المسألة الأوروبية وسردياتها

المسألة الأوروبية وسردياتها

02 أكتوبر 2017
(فولفغانغ شتريك، تصوير: يورغن باور)
+ الخط -

نشرت مجلة "ليتر أنترناسيونال" الفصلية (النسخة الألمانية) ملفاً خاصاً بالمسألة الأوروبية، في عددها الصادر مؤخراً، شارك فيه عدد من المفكرين الأوروبيين. تكمن أهمية مشاركاتهم في المقاربات المختلفة للأزمة التي يشهدها الاتحاد الأوروبي.

في هذا السياق، يؤكّد المفكّر والأنثروبولوجي الفرنسي مارسيل هناف بأن الأزمة كانت دوماً جزءاً لا يتجزأ من أوروبا. فعلى الرغم من أن الأزمة محددة لتجمعات سياسية أخرى، إلا أن أوروبا شهدت وتشهد تحولات قوية، لن نجد لها مثيلاً في سياقات مغايرة، وارتبطت تلك التحوّلات خصوصاً بالثورات التقنية والاقتصادية. وعلى الرغم من أجواء استعادة الثقة التي ميّزت السياق الأوروبي بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أن أوروبا تعيش اليوم أزمة جديدة، مع اختلاف جذري، وهو أنها تعيشها كأزمة أوروبية، وليس على مستوى قومي أو وطني.

لكن هناف يرى أن هذه الأزمة لا ترتبط بالاقتصاد أو الأمن الاجتماعي، بل بما يسميه "الهوية الأوروبية" أو بـ"نقص في الهوية"، يقول: "يمكن لكل شخص في أوروبا أن يسمّي نفسه أوروبياً، لكن لا أحد يمكنه الحديث عن الوطن أوروبا أو الأمة أوروبا". إن أوروبا برأيه ليست أمة، وليست انتماء، وإنها لم تستطع أن تتحوّل إلى بلد مثل الولايات المتحدة الأميركية أو إندونيسيا.

يقدم هناف بعد ذلك تعريفاً متميزاً لأوروبا وهو يؤكد بأن "أوروبا هبة الترجمة"، فلقد تأسست على صَهر ما ليس أوروبياً، لقد تأسست خارج روما، وهنا تكمن في رأيه نزعتها الكونية. يعود هناف إلى التاريخ والفلسفة اليونانيتين، إلى أرسطو وهيرودوت، ليؤكد بأن الطاغية لم يكن البتة أوروبياً، بل حتى روما لم يكن بإمكان طغاتها الحكم دون أن يكون هناك توافق داخلي. إن التقاليد الديمقراطية لأوروبا، ليس لها مثيل برأيه في تاريخ الإنسانية، وهو لربما يريد أن يربط بين هذه التقاليد، وهذا "النقص في الهوية" الذي يميّز أوروبا اليوم.

أما المفكر والمحلل النفسي الإيطالي سيرجيو بينفينيتو، فيكتب قائلاً: "من الواضح جداً أن التقدم في الوحدة الأوروبية، لم يقدنا إلى وحدة سياسية وثقافية. ففي إيطاليا لا تعرف سوى أقلية من الناس أسماء البلدان التي تنتمي إلى الاتحاد الأوروبي، وعدد تلك التي اعتمدت اليورو عملة لها إلخ (...) لا يوجد شيء اسمه وطنية أوروبية، حتى وإن كنت أنظر إلى نفسي كمواطن أوروبي".

ويرى بينفينيتو بأن المهمة المطروحة اليوم على الديمقراطيات المعاصرة تكمن في ضرورة تقديم جواب على هذا الإحساس بالفشل الذي يخيّم على قطاعات واسعة من السكان، ويدفعها إلى اعتزال العملية السياسية، مؤكداً بأن الاتحاد الأوروبي لا يتأسّس على حسابات اقتصادية محضة، ولكن على ما أسماه كارل بوبر بالمجتمع المفتوح، وذلك على الرغم من الفاشيات التي طبعت التاريخ الأوروبي في القرن العشرين.

أبرز مساهمة في هذا الملف، هي التي قدّمها عالم الاجتماع الاقتصادي الألماني فولفغانغ شتريك. ففي بحث بعنوان "سرديات حول أوروبا"، يتعرّض شتريك لمختلف السرديات التي نسجها العقل الأوروبي حول نفسه، ومنها ذلك الصراع الأبدي بين "أوروبا" و"آسيا"، أو بين "الحرية" و"العبودية"، أو تلك التي فرقت بين "الثقافة" و"الحضارة"، اليونان وروما قديماً، وألمانيا وفرنسا حديثاً، مؤكداً بأن تلك السرديات مجرد أيديولوجيات خدمت وتخدم الانتهازيات السياسية، وهي وفقاً لطبيعتها لا تعمّر طويلاً، ومع ذلك، فإن الطبقة السياسية لم ولن تتوقف عن محاولة مأسسة مثل هذه السرديات.

غير أن شتريك يرى أن محاولة فرض ذاكرة ثقافية مشتركة في مجتمع متعدّد أمر مستحيل، وأن كل محاولة ترمي إلى تحقيق ذلك، ستعصف بحرية المواطنين وكرامتهم، ولربما هذا ما سيجعله يؤكد في نهاية بحثه، بأنه أحياناً، ولكي نكون أوروبيين، يجب أن نعمل ضد أوروبا!

دلالات

المساهمون