معاوية إبراهيم: كَذَبَ المنقّبون

معاوية إبراهيم: كَذَبَ المنقّبون

26 فبراير 2017
(معاوية إبراهيم في محاضرة "دارة الفنون")
+ الخط -

لم تكن فلسطين مجرّد بقعة جغرافية تتوسط الشرق القديم وشرقي البحر المتوسط وشمال أفريقيا وحسب؛ بل كانت الحاضنة الفعلية لأولى المستوطنات الزراعية التي عرفتها البشرية قبل نحو 14 ألف عام، والتي عرف معها الإنسان لأول مرة في العصر الحجري الحديث، الاستقرار الذي أفضى إلى تشييد أولى المدن على وجه البسيطة.

وهو ما تؤكّده الحقائق العلمية والكشوفات الأثرية التي استعرضها عالم الآثار القديمة واللغات الشرقية الأستاذ معاوية إبراهيم في محاضرة ألقاها، الثلاثاء، ضمن برنامج "دارة الفنون" في عمّان "فلسطين الحضارة عبر التاريخ" الذي تنظّمه في ذكرى مرور 100 عام على ما يسمّى "وعد بلفور"، و70 عاماً على قرار هيئة الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين، و50 عاماً على حرب 1967.

تناولت محاضرة إبراهيم، الذي عمل لأربعة عقود في مواقع أثرية مختلفة في المنطقة، موضوع الاستقرار وأولى المدن في الأردن وفلسطين، حيث كشف أستاذ الآثار واللغات الشرقية القديمة، عن جملة من الحقائق والملابسات التي اقترنت بالموضوع نفسه، خاصة ما يتعلق بالرحلات الاستكشافية والدراسات الميدانية للباحثين والمنقبين الأجانب منذ الفترة اليونانية حتى الوقت الراهن.

وما يؤحذ على تلك الدراسات، وهي في جلّها مكتوبة بوساطة علماء الآثار والتاريخ القديم الأوروبيين والأميركيين وبلغاتهم المختلفة، بحسبه، أنها غالباً ما كانت متحيّزة، ولها أجندات خاصة في تطويع البحث العلمي، النظري والميداني، لخدمة المنظور التوراتي. أما المراجع التي كتبت بالعربية فهي نادرة ولا تُجاري الدراسات الميدانية والاكتشافات الأجنبية المتوالية طوال القرنين التاسع عشر والعشرين في الأردن وفلسطين.

وذهب ممثّل الأردن في لجنة يونسكو للتراث العالمي، إلى ما هو أبعد من ذلك، حين اعتبر أن الإنكليز والأميركيين عملوا بدأب منذ منتصف القرن التاسع عشر على تأكيد أحداث التوراة انطلاقاً من تحريف الحقائق العلمية وفق الرواية التوراتية، لافتاً إلى أن العرب كانوا وما يزالون في غياب تام عن الدراسات الآثارية.

ولأن موقع فلسطين المتوسط بين الدول التي نشأت في وادي النيل وبلاد ما بين النهرين والأناضول، كان له الدور الرئيسي في كتابة تاريخها على مرّ العصور، ولأنها تُعدّ جزءاً من بلاد الشام التي كانت هدفاً لمطامع الدول الكبرى القديمة، فإن تاريخها ظل مرتبطاً مع تلك الدول، وفق الباحث الذي أكد على أهمية الدور البارز لفلسطين في عملية الاتصال الحضاري ما بين المناطق المختلفة من العالم، إذ كانت موضع تأثّر وتأثير في جميع مناطق الشرق القديم وشرقي البحر المتوسط وشمال أفريقيا.

توقّف الأكاديمي عند الصعوبات الكبيرة التي تواجه كتابة تاريخ فلسطين القديم لقلّة المصادر المكتوبة، ولا سيما قبل الألف الثاني قبل الميلاد "إذ ظلّ الاعتماد الرئيسي لكتابة ذلك التاريخ مقتصراً على المكتشفات الأثرية التي تعتمد في تفسيرها على منطلقات المنقبين وخلفياتهم وأهدافهم، لذلك جاءت جلّ نتائج البحث مشوّهة ومحرّفة، ما أبعد عنها قوة الشخصية الحضارية الفلسطينية ودورها في الحضارة الإنسانية، وألصقت مقوّمات هذه الحضارة لشعوب وقبائل مهاجرة إلى فلسطين أحياناً، وأنكرت بذلك أن يكون الشعب الفلسطيني الذي عرف كيف يتكيّف مع بيئته، هو الصانع الفعلي لهذه الحضارة".

