سامي محمّد.. الرحيل إلى الحافة

سامي محمّد.. الرحيل إلى الحافة

02 ابريل 2019
(من المعرض، العربي الجديد)
+ الخط -

بدأت قاعات "منصة الفن المعاصر" في الكويت تشهد بدءاً من السادس والعشرين من مارس/ آذار المنقضي عرضاً لأحدث تجارب الفنان سامي محمد، يستمر لمدة شهر كامل. وكما هي عادة هذا الرسام والنحات الكويتي خلال رحلته الطويلة مع الفن التي تقارب نصف قرن، وضع عنواناً جامعاً لهذه التجربة بكلمة واحدة هي "الرحيل".

وفي ضوء ما تشير إليه عناوين لوحاته الكبيرة الحجم، مثل "شهيد المقاومة" و"شهيد رقم 3" و"مأساة الرحيل" و"في طرق الرحيل" و"هروب من الرحيل".. إلخ، وتكوينات الشخوص الشبحية بتفاصيلها الإنسانية على أرضية لون قاتم، تتعدد دلالات كلمة الرحيل، فيصبح رحيلاً عن الأمكنة، أو تهجيراً، أو نفياً، أو رحيلاً إلى العالم الآخر، بالمعنى الوجودي والسياسي.

وتضيف إليه ما يسميها الفنان "الأربطة" معنى الرحيل من عالم فني إلى آخر؛ من التشخيص والتركيز على الجسد الإنساني، إلى الوقوف عند حافة التجريد ممثلة بهذه الأربطة التي تتقاطع بألوان متنوعة بين الأحمر والأزرق والأسود والأبيض على امتداد مساحة غالبية لوحاته.

إنه يسعى إلى ما وراء المشخص الواقعي بعدما قضى زمناً طويلاً في عالمه، إلى ما هو جوهري يتعلّق بالقيم التي كانت مدار تكويناته رسماً ونحتاً؛ الحرية والتمرد على القيود من أي نوع كانت، وإدانة القمع والاضطهاد والمحو، وأخيراً ما يمكن أن نسميه نشيد المشردين بغنائية لونية بدأت ملامح الشخوص فيها بالتلاشي والغياب ليحل محلها الرمز، رمز القيود، حين لم تعد هناك كما يبدو حاجة لقول ما لا لزوم له في عالم اتضح فيه كل شيء، أي الفرق بين الحرية والعبودية، بين السجين والسجان، بين الضحية والمتسلط، بين اللونين الأسود والأبيض، ولم يعد الرمادي إلا جزءاً من عالم آفل.

عن هذه التجربة، لدى الفنان ما يقوله ويبديه بحرص ومحبة لزائري معرضه، رابطاً بين مراحله الفنية، أو عناوين مراحله، وصولاً إلى اللحظة الراهنة. يقول وهو يتطلع إلى فضاء لوحاته، وزمنه، وتنقلاته: "مررتُ خلال رحلتي الطويلة مع الفن بخبرات وتجارب عديدة... تجربة مرحلة (المنحنيات)، و(السدو) و(الصناديق) و(المكبلين) و(الرماديات) و(الإنسانيات) و(اللون الأزرق). وتنوعت خبراتي بعد ذلك.. إلى أن استوقفتني تجربة أطلقت عليها (تجربة الأربطة).. هذه التجربة (الحالية) حاولتُ أن تكون وثيقة الصلة بتجاربي الفنية السابقة، فهي تتناول الإنسان والقيم الإنسانية كما أغلب المراحل الفنية التي قدمتها من قبل، لكنها هنا تتم بطريقة مختلفة بحيث تتكون خلفية اللوحة من مساحة لونية واحدة أو أكثر، ثم تأتي الأربطة على اللوحة وبألوان مختلفة، بحيث تمثل الأشرطة، مع الألوان، الرموز التي ترمز إما إلى الخير أو إلى الشر".

الأفكار أو القيم هي المحور منذ البدايات الأولى، وليس الكتلة أو اللون والخط. وهذا ما أكد عليه الفنان ذات يوم في حوار معه أشار فيه إلى أن الفكرة عنده هي الأساس وليس الكتلة، فهذه الأخيرة مقدور عليها لأنه مسيطر عليها بإمكانياته. وأقام آنذاك تماثلاً بينه وبين الشاعر، فقال ".. مثلي مثل الشاعر، حين يكتب قصيدة تجد كل أعصابه وذهنه وخياله مشدوداً إلى كيف يؤديها. هو لا يخضع للكلمات ولا يعمل من أجلها، هي موجودة لديه سلفاً، هي مخزونه الذي عليه أن يأخذ منه ويستخدمه مع التفتيش عن الكلمة المناسبة".

