لا مدينة لاسمي

لا مدينة لاسمي

06 مايو 2014
الدير الجواني، كوبر / تصوير: آثر البرغوثي
+ الخط -

تفاصيل، تفاصيل، تفاصيل. وكأنَّ كلَّ فقاعة صابون كون. وأسهر، محدِّقاً في الباب المفتوح على ممرٍّ خال في الطابق الثاني، مضاء إضاءة حمراء شاحبة، فيطلُّ من الباب عجوز من الجنوب، بعباءة سوداء، وسروال كبير، وعلى ذقنه وشم، بعقال ثقيل وكوفية فظة، وكأنَّه قفز من فيلم عن الفنِّ البدائي، وفي يده قنينة من "حليب النوق". كنت رأيته في اليوم نفسه، عصراً. وقف في الباب، عندها، وقال لي إنّ خير علاج للسرطان "حليب نوق من سيناء!". "ومن أين لي بحليب نوق من سيناء؟ لم أذقه ولا مرَّة في حياتي، وبالكاد أصادف ناقة في نصف قرن". "حليب النوق فقاعة صابون"، هكذا قال، وضحك، دكتور الأورام: "ولا كلّ حليب النوق في الربع الخالي يجدي فتيلا!". نعم، ولكن الإرادة تبحث عن حلٍّ ولو في فقاعة. "ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل". فقاعة، نعم، ولكنها توقظ الأمل، ولو إلى حين.

والآن أتى بقنينة حليب من الجنوب، من "تقوع". فوجئت من كرم روحه. فمن أنا له حتى يأتي بحليب نوق من الجنوب، وكيف أتى به؟ وشربت أملاً حامضاً، أبيض، واستفرغت كلَّ ما في باطني.

كنت أعتقد بأننَّي سأموت، في خلال سنة أو سنتين، عندما مرضت، ولا بيت لزوجتي وابني بعدي. وبدأت أحلم ببناء بيت بسيط لهما في الريف: حوله تراب أحمر، وسياج من خشب ناشف، وحديقة صغيرة. وأزرع بصلاً، وثوماً، ونعناعاً، وبندورة، وليمونة. وفي الربيع، في صباح بارد، والندى فوق العشب، في أول الصبح، أنهض وأقطف بصلاً، وثوماً، ونعناعاً، وليموناً، وأصنع بيدي صحن "سلطة" لآثر وبترا، أصنعه بيدي أنا، هذا شرط. كلُّ الفكرة هنا. ثم أوقظ آثر وأمه، ونقعد على طاولة خشب بدائية، أو في فيء زيتونة، ونأكل معاً، هذا سيكون احتفالي بالحياة: صحن سلطة. 

"لأوَّل مرة أخرجوني إلى باحة السجن،

فاتكأت تحت الشمس على الجدار،

تعجبت لأنَّ السماء زرقاء إلى هذا الحدِّ، وبعيدة عني إلى هذا الحدِّ، أيضاً".

هكذا قال ناظم حكمت. التفاصيل هي السرَّ، التفاصيل الآن، لا ما مضى أو سوف يأتي، بل صحن سلطة، وقفة تحت سماء زرقاء إلى هذا الحد، قطَّة تلعق مخالبها قربي، وآثر يلعب بالتراب. هذا هو كلُّ ما أريد. هل تصغر الأحلام إلى هذا الحد، أيضاً؟

السرطان رسَّام  يجعل التفاصيل الصغيرة "مرئية"، والحياة نفسها فن. وما هي إن لم تكن فنَّاً؟

*

قال دكتور الأورام السرطانية في "مركز الأمل" ، بعد شهر من الفحوصات : "الفحوصات انتهت، أخبار جيدة. لم يرجع السرطان. أنت معافى. لكن هناك ورم مساحته (22) سم مربَّع في الفلقة اليسرى من الرئة. سنعالجه بالكرتزون. لا حاجة لمستشفى، تستطيع العودة إلى ..." ولم يكمل، قلت: "إلى جنائن اللوز".

كتب الدواء. ضحكت وقلت في نفسي: "لم يرجع السرطان، لأنني الآن لست أنا، إنني أرجع طفلاً، والسرطان أصاب شخصاً يائساً، طاعناً في السنِّ، في داخلي، شخصاً آخر لا وجه شبه بيني وبينه".

خرجت من المركز ضاحكاً، وأوَّل ما فعلته هو الوقوف بين ظلال الصنوبر قرب مستشفى الجامعة الأردنية. وكما قال حكماء الشرق المقدَّسون: إن كنت تقف في داخل نفسك في المكان الصحيح، فحيث تقف هو المكان الصحيح.

كنت أحتاج السفر، ولمدَّة طويلة، على ظهر ناقة، مثلاً، أو في سيَّارة، أو قارب، لكي أرى أمكنة كثيرة أُخرى تمحو من ذاكرتي "دهاليز المستشفيات"، ومن أنفي رائحة الأدوية.

ووجدتني بعد يومين أمشي على شاطئ البحر الأحمر، ليلاً، مع آثر وبترا وصديق لنا دعانا إلى هناك. الزبد في الليل يشبه الفضَّة، والبحر داكن، وهدير يأتي من تحت البحر، ومن اليمين والشمال، من قريب ومن بعيد، وأمشي، أمشي، ويغسل الهدير كلَّ ذاكرتي، لا دهاليز تقود إلى غرف عمليات، لا إبر، ولا مستشفيات ولا حليب نوق، لا رائحة أدوية، أنسى، أريد أن أنسى، والبحر يغسل ذهني، وبالكاد يكفي كلَّ هذا الزبد والهدير لكي يغسل ذهني، بالكاد. وأمشي صامتاً، والهواء البارد يتشعَّب في رئتيَّ، ولا أشعر بضيق التنفس. قدماي حافيتان في الرمل، وأمشي، إلى الأبد. لا أريد الآن شيئاً غير الآن. بالكاد عندي وقت إلاَّ كي أشعر بالهدير يغسل قاع ذهني، ولا شيء هناك سوى الهدير.

