راعٍ وسبعة عشر شريطاً

راعٍ وسبعة عشر شريطاً

04 فبراير 2015
أم كلثوم، في قريتها، تسترجع بعض لحظاتها كفلاحة
+ الخط -
في الوقت الذي يجلس بعض الذين جايلوا أم كلثوم، في ذكرى رحيلها، ليعدّوا المرات التي حضروا فيها حفلاتها، أو التقوها والتقطوا معها صورة بالأبيض والأسود، أجلس أنا المولود سنتين بعد "موتها"، لأعد المرات التي صُفعتُ فيها بسببها.

تبدأ الحكاية من صائفة عاد فيها جدي من فرنسا، لقضاء عطلته السنوية منتصف ثمانينيات القرن العشرين، وجلب لي معه مذياعاً، صار هو نافذتي على الدنيا، في قرية هلالية/ أمازيغية لا كهرباء فيها. كانت الهدية الذهبية تطييباً لخاطري، لأن أبي أطعمني يومها وجبة دسمة من الضرب، قتلتُ خروفاً وكان لا بدّ أن ينتقم لفقيده العزيز.

"لسه فاكر" لحدّ الساعة، كيف نمت تلك الليلة، أقصد كيف لم أنم، كيف أصبحتُ كلي أذناً لصيقة "بالبُسْط"، هكذا نسمي المذياع في قرية "أولاد جحيش". لماذا لا نكتب عن الحالات التي صرنا فيها إحدى جوارحنا؟ لماذا لا نستثمر إبداعياً في اللحظات الأولى التي نكتشف فيها الدنيا؟ كأن نكتشف فناناً يصبح رفيقاً لنا في مقاماتنا الحميمة.

"حديث الروح" أيامها ناب في يومياتي عن حديث الأسرة، حتى أن جدي أبدى ندمه، وهو يغادر عائداً إلى عمله في فرنسا، على أنه أهداني ذاك "البسط" اللعين الذي حرمه من الجلوس مع حفيده، لكنه دسّ في يدي ورقة سمينة "اشتر بها بطارياتٍ من الحانوت". أنا أمنح الآلة العجيبة بطارياتٍ، وهي تشحنني بسماواتٍ أعلى من السماء التي تعلو جبل القرية.

لا زلت أحب يوم الأربعاء، كان يومي المفضل في الأسبوع، فيه "ساعة أم كلثوم" في الإذاعة الوطنية، يوم كانت تخصص ساعاتٍ للكواكب، وكنتُ "أعمل حسابي" في الحالات كلها، حتى لا أترك سبباً قد يحول بيني وبين ساعة التحليق. أسوق الشياه بعناية للحلب، أراجع دروسي على قنديل الغاز، أضع إناء الماء عند رأس أبي. في الحقيقة كنت أطمئن على أنه نام، حتى أنساه وأتحول إلى أذن تسمع الست.

"هو صحيح الهوى غلاب؟ ما عرفش أنا"، عبارة تزامنت ذات أربعاء بعبارة لأبي "أغلق البُسْط". أقنعتُ نفسي بأني لم أسمعها فصدقتني، تكررت العبارة المشؤومة، فأقنعتها بأنه يقولها في المنام فصدقتني، لكن نفسي لم تصدقني حين أمسك بي الرجل من رجلي، ملفوفاً في الغطاء، كانت طريقة لكتم صوت البسط، ورمى يده الأخرى إلى رأسي، حملني بين ذراعيه، ورماني خارج الغرفة. لستُ أبالغ حين أقول إنني كنت مهموماً بألاّ يُكسر البسط، أكثر من همي على رأسي. بقي البسط سليماً، لكنه بقي شهراً من غير بطارياتٍ، لأنها حُجزت، ولم يُسمح لي بشراء أخرى.

حين انتقلت إلى الدراسة في مدينة "برج بوعريريج"، وفق النظام الداخلي عام 1993، كان البُسْط أول ما فكرت فيه، وأنا ألمّ ما يرافقني من الأشياء. ما أن تُجهض الأضواء، بأمر من حارس المرقد الجماعي، حتى أتكوم في الغطاء وأصير أذناً. صرتُ في إحدى الليالي خدّأ، لأن أحدهم صاح "خلينا نرقدو". خرج الحارس من مقصورته، سأل عن الأمر فأخبره الفتى بأن مذياعي يزعجهم، استنزلني من السرير، وهوى علي بصفعة أنستني في بقية الجوارح.

"حب إيه اللي نت جاي تقول عليه؟"، حب سعادٍ يا ست، كانت زميلتي في القسم وفي الفرقة المسرحية التي أسستُها في الإعدادية. في البداية كنت أبادلها النظرات، ثم صرت أبادلها المشاعر، حين غنت لنا أغنيتك "على بلد المحبوب". كانت تغني لي، وكنت أنظر إليهم لأقول لهم بعيوني وقلبي "هذه حبيبتي". وجدتُ منديلاً جميلاً عند أمي، فاختلسته ونويته لسعاد، حتى تحمله في يدها وهي تحلق بأغانيك، طلبت منها أن تتبعني إلى فضاء خلفي، وبينما أنا أعطيها المنديل، هزتني صرخة المراقب العام، ثم هزتني صفعته التي زرعت في خدي مليون نملة.

هل تسامحينني مسبقاً يا ست، فأعترف لك بأمر محزن؟ كان يوم ثلاثاء من عام 1994، وكنت غارقاً في شريط يبعث "الأطلال"، تحرّرت في تلك الفترة من مضايقات أبي، لكنني لم أتحرّر من مضايقات الإرهابيين. اقتحموا "الحوش" فجأة، طلبوا من أبي أن يعطيهم بندقية صيده، وطلبوا مني أن أهشم أشرطتك. لا يسمح لي المقام بأن أحكي لك عن التضحيات التي بذلتها من أجل الحصول عليها، كنت أزهد في شراء سروال، ولا أزهد في شراء الكتب وأشرطتك.

طبعاً رفضت الفكرة، وطبعاً صفعوني وركلوني، وطبعاً استجبت لتوسلات أمي بأن أستجيب لهم، حتى أبقى على قيد الحياة، وطبعاً كسرتُ الأشرطة، هنا سأخلّ بكوني روائياً، وأتجاوز الحديث عن إحساسي حينها، كانت سبعة عشر شريطاً، وطبعاً كان أول أمر فكرت فيه بعد أن غادروا، هو الانتقام منهم بتعويض ما كسرت. امتدت عيناي الدامعتان إلى خاتم أمي.

(الجزائر)

دلالات

المساهمون