مظاهر الاستقرار الدائم في قرى ثابتة، بدأت بحسب معاوية خلال المرحلة الانتقالية بين الإنسان الجامع للقوت والإنسان المنتج له في مواقع متعددة من بلاد الشام خلال العصر الحجري الحديث المبكّر الذي يضم فترات ما قبل الفخّار، والفترات الفخارية، وجميعها تبيّن اعتماداً على الحفريات الأثرية التي جرت في مواقع عديدة من الأردن وفلسطين مثل أريحا والمنحطّة وعين غزال "أن مرحلة الاستقرار الأولى تميّزت ببداية بسيطة للزراعة، حيث كان يعتمد الإنسان في حياته أيضاً على الصيد وجمع القوت. فيما تميزت المرحلة الثانية باستعمال الأواني الفخارية وإنتاج القوت ضمن أول اقتصاد زراعي عرفه الإنسان".

وفضلاً عن أريحا فقد تمثّلت المعالم الحضارية الأولى في فلسطين في موقع آخر هو وادي الفلاح على الساحل الفلسطيني بالقرب من حيفا، والذي يعود للفترة الواقعة ما بين 8000-7000 ق.م "وكان الإنسان الفلسطيني في هذه المرحلة يعتمد على الصيد وزراعة بعض الحبوب، إلا أنه لم يتوصل إلى تدجين الحيوانات وتربيتها، مثل الماعز والوعل والكلب والخنزير، إلا في وقت لاحق لتلك المرحلة" يقول الباحث الذي أكد أهمية الصلات التجارية التي شهدتها المرحلة نفسها بين فلسطين وبلاد الأناضول، حيث عُثر على عدد من الأدوات المصنوعة من السبج "الأوبسديان" الذي كانت تُصدّره بلاد الأناضول إلى أريحا، بينما كانت أريحا تُصدّر المواد الخام مثل القار والملح من البحر الميت.

ومن ضمن الشواهد العديدة الدّالة على بداية استقرار الإنسان في الأردن وفلسطين، توقف الباحث عند التماثيل الصغيرة التي عُثر عليها في أريحا عام 1935، والتي تتشابه مع التماثيل التي عُثر عليها لاحقاً في منطقة عين غزال شرق عمان، والتي تعود إلى العصر الحجري الحديث ما قبل الفخاري الذي عرف فيه الإنسان الأول، خاصة في المرحلة اليرموكية، مادة الفخار التي استعملها في صناعة أدواته اليومية.

وخلص إبراهيم إلى أنه "إذا كان فهم تطور المجتمع الحديث يعتمد بشكل أساسي على فهم التغيّرات التي تحصل الآن والتي حصلت في الماضي البعيد، فإن الحاجة ما تزال قائمة إلى إجراء المزيد من الأبحاث لتفهّم اتجاهات هذه التغيّرات وأسبابها، حيث من المعروف أن مجتمعات تلك القرى الزراعية أصبحت مستقرة بشكل فعلي حين بدأ الإنسان بزراعة ما يحتاجه من محاصيل، كما قام بتدجين الماشية، فضلاً عن توصله إلى معرفة صناعة أدوات من الصلصال قبل نحو 8000 عام"، ورأى أن هذا التطور عبّر عن نفسه بشكل أوضح في الفترة اللاحقة (العصر الحجري النحاسي) حين استطاع سكان فلسطين تصنيع أدواتهم من خامة النحاس في بداية الألف الرابع قبل الميلاد.

تفتيش في العصر الحديدي 
منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، جرى تأسيس جمعيات أوروبية وأميركية همّها الأول تثبيت الرواية التوراتية، فتحوّلت جلّ أعمالها الميدانية والنظرية للتركيز على البحث والتنقيب في المواقع التي تعود للعصر الحديدي بشكل خاص، لأنها المرحلة المتعلقة بأحداث التوراة، وجاءت غالبية هذه الأعمال لتخدم الأفكار الصهيونية، ومنها فكرة الحق التاريخي المزعوم لليهود في فلسطين.

المساهمون