في اليوم التالي، دعانا ذات الصديق إلى زيارة لمدينة البتراء. والبتراء مذهلة. كنت أحلم بها من عقود. اسم زوجتي، أصلاً، إيمان، وسميَّتها "بترا، المدينة الوردية".

كانت لذَّة خالصة أن أرى "بترا" الآن تدخل في مدينة اسمها، وبدت شبه ملكة على عربة تجرها خيول الأنباط القديمة في مدينة الورد. وأنا من أنا؟ سائق عربة عربيد "يقهقه لأنَّه لم يخسر اللعبة، بعد"، ويطوف ببترا في مدينة اسمها؟

مدينة منحوتة في صخر مذهل الألوان. إن كان عبدة النار يطمحون إلى الحركة والطاقة، فنحاتو هذه المدينة حفروا إرادتهم في الصخر عبادة للجمال والثبات، مع إخوتهم، بناة الأهرامات، ومن اكتشفوا فنَّ تحنيط المومياوات. وبين النار وبتراء، أو بين النار والمومياء، تتحرَّك الروح فينا كلنَّا. إن ملنا إلى النار صار كلَّ ثبات وهماً، وإن ملنا إلى البتراء صارت كلُّ حركة وهماً. كلُّ الفنِّ التشكيلي، مثلاً، يتحرَّك بين حركة النار وبين ثبات الأهرامات، أو البتراء. وما هو الخوف من الموت إن لم يكن خوفاً من "التغيُّر"، أي من قلق النار فيناً جميعاً؟

بترا في مدينة اسمها؟

أمَّا اسمي، حسين، فلا مدينة لـه. دائماً كنت أشعر أن لا صلة له حتى بي، أبداً، ولا مدينة لـه. ويشبه، في علاقته بي، قصَّة "اسمي وأنا"، لتشيخوف. ومن الطريف اسم "برغوثي" نفسه، أيُّ أُفق يخلقه اسم كهذا، أيَّة مدينة يمكن أن توجد لـ "برغوث"؟ عندما تزوَّجتُ بترا سألتني: لماذا سمُّوكم "براغثة"؟ قلت لها ضاحكاً: "نسبة إلى الأسود!".

أمَّا اسم أبي، "جميل"، فاسم جميل، ولكنَّه سائد إلى حدِّ الملل، فالاسم كالمدن: له مواطنوه، ويوحي بـ"مشترك" ما، بين من يحملون الاسم نفسه، أكثر مما هو موجود في الواقع. كل اسمي خطأ. ليس عبثاً أننَّي لم أدر بماذا أسمِّي ابني، آثر، قبل ولادته.

فكرت في أن أسميِّه "لوركا". "لا، لا"، قال الرَّسام إبراهيم المزين: "سيهيمن عليه اسم لوركا في طوال حياته، وسيرجعه دائماً إلى إسبانيا". ولم لا؟

فكّرت بأن أسميه "المعتمد" (نسبة إلى المعتمد بن عباد) الشاعر - الأمير في الأندلس الذي تزوَّج من امرأة غريبة الأطوار: مرَّة وقفت في شبَّاك القصر، وقالت له بأنَّها تحبُّ رؤية ثلوج في الربيع، في الجبال، هناك!  فزرع لها الجبال باللوز، كي يبدو نواره في الربيع ثلوجاً بيضاء.

والمعتمد قصة. مرَّة طلبت منه بناته أن يمشين في الوحل، كالفلاحين، فمزج مسكاً وكافوراً في ردهات القصر ومشين حافيات فيه. ولمَّا فقد ملكه، وانتهى في "سجن أغمات مأسوراً"، تحسرَّ لأنَّ بناته:

"يطأن في الطينِ، والأقدامُ حافيةٌ،

                                كأنَّها لم تطأ مسكاً وكافورا".

وبدأ الأمير الشاعر يدين الحياة:

"من عاش بعدك في مُلكٍ يسُّر به

                               فإنَّما عاشَ بالأحلام مغرورا"

ولا أريدُ مدينة اسم ابني أن تكون مدينة رغبات خاسرة، وأمراء خاسرين، كالمعتمد. وارتبكت تماماً، حتى جاءني صوت من الغيب في حلمي يهتف بي أن سمه: آثر، آثر، آثر! أي لست أنا الذي سميَّته، ولست أدري، بالتالي، ما هي مدينة اسمه. ولا أحد له اسم كهذا ولا مدينة غامضة كهذه، لا يعلم بها إلاَّ الله.. لعلَّ هذا ما دفعني إلى أن أقرأ رواية "مدن الخيال" لإيتالو كالفينو.

وتخيَّلت بأننَّي سأذهب إلى "الدير الجوَّاني" بحثاً عن "مدينة لاسمي"، يمكن أن أسميِّها "قدورة"، مدينة قدورة! وهي من "مدن الخيال"، وشوارعها من حكايات. وأستطيع أن أبنيها بشفاهي، وشفاه أُمِّيِ، وأن أنقلها إلى أيَّة شفاه تحبُّ أن "تحكي قصصاً". مدينة من هباء:

"إنت من وين؟ 

أنا من بلد الحكايات".



 
* مقطع من "سأكون بين اللوز" [بيت الشعر الفلسطيني، الطبعة الأولى 2004]

المساهمون