تهيمن على معارض الفنان الكويتي "قضية الإنسان ومعاناته"، حسب توصيفه، وكانت في ذهنه ومحل أعماله منذ البداية، إلا أنها لم تتأكد وتظهر إلى العيان إلا في ثمانينيات القرن العشرين حين قدم الأعمال النحتية التي دعاها "الصناديق"، حيث الإنسان المسحوق والسجين والصارخ. ومنذ ذلك الوقت جعل هذه القضية قضيته. صحيح أنه نحت ورسم أعمالاً كثيرة موضوعاتها الأمومة وما شابه، ومنها أعمال جمالية كان للكتلة فيها سيطرة، وهو ما يحدث مع الكثير من الفنانين الذين لا يهمهم ماذا يكون عليه العمل الفني، بقدر ما تهمهم جماليات العمل، إلا أن البارز في أعماله ظل هذه القضية: الإنسان ومعاناته مع قوى الاضطهاد والظلم والتعتيم.

ولم يغادره هذا الهم، ولا غادره أسلوب البدء من الفكرة لا الكتلة، طوال السنوات الماضية، ما يجعل مشاهدي أعماله يلحظون تماثلاً في الموضوعات على الرغم من تعدد المراحل الفنية لديه، إلا أن ما يميز مرحلة عن أخرى هو اختلاف التناول في كل مرة.

فكل مرحلة تبدو، من ناحية تقانية وفكرية، واعدة بجديد سيليها. ولئن تميزت مراحله السابقة ببروز نزعته النحتية حتى في الرسم والتصوير، أي التشخيص، وخاصة التركيز على الجسد الإنساني في محاولاته تجسيد، بل وتجسيم، مشاعر المضطهدين والسجناء والمتمردين توقاً للحرية وتحطيم القيود، فها هي المرحلة الراهنة تضيف وتطوّر، وترحل في ضوء عذابات الترحيل والإقصاء والتشريد والقتل، إلى التجريد الكامل بعدما استنفدت مراحل التشخيص إمكانياتها لديه كما يبدو.

هنا تتبدى مهارة في التلوين، وحتى التشخيص الظاهر بشكله الشبحي وكأنه مائل إلى الزوال، وتضيف "الأربطة" التي كانت حبالاً وقيوداً في تجاربه السابقة، عنصراً جديداً، وكأن الفنان بتخلصه من نزعة تشخيص الجسد الإنساني المقيد، يبقى على القيود في الفضاء، القيود التي يأمل أن تظل حاملة للدلالة على فنه هو بالذات، وكأنها علامة تميز أعماله.

هناك صعوبة في الانتقال من هذه المرحلة، حيث لا تزال التكوينات المبسطة والأشباح تشغل فضاء اللوحة، إلى مرحلة يتخلى فيها الفنان عن شخوصه وسماتها الواقعية الحداثية المستمدة في الأصل من واقعية النحت الحديث كما تطوّرت على يد النحات الفرنسي أوغست رودان في ضوء حطام وبقايا التماثيل اليونانية، ولا تبقى بين يديه إلا الأربطة أو الأشرطة التي سيمارس بها "النحت تجريدياً" أو "الرسم والتلوين تجريدياً". إلى أي مدى يمكن أن ينجح الفنان، ويجعل تجربته مقنعة مثلما كانت في المراحل السابقة؟ يظل سؤالاً معلقاً.

ولئن اكتسبت "قضية الإنسان ومعاناته" قوتها وتأثيرها من الوسيط التشخيصي كما تشير أعماله السابقة، فهل يمكن أن يكسبها الاتجاه إلى التجريد قوة مماثلة؟ صحيح أن هاهنا رغبة في الإبقاء على ما هو أساسي وجوهري، واستغناء عن كل ما لا لزوم له، ولكن يظل السؤال قائماً: ما هو هذا الأساسي والجوهري في التشكيل الجديد؟ وكيف سيتمكن الفنان من تجسيده باللون والخط فقط بلا تشخيص وتوصيله بكامل قوته ودلالاته إلى أذهان روّاد معارضه؟

دلالات

المساهمون