عبد القادر بشته.. النمذجة وسجالاتها

عبد القادر بشته.. النمذجة وسجالاتها

17 نوفمبر 2016
من المحاضرة، عبد القادر بشته، تصوير: مهدي مستوري
+ الخط -

لم يجر بعد تداول مصطلح/ مفهوم النمذجة في الفضاءين الفكري والعلمي في العالم العربي، رغم أنها تمثّل اليوم، ومنذ ثلاثة عقود على الأقل، ما يشبه الموضة التي ينضوي تحتها الكثير من العلماء والمفكرين من مجالات معرفية متعدّدة ويتبنّون مقولاتها.

حول النمذجة، حاضر الإبستيمولوجي التونسي عبد القادر بشته (1945)، من منطلق اختصاصه باعتباره نقطة التقاء بين الفلسفة والعلم، يوم الجمعة الماضي في "النادي الثقافي الطاهر الحداد" في تونس العاصمة، علماً أنها كانت موضوع كتبه الثلاثة الأخيرة؛ "رونيه توم والنمذجة العلمية" (منشورات "لارماتون"، باريس 2013، بالفرنسية) و"النمذجة العلمية وأسسها.. تارسكي وتوم واتكنز ولوغاي" (الدار التونسية للكتاب"، تونس 2015، بالعربية) و"النمذجة العلمية.. دراسة في فكر رونيه توم" (نفس الناشر، 2016، بالفرنسية).

قدّم المحاضرة الكاتب والباحث محمد صالح العياري الذي وضع النمذجة في إطارها التاريخي، ليطرح بعدها سؤال "هل النمذجة ثورة علمية؟" وهو ما تجيب عليه المحاضرة.

يرى بشته أن ما دفع إلى ظهور النمذجة هو شعور بأن الواقع صار على درجة كبيرة من التعقّد بحيث إن اختزاله كما تقول بذلك المدرسة الديكارتية بات مستحيلاً، من هنا فكّر العلماء في البحث عن طريقة تناول جديدة للظواهر سرعان ما التفّ حولهم فلاسفة (إبستيمولوجيون) لوضع إطار منهجي للنمذجة، بحيث تجري إعادة بناء المسائل المطروحة للدرس من خلال نماذج نابعة من الواقع.

يذكّر صاحب "الفكر العلمي والحضارة العربية الإسلامية" أن العلوم مليئة بالتبسيطات التي أدّت إلى تحريف الحقيقة. هكذا تأسّست النمذجة كتيار مضاد للديكارتية في سبعينيات القرن الماضي وأنتجت بحسب بشته مدرستين؛ الأولى هي النسقية البنائية والتي تشتغل بالأساس ضمن العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية، ومن أبرز أعلامها إدغار موران وجان لوي لومواني، والثانية تتمظهر في الأساس في الرياضيات وتعتبر ركيزتها نظرية الكوارث لـ رونيه توم.

جميع هؤلاء قالوا بأنه يمكن ممارسة العلم خارج الديكارتية، حتى أن توم كان يرى أن "التحليل (ركيزة الديكارتية) يُميت ما يريد فهمه". هذا الموقف يفسّره بشته من داخل العلم الرياضي لأن توم كان متخصّصاً في الطوبولوجيا وبالتالي كان مضاداً للتحليل (كمنهج وخصوصاً كاختصاص رياضي).

يعود صاحب كتاب "النسبية بين العلم والفلسفة" بعد ذلك إلى السؤال الرئيسي، معتبراً أن النمذجة، رغم أهمية ما قدّمته، لا تمثّل ثورة علمية، بل إنها بحسبه قد جعلت من الديكارتية التي تحاول تقويضها سنداً لها، فـ "النموذج هو بطبعه نوع من التبسيط والتجريد".

من جانب آخر، يقول "بالنسبة إليّ، النمذجة أمر فطري لدى الإنسان، وبالتالي فهي متجذّرة في التاريخ الإنساني ونحن ننمذج باستمرار"، أي إنه جرى استلهام النمذجة الفطرية في نظريةٍ علمية، وأن هؤلاء العلماء والمفكرين لم يقوموا سوى بإظهارها على المستوى المصطلحي وبناء منهجياتها. ليختم بالقول "لذا فالنمذجة ليست ثورة من حيث المبدأ".

رغم هذا الموقف، يحرص الإبستيمولوجي على الاشتغال عليها، كما يظهر ذلك من مؤلفاته الأخيرة، وهو يقول أنه التفت إلى هذا البحث دون آراء مسبّقة في وقت رأى فيه أنه من الضروري استقدام هذا الفكر الجديد إلى الفضاء العربي، مشيراً إلى أن القول النقدي بأنها ليست ثورة علمية لا ينفي أن النمذجة حققت نتائج في مجالات العلوم الاجتماعية والألسنية لم يحلّها المنهج الديكارتي.

المشكل بالنسبة لبشته هو اصطناع الخلاف بين المذاهب الإبستيمولوجية في حين أنه يمكن التعايش بينها، مؤكداً أنه من دون هذا الفكر النقدي سيجري استقدام النمذجة إلى الفضاء العربي بطريقة شكلية، وهو ما يلاحظه في تخصّصات علمية في الجامعات العربية اليوم.

المساهمون