن المكان مخصص لزراعة الحشيش وتصنيع المخدرات، ولكل شخصية من الشخصيات التي تحيط بالرجل الغامض عالمها، تنتظر مروان (فادي أبي سمرا) للخلوص إلى تركيبة خاصة من المخدرات. ولعل جهوده تحاط بهالة من يصنع إكسير الحياة، فهو شاعر أو متأمل، تختلط في دفتره عباراته التأملية مع المعادلات الكيميائية، هو الذي سنسمعه يردد "الفجر لم يعد. الليل نهار. النهار ليل. الحبر نبيذ. النبيذ دم. الأرض بحر..."

هذا الملمح الخاص لكل شخصية سيدعنا ننسى أننا حيال مجموعة من الأشخاص الذين يصنعون ويتاجرون بالمخدرات، لا بل إن توصيفهم بذلك سيبدو غريباً، فصاحب المزرعة حكمت (عوني قواص) سيكون طباخاً بارعاً، بينما سيكون الرسم عالماً كاملاً تصوغه ماريا بالفحم (يمنى مروان)، وسيجتمع هؤلاء الثلاثة ومعهم علي (منذر بعلبكي) وكارول (كارول عبود) في كل ليلة على طاولة عشاء وشراب، ولتكون لقاءاتهم هذه محمّلة بما سيكون عليه مصير هذا الرجل الغامض، الذي سيشاركهم جلساتهم، من دون أن يتمكن من تذكّر شيء من حياته.

استهلال الفيلم سيضعنا مباشرة حيال مأزق الشخصية الرئيسة ولغزها، إلا أن الصراع في وسط الفيلم سيتأتى من شيء مرتقب وغامض، وبهذا المعنى فإن سؤالاً مثل ماذا يحدث في الفيلم وكيف يسير الحدث وما هو النزاع الأساس؟ لن تكون الإجابة عليه بالتنقل من حبكة إلى أخرى، كما ما من شيء تتجاوزه الشخصيات أو تحلّه.

عدا عن البداية، فإن الأحداث النافرة الوحيدة في الفيلم تكمن في نجاح مروان بتصنيع خلطة المخدرات الخاصة، أو في محاولة الرجل الغامض الهرب وفشله، وبالتالي تقييده وتهديده كي يعترف من هو، وصولاً إلى اقتراب الجيش من المزرعة من دون أن يقتحمها أو يكون معنياً بها، وليكون ذلك تمهيداً للنهاية، ما لم يكن كل ما في الفيلم تمهيداً لها.

يمثل الواقع اللبناني على مستويين، الأول في كل ما نشاهده لكن بما يوهم أنه غائب، بما في ذلك فقدان الذاكرة، والمكون النفسي والاجتماعي للشخصيات وعلاقاتها، والتضامن العابر للطوائف لكن المحتجز ضمن نطاق المزرعة المعزولة عن المحيط.

بينما يأتي المستوى الثاني عبر الحوار، كما هو الحال حين يجري الحديث عن "الأمراض الاجتماعية"، التوصيف الذي يطلقه علي على النقاش الذي يتبع مسعى حكمت إلى معرفة اسم الرجل الغامض، وبالتالي معرفة طائفته وهو يقول إن اسمه على الأغلب "مارون أو جوزيف أو أنطوان"، وأن هيئته لا توحي بأنه ممن يسجدون، وصولاً إلى أن تعتبر كارول أن الطائفة متصلة "بالطبخ والسكس"، فالشخصيات الخمس لا تتصارع بل هي متوافقة بشكل أو آخر، وربما لذلك هي معزولة. ولعل انفعال الرجل الغامض الأكبر يكون مع محاولة حكمت تحديد طائفته.

ولن يأتي الاتصال المباشر بالواقع الخارجي إلا من خلال الراديو، الذي نسمع منه أن عدد اللاجئين السوريين قد أصبح مليوناً في بلد لا يتجاوز عدد سكانه الخمسة ملايين، وهذا ما سنشاهده في بداية الفيلم حين يمرون بالسيارة بعدد من الخيم على طرف الطريق لتعلّق كارول: "كترو اللاجئين".

يستكمل غسان سلهب في "الوادي" ثلاثيته التي بدأها مع "الجبل" 2010، وسينهيها بفيلم بعنوان "النار". ولعل "الافتتاحية" التي بدأ بها الفيلم تقول لنا ذلك، حيث النزول إلى الوادي سيكون من الجبل، على شيء من استكمال ما كانت عليه آثار الخطى التي تتبعها الشخصية الرئيسة في "الجبل" على الثلج، والتي ستكون كما الرجل الغامض في "الوادي" بلا اسم، وهي تقرر ألا تسافر بعد أن تصل االمطار، الذي سيغادره إلى غرفة فندق منعزل في الجبل، حيث الكتابة والعادة السرية والطائرات تخترق الأجواء.

ولعل أفلام سلهب غالباً ما تكون عن رجل عائد إلى لبنان، كما هو الحال مع "الوادي" أو حتى في أولى أفلامه الروائية الطويلة "أشباح بيروت" الذي يعود رجلٌ بعد عشر سنوات إلى بيروت بعد أن كان معتبراً ممن قضوا أثناء الحرب الأهلية.

يمضي سلهب في "الوادي" نحو نهاية مستقبلية متشائمة، ولعل اللقطة الافتتاحية بوردة ستقابلها لقطة بانورامية ختامية لأرض قاحلة. ولهذا التشاؤم أن يجد شرعيته الاستشرافية من الواقع الحالي في المنطقة العربية برمّتها، حيث ستندلع الحرب أو كما سيقال في الفيلم "المنطقة كلها ولعانة"، و"لم يبق من أحد وكل الاتصالات مقطوعة"، وسيكون على شخصيات الفيلم الرئيسة أن تبقى وحيدة تماماً في الوادي، وما كتبه مروان في دفتره يتجسد: "نحن كثمار تتدلى عالياً من غصون غريبة الإعوجاج وتكابد الريح".

المساهمون