سيرة سينمائية: ما قبل المنديل والنظارة السوداء

سيرة سينمائية: ما قبل المنديل والنظارة السوداء

02 فبراير 2015
+ الخط -

اعتدنا في الذكرى السنوية لرحيل "كوكب الشرق"، أم كلثوم (1898 - 1975)، أن تلقى مسيرتها في الغناء، وتأثيرها على الحياة الاجتماعية والسياسية في مصر والعالم العربي، مجمل الاهتمام؛ دون التطرّق كثيراً إلى ما خاضته سينمائياً في ستّة أفلام قدّمتها بين عامي 1936 و1947.

قد يعود ذلك إلى عدم قدرة أيّ من الأفلام التي أدّت بطولتها على أن تنال مكانة متقدّمة من حيث الجودة السينمائية أو على مستوى الجماهيرية؛ أو قد يعود إلى تواضع أدائها التمثيلي. لكنّ معاينة رحلة أم كلثوم في السينما يكشف "ثومة" أخرى، بعيدة عن صورتها المطبوعة في الأذهان لسيّدة تخطّت عقدها الخامس على أقلّ تقدير، حاملة منديلها الأيقونيّ، تحظى بالتصفيق و"العبادة" على كلّ تفريدة غنائيّة، أو سلطنة في الأداء، أو إيماءة جسديّة ساحرة.

بعد إنشائه لـ"أستوديو مصر" عام 1935، أصرّ الاقتصادي المصري طلعت باشا حرب أن تخوض أم كلثوم تجربة التمثيل وأن تقدّم شريطاً غنائيّاً، مثل ما أصبح يقدّم منذ دخول الصوت إلى السينما أوائل الثلاثينيات، تحديداً سنة 1933 بفيلم، غنائي هو الآخر، "أنشودة الفؤاد". وكان أول فيلم لأم كلثوم هو فيلم "وداد" (1936) وهو أيضا أول فيلم روائي طويل ينتجه "أستوديو مصر"، وقد أخرجه الألماني فريتز كرامب، ووضع الرواية وألّف أغانيها "شاعر الشباب" أحمد رامي.

من هذه البداية، يمكن ملاحظة نشوء مميّزات رافقت أم كلثوم في مسيرتها السينمائيّة. بدءاً من اختيار قصّة تاريخيّة تناولت حياة جارية في عصر المماليك. وكأنّ "ثومة" كانت على دراية كاملة، وهي في ذلك الوقت في منتصف عقدها الثالث، أنّها كما شخصيات أفلامها، مطربة عصرها وقطعة من التاريخ.

هذا الأمر تكرّر لاحقاً في شريط "دنانير" (1939) الذي تدور أحداثه حول الفتاة البدوية دنانير ذات الصوت الصدّاح، في انتقالها من حياة الصحراء وبساطتها إلى بذخ قصور الإمارة في عهد هارون الرشيد، في تقاطع شديد مع سيرة حياة أم كلثوم الخاصّة: الفلاحة فاطمة إبراهيم البلتاجي من قرية طماي الزهايرة، والتي أصبحت فيما بعد ضيفة الصالونات الملكيّة ومحبوبة الزعماء المصريين والعرب.

وفي تقاطع آخر، تُجسّد كوكب الشرق في فيلمها الأكثر رسوخاً في الأذهان "سلّامة" (1945)، والذي كتب له السيناريو والحوار والأغاني بيرم التونسي وأخرجه توجو مزراحي، دور راعية أغنام تنتقل إلى القصر في عصر الدولة الأمويّة.

في هذا الفيلم، يتعلّم الحضور الغفير من الرجال الحاضرين احترام المطربة، بعد استهزاء أحد الرجال بها لكونها فلّاحة (راعية غنم) فتردّ عليه سلّامة/أم كلثوم: "يبوس القدم/ ويبدي الندم/ على غلطته/ في حق الغنم"، إلى أن ينحني هذا الرجل (استيفان رستي) ويقبّل قدمها. وكأن "ثومة" تذكّر مجدّداً بالقوانين التي اعتمدتها في غنائها على المسرح، وغيّرت من خلالها مكانة المرأة المطربة في عشرينيّات القرن الماضي لدى وفودها إلى القاهرة.

ما يتوجّب ذكره، هو الفضل الكبير للأفلام على "السمّيعة" من جمهور الست، إذ قدّمت من خلال أعمالها السينمائيّة أنجح وأشهر الطقطوقات والأغاني التي ما زالت رائجة حتى يومنا هذا، لثلاثيّ الملحّنين الأساسيّين في مسيرتها: محمد القصبجي ورياض السنباطي وزكريا أحمد.

فمن ألحان السنباطي قدّمت على الشاشة: "يا شباب النيل"،"افرح يا قلبي"، "حقابله بكرا". ومن ألحان القصبجي: "يا صباح الخير"، "ياللي ودادي صفالك"، "طاب النسيم العليل". وقدّم لها الشيخ زكريّا أحمد: "الورد جميل"، "غني لي شويه شويه"، "برضاك يا خالقي"، "قولّي ولا تخبيش يا زين" وغيرها من الأغاني الهامّة.

وفي الحقيقة، لولا الإطار السينمائي لما خرجت هذه الأغاني للنور. وعلى وجه الخصوص ما قدّمه فيلم "سلّامة" من أعمال ندر مثيلها في التاريخ الغنائي الحديث، حيث قدّم فيها بيرم التونسي كمؤلّف وزكريّا أحمد كملحّن تصوّراً لأغان ألّفت في العهد العبّاسيّ، جاءت بنفحة تاريخيّة وشعبيّة في آن واحد. وكان لافتاً كذلك تجويد سيدة الغناء العربي لآيات من سورة إبراهيم في الشريط الآنف الذكر، فيما يصوّر اليوم على أنّه تحفة سماعيّة ثمينة.

بعيداً عن الروايات المستوحاة من القصص التاريخيّة، قدّمت صاحبة "الأطلال" أفلاماً رواياتها معاصرة، في كلّ من "نشيد الأمل" (1937)، و"عايدة" (1942) وفيلمها الأخير "فاطمة" (1947). وقد تطوّر أداؤها نسبيّاً مع التقدّم في تجربتها التمثيلية، والتي تحمل في معظمها أسماء الشخصيات النسائية التي مثّلتها كعناوين. لكنّ أم كلثوم أدركت أنها ليست بممثّلة عظيمة، وبذكاء "الستّ" المعهود عرفت أنّ رحلتها مع السينما انتهت، بعد أن حقّقت لها انتشاراً مرئيّاً وسماعيّاً لدى الجماهير.

في نظرة استرجاعية لأفلامها في ذكرى رحيلها، نستطيع القول إن الأرشيف المصوّر والقريب لتعابير وجهها في شبابها، هو هديّة لمحبّي أم كلثوم الذين يجدون غرابة في رؤيتها تضحك على الشاشة، وتقفز، وتضطرب، وتبادل رجلاً أمامها العشق والوله، قبل أن تخلق بنفسها حواجز لتلك التفاصيل الصغيرة من خلال ابتعادها عن التقاط الصور القريبة، وتمسّكها بنظّارتها السوداء، واشتراطها ألّا تقترب منها عدسات الكاميرا كثيراً في حفلاتها المصوّرة. كل ذلك جعل أم كلثوم أيقونةً يحيطها الغموض على المستوى البصريّ.

المساهمون