رهاب التربية العسكرية

رهاب التربية العسكرية

27 أكتوبر 2014
أسامة دياب / فلسطين
+ الخط -

"أكادُ لا أنسى مدرّب الفتوة (التربية العسكرية) في المرحلة الثانوية"، يقول زميلي مدرس اللغة الإنجليزية ورفيقي في "اتحاد شبيبة الثورة" فيما مضى، عندما كنّا نتشبّع بالبعث ونتشرّب أفكاره كخرقة أو كإسفنجة، حين كنا أقل من مراهقين وأكبر من صبيان يخافون العتمة، ومدرب الفتوة وحصة الرياضيات التي تبدو لنا وكأنها رسم على الهواء والماء.

يقولُ المدرس، بما يشبه النكتة وبخجل خفيف: "مدرّب الفتوة الذي زحفت أمامه وأنا طالب هو زميلي اليوم، نجلس في الإدارة، نشرب الشاي معاً، نتبادل النكات والسجائر، هو يذهب إلى الباحة ليمارس هوايته المفضلة ويسميها الفعل المقدس: الزحف وتركيع الرفاق الجدد، جنود المستقبل و"سدنة العرين"، ليرفدوا "الجيش العقائدي" وتكون لهم حصة من شرف تحرير الأرض العربية المغتصبة وفي مقدمتها فلسطين".

ويقول أيضاً: "عندما كنا طلاباً ويتم إفهامنا بـ"الصرماية" أن فلسطين هي قضية العرب المركزية، صرنا معلمين وبقيت القضية على حالها، حتى ظنَّ كل واحد منا، أن تحرير قلب الوطن العربي من الصهاينة مناط به وحده، تيُمناً ببيت لطرفة بن العبد "إذا القوم قالوا من فتى"، كل هذا من غير أن تتراجع إسرائيل شبراً واحداً، ومن غير أن تتقدم القوات العربية شبراً واحداً، ما عدا بعض التحيات بين جنود إسرائيليين وآخرين سوريين على شكل معلبات مربى ومرتديلا (خالية من دهن الخنزير)".

يقول مدرس اللغة: "كلّما صرخ مدرّب الفتوة على جنود المستقبل في الممر الذي يفضي إلى الغرف الصفية وأمرهم بالانبطاح، أرمي سيجارتي بعيداً وأنبطح مع من انبطح، أنسى المدرس ويستيقظ فيَّ الطالب الذي كنت، الصغير والخائف والذي يصدق أن فلسطين قضية العرب المركزية وأن الجيش العربي السوري، سيحرر الأرض والعرض، وسيدُكّ تل أبيب، وسيجلب لنا "اليهوديات" سبايا، واليهود عبيداً وسَخرة. مضى الكثير من الوقت، اهترأت ملابسي من الزحف حينَ كنت طالباً يخاف العتمة والمدرب وحصة الرياضيات، واهترأت وأنا أنتظر "غودو العرب".

مدربُ الفتوة قال: "نحن نعدّك للمستقبل، لتكون رجلاً وتحمل السلاح، وتصوب رصاصتك إلى عين العدو، رغبتي ليست رؤيتك زاحفاً وعبداً لمقولة وطن، بل عليك أن تكون عبد الوطن قبل أن تكون عبد الله. يستيقظ المؤمن داخل مدرب الفتوة فيضيف: "الجهاد عبادة، حملك للسلاح والذود عن الحدود، يماثل الذهاب إلى بيت الله. وغداً، عندما تصبح مقاتلاً شرساً، تشرب من المياه الآسنة وتُقطّع الحيوانات المفترسة بأسنانك، ستعرف فضلي عليك، وما زحفك اليوم إلا رياضة نفسية وجسدية". في الجيش ستسمع: "ليس لك إلا الرياضة"، وسيستشهد مدرب الفتوة بمأثور "الأب الخالد": "إني أرى في الرياضة حياة ".

أدلف إلى غرفة الصف، وأبدأ بـ good morning، يردّ الطلاب الذين يشبهونني آنذاك؛ الخائفين من مدير المدرسة ومدرب الفتوة ومدرس الرياضة والموجه وأمين الوحدة الشبيبية وأمين الحلقة الحزبية. كان الخوف درجات، يرتبط بقرب هؤلاء من فرع الأمن ومدى قوته، إذ من المعلوم أن الأقوى هو الأمن العسكري الذي كان يمثله مدرب الفتوة.

"الخط الناعم" دلالة على العمالة، وتكفي بضعة أسطر لتجعل أحداً ما من لحم ودم خبراً لكان، هكذا يتحول في سوريا الإنسان من كائن حي إلى جملة اسمية، وقد يكون مدرس اللغة العربية والمولع بـ"حتى" وأخوات كان هو الخبر المفقود، فيما لو يعرف قصيدة مطلعها "أمدُّ إليك من آخر الدنيا يدي/ ريانة بالشذى يا حافظ الأسد"، ولم يقلها بمناسبة وغير مناسبة.

مدرس اللغة الإنكليزية قال لي: "لا أثق بالثورات، بل أثق بنفسي. أنا خائف من ظلي ومن الجدار. وقال: "وجود مدرب الفتوة عميل الأمن العسكري، والداخل في منافسة مع زملائه الذين يخطبون ودَّ الأفرع الأخرى إلى الأبد، يعني أن أزحف إلى الأبد. وقال أيضاً: "المدرس الذي أنا، لم ينتصر على الطالب الخائف الذي كنت، تعاركا وانتصرا أخيراً؛ مدرب الفتوة وفرع الأمن العسكري، وتحولَّ محمد منصورة (أشهر مسؤول أمني عن منطقة الجزيرة السورية) من ضابط كبير إلى أسطورة، ولا قدرة لي على مجابهة الأساطير". 

بعد سنوات رأيت مدرس اللغة الإنكليزية بالقرب من جسر على نهر جاف في الحسكة، يدفعُ عربة عليها مكسرّات وسكاكر وبالونات، صحتُ به، مُطلقاً الأمر العسكري: منبطحاً!

لكنه لم ينبطح ولم يلتفت إلى الخلف كعادته كلما صاح به مدرب الفتوة.

 

* شاعر من سوريا 

المساهمون